الرحلة الورثيلانية
المجلد الأول
الحمد لله الذي جعل الرحلة لبيته الحرام من قواعد الإسلام ، وأمر بالسفر في البرور والبحور ، فقال الله عز وجل (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ). وجاء في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال : «سافروا تصحوا وتغنموا». والصلاة والسلام على خير الأنام سيدنا ومولانا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه والذين جابوا البسيطة من المغرب الأقصى إلى بلاد الصين.
أما بعد فالرحلة الورثيلانية الموسومة بنزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار للإمام العلامة والأستاذ الفهامة الشريف النوراني الشيخ الحسين ابن محمد الورثيلاني نسبة إلى بني ورثيلان قبيلة قرب بجاية. أنفس تصنيف رصعت جواهره في وطن الجزائر. وأعلق تأليف اشتهر بين البوادي والحواضر ؛ لاشتماله على عوارف المعارف ، وظرائف الطرائف ، وأوابد العوائد ، وفرائد الفوائد ، ونسق كالأوصاف الكاملة ، وحل المسائل الشاكلة تارة راتعا في رياض الفقه والحديث والتوحيد ، وتارة واردا حياض التفسير والتاريخ والتجويد ، وآونة طامحا إلى التصوف والنصح والوعظ. باذلا في ذلك كله غاية الجهد والنكظ. فاصلا جمانه بمرجان الحكايات الأنيقة ، ومرصعا وشاحه بياقوت الأشعار الرفيقة وغير ذلك مما هناك. ولما كان هذا التأليف الحسن الترصيف مطمح الأنفس ، وغاية التأنس ، أمر سمو الوالي العام بطبعه ، لتعميم نفعه.
وقد اعتمدنا في التصحيح على أربع نسخ :
1 ـ نسخة مخطوطة بخطوط مغربية مختلفة مقابلة على نسخة منقولة من مسودة
المؤلف مجموع صفحاتها 642 في كل صفحة من 21 إلى 32 سطرا وكل 33 كراسة غير مخيطة متخللة بأوراق مورقة طولها 271 مليمترا في عرض 210 مليمترا.
2 ـ نسخة مخطوطة بخطوط مغربية غالبها جميل مقابلة كالتي قبلها على مسودة المؤلف مجموع أوراقها 253 في كل صفحة 21 سطرا و 31 كراسة غير مخيطة متخللة أيضا بأوراق مورقة طولها 207 مليمتر في عرض 190 مليمترا وهي أصح النسخ وأقل بياضا.
3 ـ نسخة مخطوطة بخطوط مغربية غالبها غير جيد مؤرخة بيوم الجمعة الفاتح لشهر شعبان عام ألف وثلاثمائة وثلاثة عشر (1313) مجموع صفحاتها 640 في 37 كراسة غير مخيطة متخللة بأوراق مورقة في كل صفحة 20 سطرا وطولها 265 مليمترا في عرض 195 مليمترا.
4 ـ نسخة مطبوعة على الحجر في حاضرة تونس سنة 1321 بتصحيح الشيخ علي الشنوفي والشيخ الأمين الجريدي وهذه النسخة مشتملة على ثلاثة أجزاء في الأول 250 صفحة وفي الثاني 214 صفحة وفي الثالث 260 صفحة غير أنه يمكن أن تعتبر نسخة مخطوطة بخط مغربي كاد لا يقرأ في بعض المواضع لانطماس الحروف وتعثر القلم والتمجمج أو تفشي المداد وزيادة على ذلك لم ينبه في غير موضع عن البياض الموجود في الأصل.
هذا وقد بذلنا في التصحيح غاية الجهد مع أننا معترفون بأننا لم نبلغ منزلة تسمو عن النقد. ولا سيما كون الأصول التي راجعناها عند الطبع مختلفة الروايات مضطربة العبارات. وقد تعذر علينا كثيرا إصلاح التصحيف والتحريف بعد مراجعة عدة من التآليف. وما العصمة والكمال إلا لذي القدر والجلال.
محمد ابن أبي شنب
الحمد لله وجد مكتوبا في آخر صحيفة من رحلة الشيخ البركة سيدي الحسين الورثيلاني ما نصه :
يقول زابر هذه الأسطر الفقير إلى الله القدير ، عبد القادر بن محمد الصغير ، وفقه الله لما يحبه ويرضاه ، اعلم أيها الواقف أن مؤلف هذه الرحلة وجامعها هو مولانا وقدوتنا إلى الله تعالى المحقق الكامل ، العالم العامل ، العارف بالله تعالى أمام المحققين والمريدين ، ذو الرتبة الإلهية والعلوم الربانية ، والمنح الرحمانية ، المقتفي لكتاب الله تعالى والسنة المحمدية ، وهو الولي الصالح ، والعالم الرباني ، سيدي الحسين بن محمد السعيد الشريف الورثيلاني ، رحمه الله تعالى ونفعنا به كان إماما محققا بارعا في العلوم وتقفه حتى وصل الغاية في مذهب المالكية ، ولا سيما قد فتح الله عليه بالافتتاحات الربانية ، وله تصانيف عديدة ، وتآليف مفيدة.
منها شرحه على القدسية للإمام المحقق ، والفهامة المدقق ، سيدي عبد الرحمن الأخضري وهو شرح حسن إذ لم نعلم لها شرحا غيره.
ومنها شرحه على وسطى الإمام السنوسي.
ومنها شرحه أيضا على محصل المقاصد للإمام أبي العباس أحمد بن زكري التلمساني غير انه مات فيه قبل تمامه.
وشرح أيضا خطبة شرح الصغرى للسنوسي.
وله حاشية جليلة على حاشية المحقق السكتاني التي وضعها على شرح السنوسي.
وقد وضع رسالة عجيبة على قول بعض الأولياء وقفت على ساحل وقفت الأنبياء دونه لعله أبو الحسن الشاذلي والله اعلم.
وله رسالة أخرى في بعض قول الأولياء نسجت برنسا من ماء وغطيت به من الأرض إلى السماء الخ.
ورأيت له حاشية على صغير الخرشي مزبورة على هوامش الشرح.
وقد شطر البردة.
والقصيدة التي للبوصيري أولها «يا رب صل على المختار من مضر» تشطيرا عجيبا بحيث لا تفرق بينه وبين الكلام الأصلي وغير ذلك من القصائد والتآليف والتقارير مما يطول تتبعه.
ولد رحمه الله تعالى على ما أخبرني به أبي عام خمسة وعشرين من الثاني عشر (1125) وتوفي على ما ذكره لي بعض تلاميذه في شهر رمضان عام ثلاثة وتسعين من القرن (1193) وبعضهم قال عام أربعة وتسعين فعلى هذا عاش المؤلف ثماني وستين أو تسعا وستين سنة انتهى.
هذا وقد ترجمه أيضا العلامة المحقق والفهامة المدقق الشيخ أبو القاسم محمد الحفناوي في القسم الثاني من كتابه الموسوم بتعريف الخلف برجال السلف المطبوع بالجزائر فقال هو الإمام العالم العامل العلامة الكامل الأستاذ الهمام شيخ مشايخ الإسلام الورع الزاهد الصالح العابد المتبع لأثر الرسول الجامع بين المعقول والمنقول بحر الحقائق وكنز الدقائق مفيد الطالبين ومربي السالكين وقدوة العلماء العاملين وبقية السلف الصالحين محيي السنة والطاعن في نحور مخالفيها بالأسنة نادرة الزمان
وبركة المسلمين في كل عصر وأوان الجامع بين العلمين والكامل في النسبتين حامل لواء الشريعة والحقيقة ومعدن السلوك والطريقة ذو التأليف المفيدة والتصانيف العديدة العالم الرباني والقطب الصمداني والشريف النوراني الشيخ سيدي الحسين الورثيلاني نسبة إلى بني ورثيلان قبيلة بالمغرب الأوسط قرب بجاية التابعة للجزائر كان رحمه الله مجاب الدعوة شديد السطوة لا تأخذه في الله لومة لائم ليله قائم ونهاره صائم.
تراه
يصلي ليله ونهاره |
|
يظل
كثير الذكر لله سائحا |
متعلقا برب الأرباب متوكلا على الكريم الوهاب قد استوى عنده الذهب والتراب فهو ممن ترك الجيفة للكلاب ورأى المصطفى في المنام فاحتضنه فأول ذلك بزهده في الدنيا والحطام ظهرت على يده الكرامات وخوارق العادات وشهد له أهل الصدق بالولاية الكبرى والمكاشفات ونصر الله به الدين وقطع به دابر الملحدين ولم يزل متضرعا لله في السر والنجوى يصدع بالحق ويقيم السنة صادق اللهجة واضح المحجة مستقيم الحجة قصد بيت الله مرارا وحجه طاهر الجنان رطب اللسان ناشط الأعضاء في العبادة والأركان.
حلف
الزمان ليأتين بمثله |
|
حنثت
يمينك يا زمان فكفر |
كان يرى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة ومناما رآه أكثر من ثلاثمائة مرة وفي بعضها قال له عند تعلقه به :
تضلع
من علم الشريعة بعد ما |
|
تضلع
من علم الحقيقة (1)
وتدرعا |
أخذ العلم عن والده وأشياخ وطنه ثم رحل إلى المشرق فحج واجتمع بالخضر
__________________
(1) هكذا بالأصل.
عليه السلام بمكة المشرفة واجتمع بالشيخ الهماق (1) صاحب الطريقة المشهورة بالمدينة المنورة ودخل مصر القاهرة فوجدها طافحة بالعلم والعلماء نيرة زاهرة فركع واستفاد واخذ العلوم العالية عن أولائك كالأسود والأسياد فممن أخذ عنه الصعيدي والحفناوي والجوهري والنفراوي والعفيفي والسيد البليدي والملوي والصباغ والعمروسي وخليل الأزهري وعمر الطحاوي والزياتي والأشبيلي وأبي القاسم الربيعي والهاشمي وابن شعيب الكردي والفيومي وأجازوه في العلمين ثم رجع من المشرق بعد أن امتلاء وطابه وفاض عبابه بعلم وأفاد وألف وأجاد ودعا إلى الله العباد وقهر الجهلة أهل التعصب والعناد فمن تأليفه الرحلة السنية التي سارت بها الركبان وقد دعا لناسخها ومالكها وناظرها فهي حصن حصين ودرع متين ومنها شرحه على المنظومة القدسية للشيخ عبد الرحمن الأخضري في التصوف وحاشية على الكستاني وكتاب المرادي وقصيدة فيها خمسمائة بيت في مدح النبي صلى الله عليه وسلم كالهمزية لكنها ميمية وشرح على خطبة الصغري ورسالة جوابا على قول بعضهم خضت بحرا وقفت الأنبياء بساحله ورسالة في حل اللغز الذي أرسله سيدي أحمد بن يوسف الملياني إلى علماء فاس فعجزوا عنه وأما وفاته رحمه الله فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه يعيش إلى السنة العاشرة من القرن الثالث عشر فتكون وفاته كما أخبر به الصادق المصدوق لأنه لا ينطق عن الهوى ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق ومن رآه فقد رأى الحق كما في صحيح البخاري اه.
__________________
(1) هكذا بالأصل.
نزهة الأنظار
في
فضل علم التاريخ والأخبار
المشهور بالرحلة الورثيلانية
للشيخ العالم الرباني والشريف النوراني
سيدي الحسين بن محمد الورثيلاني
قدّس سرّه
آمين
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
قال الشيخ الفقيه العالم الورع الزاهد شيخ الشريعة والحقيقة ، وإمام أهل الطريقة ، العالم الرباني ، والفقيه النوراني ، سيدي الحسين بن محمد السعيد الشريف الورثيلاني (1) رحمه الله تعالى ورضي عنه وأعاد علينا من بركاته وأفاض علينا من بحر أسراره وأنواره بمنه أمين.
الحمد لله الذي خلق الإنسان (2) أطوارا ، وجعل الشمس والقمر والنجوم أنوارا ، وسيرها من كون إلى كون بحيث تقطع أبراجا ليلا ونهارا ، فيا عجبا من رحلتها بسوق الأملاك إياها فهي أية النهار حقا مشهورا. خلق الإنسان (3) من نطفة أمشاج ليبتلي وجعل سمعيا بصيرا ، فبهدي إلى السبيل أما شاكرا وأما كفورا ، ثم كالأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ، عينا يشرب بها المقربون أعني زمزم وذات المحبوب يفجرونها بالشوق (4) تفجيرا ، نعم يوفون بما به كلفوا من المناسك وما به عرفوا من الحقائق تذكرا وتذكيرا ، يسمى (5) العهد القديم والنذورا ، ويخافون يوما كان شره مستطيرا ، ويطعمون الطعام في البر والبحر على حبه والرغبة فيه لقلته وغلائه جائعا وضريرا ، بحب وشوق وعشق في الله ونبيه ورضاهما لا يريدون جزاء ولا شكورا ، فوقاهم الله شر ذلك اليوم بسعيهم سعيا مقبولا مشكورا ، وتجارة لن تبورا ، ليوفيهم الله تعالى أجورهم ويزيدهم من فضله النظر إلى وجهه وقد حجوا
__________________
(1) في جميع النسخ الورتلاني.
(2) في نسختين للإنسان.
(3) في نسختين بإسقاط الإنسان.
(4) في نسخة بإسقاط بالشوق.
(5) في ثلاث نسخ سيما.
حجا مبرورا ، ولقاهم أيضا نظرة ورحمة وعزا ورفعة ومعرفة وزهدا وبصيرة وسرورا ، وجزاهم أيضا بما صبروا لتعب السفر ومشقته حرا وبردا وسقما (1) جنة وحريرا ، فلا يرون في ظل العرش عذابا أصلا ولا شمسا أيضا ولا زمهريرا ، فما أحسنها من رحلة وظعن من الخلق إلى الخلق وان إلى ربك المنتهى وسواه لم يكن شيئا مذكورا ، فسبحان من وفق (2) وخذل آخرين مع استوائهم في البشريات ألا له الخلق والأمر تبارك الله يقول للشيء أخسا فيكون مذموما مدحورا ، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم سرمدا دائما بكرة وأصيلا ليلا ونهارا ، وعلى آله وأصحابه أجمعين صلاة نحوز بها غدا حجابا عظيما من شر كل ذي شر مع لواء الحمد في حضرة القدس منشورا ، وذلك مع الأباء والأمهات والأزواج والذرية والأحبة وفي جنة الفردوس تكون قصورا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نشأت من صميم القلب وخلوص الاعتقاد خالية من الأمتراء تكون لنا يوم القيامة فوزا ونورا ، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله ونبيه وقريبه صلى الله عليه وسلم إذ كان مؤيدا منصورا.
وبعد فأني لما تعلق قلبي بتلك الرسوم والآثار ، والرباع (3) والقفار والديار ، والمعاطن والمياه والبساتين والأرياق والقرى والمزارع والأمصار ، والعلماء والفضلاء والنجباء والأدباء من كل مكان من الفقهاء والمحدثين والمفسرين الأخيار ، والأشياخ العارفين والأخوان والمحبين المحبوبين من المجاذيب المقربين والأبرار ، من المشرق إلى المغرب سيما أهل الصحو والمحو إذ ليس لهم من غير الله فرار ، أنشأت رحلة عظيمة يستعظمها البادي ، ويستحسنها الشادي ، فإنها تزهو
__________________
(1) في نسخة بإسقاط وسقما.
(2) في نسخة وفي.
(3) في نسختين والربع.
بمحاسنها عن كثير من كتب الأخبار مبينا فيها بعض الأحكام الغريبة والحكايات المستحسنة والغرائب العجيبة وبعض الأحكام الشرعية مع ما فيها من التصوف مما فتح به علي أو منقولا من الكتب المعتبرة سيما وان اعتمادي في ذلك على رحلة شيخنا وقدوتنا ومن على الله ثم عليه اعتمادنا سيدي أحمد بن [محمد بن] ناصر [الدرعي الجعفري (1)] هذا وأني أنقل أيضا من بعض كتب التاريخ كنبذة (2) المحتاجة في ذكر ملوك صنهاجة ومختصر الجمان في أخبار أهل الزمان (3) وكذا حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة وغيرهما (4) مما يناسب المحل جعله الله خالصا لوجهه وعملا متقبلا بين يديه وحصنا حصينا من كل بلاء دينا ودنيا لمؤلفه وناسخه ومالكه وناظره أمين يا رب العالمين وكذا قلت وعلى الله اعتمدت.
اعلم أيها الأخ لما أراد الله المشي منا إلى الحج وقد سبق في علم الله أن يكون حجنا في عام تسعة وتسعين ومائة وألف (1179) مع إجابة وتلبية للخليل عليه السلام حين قال له الله تعالى وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر من كل فج عميق الآية حدث لنا العزم بإذن الله تعالى.
وسببه أن الفاضل العالم الكامل الصالح أخانا في الله والمحب من أجله سيدي أحمد الطيب الزواوي نجل الولي الصالح سيدي محمد السعدي من بني العزيز من وطن بني منجلات قدم إلينا زائرا وواقفا علينا وطالع أحوالنا لعل الله يفرج ما بنا من الفتنة مع بعض المخذولين الخارجين عن طاعة الله ورسوله في الأحكام الشرعية بعد إعطاء البيعة والأذعان في جميع الأحكام الشرعية ونبذ العوائد الردية والبدع
__________________
(1) طبعت هذه الرحلة في فاس بغير ذكر السنة.
(2) كذا في جميع النسخ.
(3) لعله كتاب الجمان في مختصر أخبار الزمان.
(4) كذا في جميع النسخ.
الشنيعة كقطع الميراث وأكل أموال الناس بالباطل وأموال اليتامى ولين الجانب كالأرامل فلما وصل إلينا فرج الله عنا ذلك بعد أن وقع النصر من الله العزيز لقوله تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) ولقوله تعالى : (تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ) فيوقع الصلح بين الفريقين وأظهروا التوبة والذل والمسكنة والندم بعد أن كانوا ممتنعين منها ظاهرا وباطنا الفضل لله تعالى والشكر له جل جلاله.
فلما كان ذات ليلة من الليالي إذ (1) اجتمع سيدي أحمد الطيب مع أخينا في الله سيدي أحمد بن حمود (2) وسيدي مهنّا وكلهم ذوو الفضل والعلم والصلاح في دارنا فأخذوا في حديث الانتقال من الوطن فتوقى بهم الكلام إلى التحدث على الحج سنة إذ مع أننا سمعنا أن الشيخ الفاضل الكامل شيخ الركب سيدي محمد المسعود نجل الشيخ البركة سيدي الموهوب نجل الشيخ الولي الصالح والبدر الواضع سيدي محمد الحاج قد ضرب طنبله (3) في المدينة المحروسة الجزائر على عادة الأمراء في ذلك نعم كنا تواعدنا معه قبل على السفر جميعا وفق الله الكل إلى صالح القول والعمل وذلك عام مشينا لزيارة النبي سيدي خالد عليه السلام على القول بنبوته وقد شهر غير واحد من المتأخرين رسالته بجبل الرس (4) الملقب الآن أوراس وكانت معجزته نارا (5) وكانت رسالته قبل رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بمدة قريبة إلا أن رسالته صلى الله عليه وسلم نسخت جميع الرسائل والشرائع إلا ما بقي (6) عن كونه لم ينسخ والذي شهر رسالته صاحب التآليف المشهورة والتصانيف المذكورة المنتفع
__________________
(1) إذا.
(2) في نسخة حمودي.
(3) في نسخة طنبه.
(4) في نسختين الرص.
(5) في نسختين نار.
(6) في نسخة بإسقاط عن.
بها غربا وشرقا وجوفا وقبلة سيما بمحروسة مصر في الجامع الأزهر إذ قد اقبلوا على تلك التآليف إقبالا كليا تدريسا وبحثا وشرحا وتعليقا بالحواشي وتطريرا سيدي عبد الرحمن الأخضري نفعنا الله ببركاته وأفاض علينا من بحر أنواره رضي الله عنه وأنا سمعنا أنه هو الذي أظهر قبره بعلم التربيع وهو مقام عظيم والوفود تأتيه من المشرق والمغرب للزيارة وأما على قول بولايته فواضح لأن قبور الأولياء لا تكاد أن تخفى وكذا نص على رسالته الخفاجي على الشفاء فما أحسنها من زيارة وقد اجتمع فيها أكابر الفضلاء وأعظم الصلحاء وتلاقينا في تلك الزيارة مع أفاضل الزاب ونجبائه ولا شك أن أكثرهم مجاب الدعوة كالشيخ الفاضل الفقيه المدرس في مسائل المختصر للشيخ خليل بشرح القدوة صاحب الأنوار الشيخ التنائي مع حاشية الشيخ مصطفى سيدي محمد الشريف من بني جلّال وأهله من الأشراف والسيد عبد الباقي والفضلاء من الطلبة والفقيه الأديب سيدي عبد الباري واجتمعنا أيضا بالزاهد في الدنيا المتخلي عنها رأسا سيدي المبروك وسيدي المبروك هو تلميذ الولي الصالح الورع الزاهد سيدي أحمد بن باباس (1) ونجليه سيدي المحفوظ وسيدي الطيب وسيدي المحفوظ كان يرى النبي صلى الله عليه وسلم ويرى الله تعالى أيضا حسبما تراه في مرائيه وكان أخا لنا (2) نفعنا الله ببركاته أمين.
وقد كان سيدي المبروك رضي الله عنه حينئذ متبتلا منقطعا للعبادة وقد رأيته رضي الله تعالى عنه كأنه خارج من قبره تعلوه صفرة وقد ظهر أثر التراب على وجهه فبتنا عنده في قريته وتكرم علينا غاية ودعا لنا ولإخواننا ومن تعلق بنا فلما أردنا الانفصال صبيحة تلك الليلة ذهب عائدا لزيارته سيدي أحمد الطيب وكثير من الناس فلم أذهب أنا معهم قصدا مني أن لا أمنعه من العبادة في تلك العودة وما
__________________
(1) بباس.
(2) خالنا.
حصل لنا قبل كأبي وذلك شأني مع كل مشتغل بالله تعالى فأن كنت بطاه فلا أعوق الغير عما يعنيه.
وقد دخلنا طولقة فاجتمعنا بها أيضا مع أهل الفضل والعلم وزرنا أيضا الشيخ المذكور والولي المشهور سيدي عبد الرحمن الأخضري في قريته المشهورة فلما وصلته وجدته كأنه حي في قبره وذقت (1) منه أمرا عظيما يكاد الجاهل أن يحيله وقد زرت والحمد لله النبي سيدي خالدا مرة أخرى قبلها مع الجم الغفير والجمع الكثير نحو الألف وفيه من الأفاضل ما لا يحصى كالسيد الفاضل الشيخ سيدي علي بن المبارك نجل سيدي علي الطيار وفي ذلك السفر زرت الشيخ الغوث أبا جملين في المسيلة أفاض الله علينا من بركاتهم وأعاد علينا من أنوارهم.
هذا وأن العهد مع سيدي محمد المسعود موثوق (2) فعقد الجميع النية وعزموا على الحج جزما وكان عزمي بعزمهم غير أن عزمي لم يتفّو (3) ذلك العام إلا إذا ذهبوا فاذهب معهم قطعا إن شاء الله تعالى وبعد ذلك أظهر الجميع عزمه إلى الحج وأنا أقول عزمي على عزمهم فأعان الله الكل فحجوا وقضوا مناسكهم حال الحياة تقبل الله من الجميع.
نعم علامة القبول موجودة ودلائل الخير حاصلة إن شاء الله تعالى وكيف لا إذ لم يسافروا إلا حبا في الله ولله ومن الله (4) وشوقا في رسوله صلى الله عليه وسلم
__________________
(1) تقت.
(2) بإسقاط موثوق.
(3) لم يتفق.
(4) بإسقاط ولله ومن الله.
ودلائل الخير (1) لا يمكن فشوها كان ذلك في الكعبة وعند المواجهة علمها بعض الفضلاء وقد شاهدنا (2) ما لا يصح تخلفه بفضل الله تعالى وناهيك بزيارتهم وحبهم والأخذ منهم وإلا فالمحروم شقي ومن لم يحسن الظن غبي.
وبالجملة فلما سمع الناس من عمالة الجزائر بحج هؤلاء الفضلاء ونخبة العلماء حركهم ذلك إلى شد الرحال إلى بيت الله الحرام من كل بلد ووقع الضجيج من عامة المسلمين ومن خاصتهم وذلك من الحاضرة والبادية حتى ذهب جميعهم بنسائهم وأولادهم.
نعم زاد عزمي وقويت (3) همتي للمشي غير أنه عارضني أمر أوجب السفر مع الأخ في الله سيدي أحمد الطيب إلى ناحية زواوة وقرية تدلس [دلّس] لزيارة الشيخ الولي الصالح سيدي أحمد بن عمر إذ سمعت به في صباي أنه من أهل التصريف وقد أخبرني بذلك البعض من أهل الخير ممن يوثق بهم وكان رضي الله عنه يعرف أهل عصرنا ويطالع أحوالهم ويعلم من كان من أهل التصريف منهم من المشرق والمغرب وأنه اخبرني بأن سيدي احمد الزروق بن مصباح وسيدي الحسين بن أعراب من بني يزدان وسيدي أحمد ابن باباس (4) الفليسي وسيدي أحمد بن عمر التدلسي أنهم من أهل الوقت وهو غير بعيد بل هو الحق إن شاء الله تعالى.
نعم هؤلاء فقهاء مدرسون متبعون للسنة وقد ظهرت عليهم آثار الفضل
__________________
(1) ودلائل أخر.
(2) شهد.
(3) قوت.
(4) بباس.
وأنوار الحق مشرقة عليهم وقد صحبتهم وأحببتهم وشهدت (1) من جميعهم ما يدل على ذلك على أن سيدي ابن أعراب كان يحدثني عن رجال الغيب ويقول أنهم قالوا ذا ويكون ذا ولو لا الإطالة لذكرت من كلامه ما فيه العجب العجاب من اطلاعه على بعض المغيبات.
نعم أحوال الكشف فيه ظاهرة وقد روينا من أسراره (2) رضي الله عنه وكذا من الجميع في محالهم وقد زرتهم مرارا مع اطلاعي على بعض أسرارهم والحمد لله تعالى.
فانفصلنا من مقامنا بنية الزيارة وقضاء الحوائج لبعض المسلمين من إصلاح ذات البين إذ القتال بين المسلمين في وطننا كثير والفتنة بينهم قل أن ترتفع والهرج بينهم قوي أزال الله ذلك بمنه وكرمه وحكم السلطان غير نافذ فيهم إذ لا يقدر عليهم وان كانوا قريبا من الجزائر لكونهم تحصنوا بالجبال فلم يفد فيهم الأهمة الصالحين وأهل الخير فيجب على من يقبل منه أن يذهب إليهم ويصلح حالهم ليرتفع ما فيهم من المعصية وهي قوله صلى الله عليه وسلم القاتل والمتقول في النار الحديث وقد نص علماء بجاية على أنه يجب على أهل الخير والصلاح ممن يقبل منه أن يصلح بين هؤلاء المسلمين وإلا عصى الله تعالى وقد نصّ أيضا على أنه لا يجوز حال قتالهم النظر إليهم ولا النزهة (3) فيهم لأنها معصية فلا تجوز مشاهدتها وهو شريك بالنظر أنظره في الأسئلة تره بالعيان.
وبالجملة فذهبنا لبعض القرى قد خربت من أجل ذلك وعلها ترجع للعمارة وكان ذلك في يد متولي أمرهم سلطان مجانة بتخفيف الجيم كما سمعته من بعض من
__________________
(1) كذا في جميع النسخ.
(2) في نسخة من بحره.
(3) التفّرج.
يعرف ضبطه من الحذاق ويوثق به في اللغات وهو المعظم الأجل محب الصالحين الشريف المبارك محمد بن أحمد بن القندوز المقراني ثم العباسي متوجهين إلى تلك النواحي.
ومررنا على قبر الشيخ الولي الصالح والقطب الواضح رحمة وطننا وغيث بلدنا (1) سيدي يحيى العيدلي نفعنا الله به أمين وقد شهد بقطبانيته الشيخ الولي الصالح ذو التصانيف المفيدة سيدي عبد الرحمن الصباغ شارح الوغليسية وقد شرح البردة أيضا بان اختصر شرح الإمام ابن مرزوق التلمساني عليها بعلوم سبعة ورثاه عند موته بقصيدة عظيمة وشهد له أيضا بالعلم الظاهر والباطن وان له كرامات عظيمة (2) وشهد له بذلك (3) أيضا بحر الولاية والعلم سيدي عبد الرحمن الثعالبي رضي الله عنه ومثله في العلم والولاية سيدي التواتي البجائي وكان حكمه وفتواه لا يردان من بجاية إلى تورز [ومثله طود العلم وشمس الحق والعرفان السيد الشيخ زروق وكفى بهم علما وديانة ونصحا للمسلمين (4)] أما سيدي عبد الرحمن الثعالبي فانه رد (5) رسالة للشيخ سيدي يحيى بان شاوره على أمور ثلاثة أحدها من أزواج ابنتي والثانية من يكون وصيا على أولادي والثالثة تجعل تأليفا لأصحابي فأجابه الشيخ الثعالبي عنها بان بنتك زوّجها من تلميذك فلان وأما الوصية فأنت الوصي عليهم حيا وميتا وأما التأليف فقد ألفت ما فيه كفاية والآن قد كبر سني ووهن عظمي فلا أقدر على التصنيف وهؤلاء كلهم في القرن التاسع رضي الله عنهم
__________________
(1) رحمة بلدنا وغيث وطننا.
(2) وان له من الكرمات شيء عظيم (هكذا).
(3) بإسقاط ذلك.
(4) ما بين القوسين ساقط في بعض النسخ.
(5) وردت [عليه].
وأرضاهم وأما سيدي التواتي فقد عظمة غاية التعظيم بان كتب الشيخ سيدي يحيى بعد السلام والرحمة والبركة أنك ذكرت شيئا من أحوالنا في الصلاة منتقدا أو فادحا فيها فأجابه رضي الله عنه بان قال له بعد تعظيمه بما يستحقه من التعظيم والله ما ذكرنا أحوالك إلا تبركا بها فقط وكيف لا وأنك أحييت أمورا درست وطرفا ذهبت وأنت المحق الفاضل صاحب الوقت أو كلاما يقرب منه وإما الشيخ زروق فقد ذره في كناشه وأنه ألف بعض تآليفه في مسجده المعلوم في ثمقرا (1) رضي الله عنه ونفعنا به حاصله ذكره الشيخ زروق وعظمة غاية التعظيم بحيث أخذ عنه العلم الباطن وقال بعض العلماء هو الذي ملك للشيخ زروق أقطارا من البلدان وإلى ذلك أشار بقوله «وملكنيها بعض من كان مالكا» وقد سمعت ممن يوثق به أيضا أنهما اختلفا في لفظ الجبروت هل هو بهمز أو بغير همز [فقال الشيخ زروق بغير همز إذ لم يوجد في اللغة فعلؤت هكذا بهمز (2)] وقال الشيخ سيدي يحيى إنما هو بهمز فلما أصاب الشيخ الريب قال له الشيخ سيدي يحيى أنظره في اللوح المحفوظ بان مسح وجه الشيخ زروق فأزال الله الحجاب عه فراه كذلك ومن كرامات سيدي انه لما بنى مسجده المعلوم اختلفوا في القبلة فلما اختلفوا فيها قال الشيخ سيدي يحيى لجبل فوق قريته انخفض فانخفض فتبينت لهم الكعبة ورآها كل من كان هناك وهذا والله أعلم وان لم يرمى الكتب غير انه (3) تواتر عنه ذلك ومن كراماته رضي الله عنه أن الشيخ سيدي التواتي بعث بعض طلبته لسيدي يحيى ليرسل له شيئا من الزيت لأن بلد الشيخ بلد الزيتون إلى الآن فبعث الشيخ سيدي يحيى للطلبة معزا أي عددا منه وقال لهم سوقوا المعز من غير كلام لأحد حتى تصلوا الشيخ فلما وصلوا أثناء الطريق بان وصلوا
__________________
(1) تمغرا وتموقرا.
(2) ما بين القوسين ساقط في بعض النسخ.
(3) عوض قوله غير انه ورد في بعض النسخ فقد.
سوق الثلاثا لبني هارون وجدوا بعض إخوانهم من الطلبة فسألوهم عن الخبر وقالوا بعث معنا (1) عددا من المعز وغفلوا عن وصية الشيخ رضي الله عنه فلما ذهبوا لذلك المعز وجدوه جلودا من زيت وقد أسقط عليهم الكلفة [فلما فضحوا سر الشيخ رجعت لهم الكلفة (2)] ثم أنهم حملوها جلودا كذلك إلى أن وصلوا إلى بجاية إلى الشيخ فاخبروه القصة وقال لهم لو سكتم لوصلوا كذلك ثم يرجعون زيتا فلما خالفتم وقع بكم ما وقع من الكلفة وبالجملة من كتم سر الأولياء وكذا سر الله انتفع به ودام له ذلك وكراماته رضي الله عنه كثيرة وقد كتبنا منها نبذة في شرحنا لوظيفته عند ختمه ولم أذكر فيها كرامة عظيمة لم أرها مسطرة غير أنها تواتر أمرها واشتهر وهو انه لما رجع من سياحته وقد مكث فيها مختفيا عن الناس نحوا من عشر سنين وأمه في حال حياتها وجد أهل قريته أخذوا ثورا لحما فقسموه ولم يجعلوا نصيبا لأمه من غير اكتراث بها فلما علم بذلك تغير من أمرهم حيث لم يسهموا لها شيئا والحالة أن اللحم لم يبق منه شيء بل جعلوه في القدور ولم يجد شيئا باقيا إلا الجلد والرأس فعند ذلك ورد عليه حال عظيم بان أمسك الجلد من الذيل وقال له قم بإذن الله فقام الثور يمشي كما كان أول مرة فلما شاهدوا منه ذلك خضعوا له وتواضعوا وذلوا واستكانوا وظهر أمر الشيخ بينا بحيث أن من تعدى عليه هلك بغتة وقد كان له زرع في امالوا (3) وبات فيه جماعة من الناس بخيلهم من غير علم أن الزرع للشيخ فلما أصبح الله بخير الصباح مات جميع خيلهم وحملوا سروجهم على أعناقهم ثم إن ذلك في أخر عمره ارتفع وسئل الشيخ عن ذلك فقال فعل الله ذلك ابتداء ليعلم بحالي الخلق وليظهرني فلما حصل المقصود من الظهور والنفع للخلق وظهرت الخصوصية
__________________
(1) في ثلاث نسخ لنا.
(2) ما بين القوسين ساقط في بعض النسخ.
(3) ونسخة المحال و.
الخصوصية وثبتت ودامت ارتفع ذلك والله اعلم.
ولما زرنا قبر الشيخ وسألنا الله بجاهه أن يمن علينا بما فيه رضاه من السفر وأن ييسر علينا أمره وان يجعله مقبولا مع الأخذ في الاستخارة الشرعية وبالجملة فقبر الشيخ ترياق مجرب ذهبنا لبني عباس وبتنا عند الفضلاء الأشراف المحبين لنا جميعهم الصغير والكبير والذكر والأنثى وتكرموا وفرحوا بنا فرحوا شديدا ثم بعد ذلك لقرية المحب كل الحب إذ داره يد أهل الخير فيها يدا واحدة الفاضل الفقيه الصالح الكامل سيدي محمد السعيد بن الطالب وانه فرح بنا أيضا فرحا شديدا وبعده ذهبنا لزيارة الشيخ الولي الصالح والبدر الواضح ترياق وطنه وأمير (1) بلده سيدي أحمد بن عبد الرحمن جدا أولاد مقران والله اعلم تلميذ الشيخ سيدي يحيى وقد سمعت أنه قال للشيخ سيدي يحيى أني رأيت في النوم النار تخرج من بولي فعبرها له الشيخ بان قال يصير منهم أي من أولاده ما يصير (2) من أهل الظلم والجور وكان الأمر كلما ذكر ولعل بركة جدهم تعمهم وكذا الشرف وقد رأيت طبقات ابن فرحون انه نص على شرفهم والله اعلم قلت وقد نص الشيخ عبد الباقي على أن الشرف يثبت بالشهرة عند قول المصنف ومصرفها بكسر الراء فقير الخ والأجهوري بضم الهمزة قال الناس على ما حازوا من أنسابهم كحيازة الأموال يصدق الإنسان شرعا في نسبه كما يصدق بان ما بيده ماله إلا إذا كان مشهورا بالعداء والظلم فلا بد أن يكلفه الحاكم بأي وجه تمليكه وإلا أخذه من يده لعل صاحبه يأتي إليه نص عليه الشيخ إبراهيم الشبرخيتي.
هذا ولما زرنا الشيخ وسألنا الله حوائجنا الدينية والدنيوية وأمر السفر أيضا
__________________
(1) في نسخة أمين.
(2) بإسقاط ما يصير.
حسبنا عند الشيخ سيدي يحيى ذهبنا لقضاء حوائج المسلمين فلما قضيناها من أمير مجانة وغيره من عرفاء نبي عباس ذهبنا لمحل الولي الصالح والشريف الواضح سيدي بهلول بن عاصم نفعنا الله به وبذريته وقد اشتهر أمره انه تلميذ الشيخ سيدي يحيى كما كنا نسمع ذلك (1) والله اعلم وانه أيضا تزوج بنت الشيخ المذكور وكراماته كثيرة وحال أولاده مع الناس كذلك.
نعم بدأنا بزيارة الذاكر لله كثيرا الفاضل الصالح الفقيه المحلى بحلية القبول سيدي محمد بن سعيد الشريف البابوري وقد اجتمعت معه حيا وزرته مرتين وقد سمعت انه تلميذ الشيخ سيدي أحمد بن عبد العظيم وسيدي أحمد هذا كان من المحققين في كل علم وشهد بولايته كل من رآه من أهل عصره وقد سمعت ممن سمع سيدي إبراهيم الحاج البجائي انه سمع الحيتان في البحر تقول سبحان الله أحمد بن عبد العظيم ولي الله.
وسيدي إبراهيم هذا كان صاحب الوقت في زمانه وأني سمعت ممن يوثق بخبره أن السيد أبا القاسم الحاج صاحب فراية في بجاية انه رأى السيد إبراهيم في السماء الرابعة يجذب (2) الشمس مع الملائكة وكفى به وأني سمعت العدل المبرز الكامل الصالح سيدي علي بن عبد الرحمن البجائي انه سمع من الفقيه الصالح سيدي يحيى الصنهاجي انه قال سمعت من سيدي إبراهيم هذا يقول لا يقف عند قبري شقي وتواتر عنه هذا الخبر وقبره معلوم وذلك داخل السور عند باب امسيور (3) قرب قبر الشيخ أبي حامد الصغير أبي علي المسيلي.
__________________
(1) في بعض النسخ بإسقاط ذلك.
(2) بحذاء ويحيد.
(3) في نسخة ميسور.
وسيدي علي هذا سمعت منه انه قال رأيت فاطمة الزهراء في النوم فقالت أنت من جيراننا ثم إنه ذهب إلى الحج ومات في المدينة المشرفة ودفن في البقيع بلغنا الله ومن تعلق بنا ببركة جميعهم.
وكذلك زرنا سيدي الهادي وأولاده كان رضي الله تعالى عنه مقبلا على الله وله بسطة في الدنيا وأقبلت عليه الناس ثم بعد ذلك امتحن ونجا بفضل الله تعالى بان تعدى عليه طلبة الشيخ سيدي أحمد بن إدريس إذ بلغ أمرهم الظلم والتعدي والفتنة للناس وهلاكهم وقطع شجرهم وأصابتهم غيرة من الشيخ وحسد فعادوه وحرقوا قريته وأخذوا ماله وقتلوا ولده ولما أحاطوا بداره ولم يتركوا فرجة له يخرج منها ظنا منهم يمسكونه بأيديهم ركب فرسه وهي طويلة جدا وهو رجل طويل بلغ فيه الغاية فلم أر رجلا مثله إلا النادر وخرج من باب صغير بحيث لا يخرج منه إلا الطفل المراهق أو ربعة من الناس نعم لا يخرج من ذلك إلا بعسر فخرج بفرسه على حاله فكل من رأى ذلك وعلم بحاله تعجب من ذلك كثيرا فنجاه الله تعالى وسلم ثم أني رأيت له قصيدة كبيرة في شأن هؤلاء الطلبة المتعدين وان خصها بعض الأوزان الشعرية فان مذهب المتقدمين لا يشترطون ذلك وإنما هو مذهب المتأخرين على أنه إن استقامت حالة الإنسان وكانت همته عالية متعلقة بالله تعالى لا يضره مخالفة القوانين الأدبية ولا غلبة العجمة ولا قلة العلم وقد ذكر فيها انه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم انه قال له سيهلكهم الله بان قبلت فيما طلبته (1) فيهم وكان الأمر كما ذكر بان شتت الله جموعهم وفرق أمرهم تفريق أيدي (2) سبا وان بقيت منهم حثالة فقد رق حالهم وضعف أمرهم غير انه إن بقي منهم ولو واحد لا يخلو من
__________________
(1) تطلبه.
(2) يد.
التعدي والظلم نعم بركة الشيخ سيدي أحمد بن إدريس تنوب (1) عليهم ولعل الله يهديهم أو يهلكهم إن لم يعلم ذلك منهم وبركة الشيخ سيدي الهادي هذا ظاهرة على ذريته أرشدهم الله تعالى.
وزيارة هذا الشيخ بعد أن زرنا مقام الشرفاء في بو جليل (2) فأنهم أهل فضل وبركة وعناية وقد اجتمعنا معهم في الجد الأعلى والشرف على ما كنا نسمعه من أعالي أسلافنا فلما وصلنا قرية أولاد الشيخ سيدي بهلول فعلوا ما أمرناهم به من الصلح مع أعدائهم وردهم إلى محلهم لأنهم حرقوهم بالنار (3) وأخذوهم وقتلوا منهم ثلاثين وأولاد الشيخ كثيرون غير أن فيهم من يقرأ القرآن ومن يفهم العلم وكثير منهم على طبع العامة من تقليدهم سيف الفتنة وأحكام العوائد نعم غلب عليهم الكرم.
ثم بعد زيارتهم وقضاء الحوائج منهم ذهبنا لزواوة فزرنا وطنهم الحي والميت والظاهر والخفي على الجملة إلى أن بلغنا بيت الفاضل الأخ سيدي أحمد الطيب واجتمعنا بفضلاء من الناس.
وبعد ذلك عزمنا على زيارة الولي الكبير والقطب الشهير سيدي علي بن موسى ومررنا على بني منجلات وبني بترون وبني عيسى وغيرهم فلما وصلنا الشيخ سيدي علي بن موسى بتنا في مقامه المشهور وضريحه الترياق (4) وقد ظهر من أمره نفعنا الله به أن من قصده لحاجة دنيوية أو دينية يعطي لو كلائه وطلبة مقامه شيئا
__________________
(1) تتوب.
(2) بجليل ويحليل.
(3) بالترك.
(4) كذا.
معلوما إذ كل حاجة بما تشترى من القدر المعلوم تقضى بإذن الله تعالى وفضل الله عليه عظيم وصبغة الله عليه جالية وزائره مقبول وقبره دواء رباني وطب إلهي وقد كان في القرن التاسع معاصرا للشيخ سيدي يحيى العيدلي وصديقا له كراماته باهرة وأحواله ظاهرة قلت قال الشيخ سيدي يحيى العيدلي علي بن موسى فيه خاصية الرقية لم تكن في أحد من أهل عصره قال وقد رقي لي عكازا أي عصا وكنت أرقي به للناس فيظهر أثارها وقيل انه ذهب لبني يمّل (1) في وادي بجاية (2) وأتوا له بولد كبير بلغ حد المشي وتجاوزه ولم يقدر على المشي بان صار مقعدا لا يقوم أصلا فمسح عليه ورقاه فمشى من حينه نفعنا الله به ومن كراماته ما اشتهر عنه أنه أقام بقرة بعد ذبحها وقسم (3) لحمها وسببه أنهم لم يسهموا له الطلبة لأنه كان خديما للطلبة وغير ذلك من كراماته وكان له مزود إذا امتلأ يكفيه ثمانية أيام بلغ الضيوف ما بلغوا ألفا أو أكثر أفاض الله علينا من بركاته وجعلنا في زمرته بمنه وكرمه.
ثم ذهبنا بعد الزيارة وطلبنا عنده ما طلبناه عند الشيخ سيدي يحيى إلى قرية تدلس المحروسة لزيارة سيدي أحمد بن عمر إذ كنت صغيرا وقلبي متعلق به حتى جمع الله بيننا وبينه عام تسعة وسبعين ومائة وألف (1179) فلما وصلنا فرح بنا فرحا عظيما وسر بنا سرورا قويا ودعا لنا بعزم وقوة همة من صميم قلبه وخلاص الاعتقاد وأقمنا ثلاثة أيام فيها مع كرم عظيم وطيب ضيافة وإحسان تام من أهلها عمرهم الله وجعل البركة فيهم.
ثم أن فضلاءها ونجباءها سألوني عن قول بعض الأولياء وقفت بساحل
__________________
(1) في نسخة يجل.
(2) في نسخة زيادة ونواحيه.
(3) في نسختين وقسمة.
وقفت الأنبياء دونه فزبرت عليه رسالة حسنة بما فتح الله به ارتجالا وكتبت فيه رسالة نحو كراسة صغيرة وقد قلت فيها ما حاصله انه وقف بساحل بعلمه الحقائق وزوال الحجاب عنه بان وقعت له شطحة من شطحات أهل المحو فوقف في ذلك الساحل لعدم تمكنه ورسوخه في علم الشريعة ولا في علم الحقيقة إذ هو متلون لا متمكن من الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا لا من المتمكنين الذين اطمأنت قلوبه بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب فوقف في ذلك الساحل وقوف اضطراره لا وقوف أدب لأن صاحب هذا المقام محمول لا حامل وهو ممن ملكه الحال لا انه ملكك حال فكان وقوف الأنبياء دونه أولى وأمكن وأليق لتمكنهم واشتغالهم مع السفرة والوحي هذا بمنزلة الخضر مع موسى عليه السلام وقد كانت علوم عنده لم تكن لموسى عليه السلام مع أن موسى أفضل منه بالإجماع غايته أن تلك مزية والقاعدة المقررة أن المزية لا تقتضي الأفضلية فموسى قد اشتغل بما هو أعظم والخضر خصه الله تعالى بهذا الأمر فلا يكون أولى ولا شك أن الخضر وقف بساحل من العلوم اللدنية والمواهب الكشفية لم يقف موسى بها إذ وقف دونها وهي علم الشريعة ولا شك أن ما يفعله الخضر في بادي الرأي أنه ممنوع شرعا في ظاهر الحال ولذلك قال له لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا فإذا علمت هذا علمت مثله في هذا القول من غير شك وقد قررته بوجهين آخرين فاستحسنوا ذلك مني غاية قل بفضل الله تعالى.
ثم ودعونا وفقهم الله وهداهم نحو مسيرة نصف يوم وفي تلك الجماعة عمنا العلامة المحقق الفهامة سيدي محمد الصغير بن رقية والفاضل الكامل سيدي محمد السعيد بن الطالب والمحب للخير وأهله سيدي أحمد بن علي نجل السيخ سيدي يحيى العيدلي وسيدي أحمد الطيب والشيخ الفاضل سيدي مهنا وخديم الصالحين الحاج علي البتروني وغيرهم وتلميذ سيدي محمد السكلاوي الجزائري إذ كان يقرأ
عليّ كبرى الشيخ السنوسي بالشيخ اليوسي قراءة تحقيق في أيام الزيارة وغيرها وشاورنا سيدي أحمد بن عمر على الحج فقال توكلوا على الله.
ثم رجعنا وأخذنا على بني فراوسن بلد الشيخ ابن معطي صاحب ألفية النحو الذي قال فيه ابن مالك «فائقة ألفية ابن معطي» وسيدي محمد الزواوي صاحب المراءي المعلومة صديق سيدي سعيد السفري القسنطيني وصاحبه فنزلنا قرية الجمعة اعني الصهريج وهي قرية عظيمة ذات بساتين وعيون في وسط العمارة نحو مائة عين كما قيل.
ونزلنا عند المعظم سيدي محمد بن القاضي الشريف سلطان زواوة وعاهدنا على الحج ومشى معنا ثم مات رحمة الله عليه بعد خروجنا من المدينة المشرفة ودفن بين الينبع ونقب علي في شهر محرم سنة ثمانين ومائة وألف (1180) ثم أتينا بني بو شعايب (1) وزرنا جملتهم ثم مررنا على بني يحيى وزرنا جملتهم أيضا وتلاقينا مع بعض فضلائهم أولاد الفقيه من قرية ثوفة (2).
وزرنا سيدي علي بن الطالب وهو ولي مشهور كان صبغة في عصره وكان يأتيه الرجل فيبلغ لله تعالى ساعتئذ وزرت قبره مرارا وأني أدركت أصحابه المنورين جملة منهم سيدي أحمد بن عمر وسيدي الموفق ابن أم رزق (3) الصغير إلا أني صغير وهو قد تجرد للعبادة وخدمة طلبة العلم وله كرامات كثيرة وورع شديد صاحب انقباض والمرابط سعيد بن ثيفرين (4) وأني أدركت منه المنى وأنا صغير والولي الصالح سيدي
__________________
(1) بشعايب.
(2) توفة وتق.
(3) في نسخة زروق.
(4) تفرين وتيفرين وتقترين وتقترين.
يحيى بن حمود (1) وكلهم أصحاب وقت في عصرهم.
ثم نزلنا قرية الشيخ الفاضل ذي التصانيف الجيدة الولي الكبير والعالم الشهير صاحب وقته المحب للنبي صلى الله عليه وسلم وخليله سيدي أحمد بن مزيان وهي ورجة قرية عظيمة طيبة فيها بساتين وعين جارية وسط داره وله خلوة معلومة له اليد العليا في العلوم كلها المنقول والمعقول وقد خمس البردة (2)] بحيث لا نفرق بين كلامه والكلام الأصلي (3) وألف كتابا في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجد له نظير لأنه ذكر تصاريف اللغة وحاز يد السبق فيها وغير ذلك وله سر عظيم وانفعال جسيم فأين توجه إلا والناس حافون به كلامه له حلاوة وطلاوة (4) وقد تمكن في علم الأوفاق تمكنا كليا مع الكشف التام وقد أخبر عنه أنه لا يفعل شيئا حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم وله كرامات مشهورة وهي أنه أتاه فقير في أيام الحج فقال له والله أن أحج في هذه الأيام فلما ألح على الشيخ وذلك في زمان الخريف أعطى له عنقودا فكمل أكله في مكة المشرفة ثم لما كمل حجه وجد نفسه في داره نفعنا الله به ووله حي أخ لنا وصديق لدينا وهو لا ينتبه لأكثر أحوال الدنيا.
وزرنا (5) صاحب الفضل والفواضل سيدي العزالي جعل الله البركة في أولاده بمنه وكرمه وله أحوال سنية وكرامات ظاهرة سيما إجابة الدعوة وأبوه أقوى وأعظم وقد عمت بركته الداني والقاصي نعم زرنا قبره وبتنا في خلوته وتوضأنا (6) من عينه
__________________
(1) في نسخة حمودي.
(2) ما بين القوسين ساقط في بعض النسخ.
(3) في نسخة الأصيلي.
(4) بإسقاط وطلاوة.
(5) في ثلاث نسخ بإسقاط وزرنا.
(6) في جميع النسخ توضينا.
وقد سمعنا أن ماء زمزم يخرج إليها وانه أيضا لم يبن تلك القرية إلا بإذنه صلى الله عليه وسلم.
ثم بعد ذلك رجعنا إلى دار الشيخ سيدي محمد السعدي والد سيدي أحمد (1) الطيب كان فاضلا عالما عابدا زاهدا ورعا آكلا من عمل يديه طالبا للحلال لأن من أكل الحلال أطاع الله شاء أم أبى ومن أكل الحرام عصى الله شاء أم أبى أو كما قال صلى الله عليه وسلم وهو تلميذ الشيخ سيدي أحمد بن مزيان وانفعلت فيه سريرته وظهر عليه آثار أنواره وقد سمعت ممن يوثق به أنه قال لو شئت أن تصير لي الجبال ذهبا لفعلت ولكني اخترت ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه من التقلل في الدنيا ونفض يد القلب منها قطعا والحمد لله على محبة آثارهم ومعرفة أحبابهم رضي الله تعالى عنهم.
ثم بعد زيارته (2) في محله رجعنا إلى بلدنا مارين على الشيخ سيدي يحيى العيدلي عطفه الله علينا وعلى أولادنا وطلبتنا وكل من ينتمي إلينا من الإخوان وغيرهم بمنه وكرمه.
فلما بلغت البيت حدث لي العزم التام نعم أخذنا في التأهب إلى السفر والأخذ في أسبابه واشتهر أمر سفرنا وبلغ أمره أطراف نواحي عمالة الجزائر فقامت لذلك فضلاء الخاصة والعامة ثم وقع النداء في أسواق بلدنا فيمن عزم للسفر.
ثم بعد ذلك عرض لي أمر أوجب لي السفر لوادي بجاية فلما ذهبت إلى الوادي سمع بي جماعة من فضلائها العلامة الفاضل قاضيها تلميذنا سيدي أبو القاسم نجل
__________________
(1) في نسخه بإسقاط أحمد.
(2) في نسخة زيارتنا.
الكامل سيدي إبراهيم والفقيه المفتي سيدي محمد والمعظم الأجل قائدها أحمد السطمبولي (1) محب الخير وأهله وكان والده السطمبولي (2) تاب على أيدينا رحمه الله آمين.
فلما وصلت إلى أولاد الشيخ سيدي محمد أمفران في محلهم إذ هم أنسابي نويت زيارة الشيخ الصالح والأستاذ الواضح سيدي إبراهيم بن ثابت في بني مسعود فوجدت تلك الجماعة قاصدين ملاقاتي فاجتمع كلنا عند السيد إبراهيم المذكور فبعد زيارتنا له ألحوا علي في الذهاب إلى بجاية إذ كنت متغيرا عليهم قبل غير أنهم لما أكدوا على ذهبت معهم إلى زيارتها لأني محب فيها غاية وذلك قبل بلوغي وكنت كل عام أصوم فيها رمضان ناويا للرباط مع تعليمي الطلبة (3) راجيا أن يكون لي حظ وافر منهم ونصيب كامل من عندهم حقق الله رجائي بمنه وكرمه.
فلما وصلت بئر السلام متشرفا على المدينة المذكورة (4) توجهت إلى زيارة الشيخ سيدي أحمد بن معمر الولي الكامل والليث الفاضل لما كنا نسمعه أن من زار بجاية ولم يزره لم يذهب بشيء منها والعياذ بالله تعالى وان لم يكن كذلك في نفس الأمر غير أن أسباب الحرمان (5) كثيرة فالحذر الحذر والأدب الأدب ألا ترى ما وقع لبعض الأولياء في زمان الشيخ سيدي عبد القادر الجيلي حين قال قدمي هذه على رقبة كل ولي لله فكل من سمعها (6) طأطأ برأسه تواضعا لله تعالى وتسليما للشيخ إلا واحدا من
__________________
(1) اصطنبولي.
(2) اصطنبولي.
(3) في ثلاث نسخ للطلبة.
(4) في ثلاث نسخ المشهورة.
(5) في ثلاث نسخ الحرمة.
(6) في نسخة إلا طأطأ.
أولياء العراق لم يسلم للشيخ حاله ولم يصدق مقالته فسلب من حينه والعياذ بالله تعالى وكذا رجل تغير عليه الشيخ وقال لا يدخل بغداد فكان إذا وصل إلى (1) بابها لا يقدر على الدخول لما يجده من المنع الإلهي نعم شفعت (2) عنده أمه في الاجتماع معها فقبلها (3) غير انه أذن لها أن تجتمع معه في طريق تحت الأرض في بغداد وأما الطريق المعلومة (4) فممنوع منها وكذا ما حكي عن أبي يزيد البسطامي الذي من عرف اسمه دخل الجنة واسمه طيفور بن عيسى وهو أنه قال لصائم تطوعا كل يوما (5) بيوم فقال أنا صائم فقال كل يوما (6) بشهر فقال أنا صائم فقال كل يوما (7) بعام فقال أنا صائم فقال كل يوما (8) بدهر فقال أنا صائم ثم سكت عنه الشيخ فقام بعض الناس إليه قائلا له أن الشيخ يأمرك بالأكل وأنت تمتنع فقال له الشيخ دعه فانه سقط من عين الله تعالى انظر هذا مع انه موافق لمذهب مالك أنه يحرم على الصائم المتطوع الفطر من غير وجه والوجه الأبوان وذو التربية من الشيوخ ولابد أن يكون الصائم مديما للصوم وألحق البعض شيخ التعليم قلت قال المحلي حديث الصائم أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر رواه الكتب الستة فكان المختار عند غير مالك الفطر من غير منع بل هو مباح ويحتمل حينئذ المأمور بالأكل أن يكون تلميذا للشيخ ويحتمل أن يكون الشيخ مذهبه الحديث أعني جواز الفطر.
__________________
(1) في نسخة بإسقاط إلى.
(2) في نسخة تشفعت.
(3) معها فقبله.
(4) بإسقاط المعلومة.
(5) يوم.
(6) يوم.
(7) يوم.
(8) يوم.
تنبيه إياك أن تتعرض لأحد من أهل الله ممن ثبتت له الخصوصية من الأولياء في زمانك فيما فيه الوسع شرعا فتنزل قدمك بعد ثبوتها وقال الخطاب في حاشيته على الشيخ خليل أن مذهب المخالف أعي الفطر من غير وجه أقيس فإذا فهمت هذا علمت أن الاعتراض على من ثبتت له الخصوصية حرمان والمنازعة شقاوة وامتثال أمره غنيمة فالكيس بن الكيس إذا اجتمع مع أحد من أولياء زمانه ينظر ما يستحسنه منه (1) بقلبه فعله من غير كلفة من الشيخ فتأخذ مكانا في صدره فينظر الله إليك بعين الرحمة لأن الله ينظر إليه بعين الرحمة فمن نظره في قلبه أفلح ولا تعترضه ولو في غيبته إذ ربما كان ذلك سلبا لإيمانك لأن الله يحارب عنه وقال أبو يزيد المذكور أعلى الولاية التصديق بأحوال أهل الله وأدنى الولاية التسليم لأهل الله فلا تنازعهم أصلا بقلبك ولا بقالبك فيموت قلبك إلا ما أنكره الشرع إجماعا (2). حاصله. هم أبواب الله والله يقول وأتوا البيوت من أبوابها فمن اعترض أحدا بحظ نفسه رد عن باب الله وكان مطرودا بين العباد فيراه كل أحد من الناس بعين الازدراء حتى انه لا يجد شفيعا إلا التوبة الصادقة فحسن الظن وتسليم الأمر لأهل الله غير قادح شرعا بل هو سلم يرقى به إلى حضرة الكمال فإياك أن تنظر إلى كثرة العبادة من الإنسان بل انظر إلى خميرة الصدق وحسن الاعتقاد وعدم المنازعة فذلك الشان وخمر عقلك به تفز كما فازوا وحينئذ (3) لا تسرع لإنكار ما يحكى عن الشيخ سيدي أحمد بن معمر نفعنا الله به وأفاض علينا من بحر أنواره بمنه وكرمه أن ثبت عنه ذلك.
وبعد زيارتي له توجهت لزيارة رجال النخلة المدفونين في مسجد الخميس
__________________
(1) في نسخة بإسقاط منه.
(2) بإسقاط إجماعا.
(3) في نسخة بإسقاط حينئذ.
[أعني السوق وكذا من في مقبرة السوق](1) نفعنا الله بهم فقد سمعت ممن يوثق به أن بعض الناس من بجاية وصل إلى عرفة فصار يستغيث بالصالحين فيما أصابه فاتاه بعض الأولياء فقال له إن رجعت إلى بجاية فاستغث برجال النخلة فمن استغاث بهم يغاث بإذن الله تعالى.
وبعده توجهت بوجهي إلى المدفونين في جبل خليفة بعد ما زرت سيدي الصديق وزيارة سيدي عبد الحق الفجيجي ولم يثبت عندي شيء في حقهما نعم أهل بجاية يعظمونهما غاية التعظيم إلا ما سمعت عن بعض طلبة بجاية بان قال الشيخ عبد الحق هذا هو ألي قتله السلطان ظلما وعدوانا وسبب ذلك أن بعض الزنادقة كان يتعبد (2) في الظاهر في الموضع المسمى المضيق فلما اشتهر أمره صار الناس يأتيه فيختلي (3) بها فتلد طفلا فعلي صيته بهذا الأمر فذهبت زوجة سيدي عبد الحق هذا إليه وهو معها فلما وصلته طلبها للخلوة على عادته ليطأها فتلد ولدا فامتنع الشيخ من ذلك فقال هذا ممنوع شرعا فرجع هو وزوجته وكانت امرأة السلطان قد فعل بها ما فعل قبل بالنساء ولما رجع الشيخ عبد الحق نادى بالويل على الرجل وقال انه زنديق ونبه على فعله الخسيس وافتضح أمر الرجل وأصابت السلطان المعرة العظيمة فطلب سيدي عبد الحق على مقالته فقتله وجعل رأسه عند باب المدينة وإنما فعل ذلك امتثالا لقوله عليه الصلاة والسلام إذا رأى العالم منكرا ولم يغيره فعليه لعنة الله نعم بقي رأس الشيخ هناك مدة غير انه إذا جاء البواب عند الغروب ويقول الباب الباب ليدخل من كان خارجا فيقول الرأس لم يبق إلا عبد الحق الذي مات على الحق
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسختين.
(2) في ثلاث نسخ يعبد.
(3) في نسختين فيخلي.
بلسان فصيح يسمعه الناس كلهم فبعد ذلك رأوا الشيء عيانا وظهر الحق وزهق الباطل رفعوه وعظموه وجعلوا روضة على قبره وقد قيل فيه أنه ولد الشيخ سيدي علي المظلوم المدفون عند الحلق بان قيل أنه مظلوم في قتل ولده هذا.
وبعده توجهت لزيارة من في الجبل وقد قيل فيه اثنا عشر ألف قطب وانه ينيخ بأهله في الجنة كما ينيخ البعير بحمله وتوجهي (1) إنما هو على القنطرة التي عند الباب إذا سمعت أيضا من بعض الصالحين انه يقول من وقف على تلك القنطرة وتوجه للجبل فسأل الله شيئا إلا (2) أعطاه إياه.
وبعد ذلك دخلت بجاية وزرت الشيخ سيدي الصوفي ولم أحفظ من أمره شيئا إلا أن أهل بجاية يعظمونه غاية التعظيم وانه من أهل التصريف في بجاية نفعنا الله به آمين.
وبعده زرت خلوة الشيخ سيدي أبي مدين الغوث وقد زرت قبره والحمد لله في العباد في تلمسان أرض الجدار وزرت معه الشيخ السنوسي والإمام ابن زكري والعقبانيين والإمام ابن مرزوق وولدي الإمام وهؤلاء كلهم مؤلفون نفعنا الله بجميعهم وأبو مدين كان في القرن السادس في بجاية حتى سعى به بعض الشياطين من الحساد إلى أمير مراكش فبعث إليه فلما سمع أهل بجاية عزا مرة عليهم وأرادوا الخروج عن طاعته وقال خليفة بجاية لا تذهب فأني أخرج عن طاعته من أجلك فقال اذهب والله غير أن الناس لا يروني (3) ولا أراهم وذهب فلما قرب تلمسان أشار بموته فقال احملوني على بغلة فالموضع الذي تبرك فيه فذلك قبري فبركت في العباد
__________________
(1) في نسخة توجيهي.
(2) هكذا في جميع النسخ.
(3) ******
ودفن فيه فصار رحمة لأهل تلمسان ومن زاره نفعنا الله به آمين.
وكان أصحابه كثيرين منهم الشيخ أبو محمد صالح الدكالي (1) فانه ذات يوم أتى الشيخ أبا مدين فقال له أردت الفقر إلى الله أما أنت أو أحد يبلغني فقال له لما أر لك مثل الشيخ عبد القادر في بغداد فذهب إليه فلما وصل قال له أردت الفقر إلى الله فادخله الخلوة فمكث فيها أربعة وعشرين يوما فدخل عليه الشيخ عبد القادر فقال ما أردت فقال أردت الفقر إلى الله فقال عليك بكذا وكذا فقال له هذا كله أعرفه من الكتاب والسنة فقال ما تريد فقال أريد أن تدخل يد قلبك لقلبي قال فنظر في نظرة فامتحن قلبي من حينه ثم قال انظر الكعبة فنظرت الطائفين بها ثم قال لي انظر المغرب فنظرت شيخي في المغرب ثم قال له ما أردت مكة أو المغرب قال فقلت شيخي في المغرب فقال لي في خطوة أو كما جئت قلت كما جئت فأغناني بتلك النظرة دنيا وأخرى أنفق فيهما اه.
ثم إن أبا محمد قيل أنه قدم بلادنا واستقر عند أمير وادي أقبو وهو وادي بجاية فرغب فيه السلطان فزوجه بنته فولد معها ولدا فمكث غير بعيد قال دعني أرفع ولدي فانه ستظهر شمس في القرن التاسع في بني عيدل تغيب النجوم كلها معها فمنعه السلطان منه وذهب وتركه نعم قيل أولاده هم أولاد سيدي محمد صالح الآن عندنا والله اعلم وقد قيل انه هو الذي طلع بدابته عمود السواري بالإسكندرية حين قال لهم أين يبيت الغريب فقالوا (2) له استهزاء به في عمود السواري فبات فيه وهو لا يمكن عادة المبيت به نفعنا الله به آمين.
وأما الشيخ عبد القادر فكان في القرن الخامس أخذ منه خمسين سنة وأخذ من
__________________
(1) في ثلاث نسخ الدلكي.
(2) في نسخة فقال البواب له استهزاء به.
السادس تسعا وأربعين سنة.
ثم بعد زيارة خلوته توجهت لزيارة خلوة الشيخ أبي محمد المرجاني المعلوم الذي ينقل كلامه صاحب المدخل ويعتمد عليه ولا يشكك أيضا أحد في ولايته فقال ابن عرفة قادحا والله اعلم في الشاذلي وأصحابه اثقل شيء علي قولهم قيل لي أو علي فقال فلا أقبله ولو من المرجاني المقطوع بولايته اه ـ فقد جزم بولايته ولا شكك في ولاية الشاذلي والشيخ عبد القادر قلت نقل كلامه هذا الشيخ زروق ورده بقوله الثقل ليس بحجة وقوله أيضا المرجاني المقطوع بولايته فإن أراد القطع بحسب الكرامات فالشاذلي والجيلي أظهر منه كرامة وأن أراد ذلك بحسب نفس الأمر فلم يقطع لأحد الآن بذلك إلا بعد دخول أهل الجنة الجنة.
ثم توجهت لزيارة خلوة الشيخ عبد القادر وخلوة الشيخ سيدي أبي العباس السبتي الكائنتين في برج اللؤلؤة وقبر سيدي أبي العباس في مدينة مراكش وأما قبر الشيخ سيدي عبد القادر فمعلوم في بغداد أفاض الله علينا من بحر أنوارهما.
وزرت الجامع الأعظم القديم القريب من تلك الخلوة ومن البرج المذكور الذي كان فيه تسعون مفتيا [إذ قال الشيخ أبو علي المسيلي دخلت بجاية فوجدت فيها تسعين مفتيا](1) أي في الجامع الأعظم وكان كل واحد لا يعرف أبا علي من أي ناحية كان.
ثم بعد ذلك توجهت إلى الشيخ عبد الحق الأشبيلي ويقال له اليماني ويقال له أيضا البجائي وهو الذي ألف العاقبة وقبره خارج باب المرسي القديم طريق (2) أبي
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(2) هكذا في جميع النسخ.
زكرياء الزواوي وكان رضي الله تعالى عنه لوذعيا فاضلا كريما لا نظير له وكانت تأتيه أمته مرارا في يوم واحد لمجلس درسه تطلب منه دراهم فلم يخيبها قط ثم قال بعض تلامذته هذا شيء كثير يا شيخ فقال له استحي أن تجتمع فيّ ثلاث شينات شيخ وشحيح وأشبيلي اه ـ وأيضا كانت رخامة عند قبره فيها تاريخ موته فأتى بعض النصارى إلى قبره (1) فرفعها فلما وصل بها إلى بلده تشاءم بها وردها بنفسه إلى قبره نفعنا الله به آمين.
ثم زرت من دفن في تلك المقبرة وانه دفن فيها أيضا قرب السور الشيخ عبد الحق بن ربيعة وقد ذكره صاحب عنوان الدراية بما يحرك قلب الناظر إليه وقد قيل أن في تلك المقبرة الغافقي.
ثم توجهت لزيارة الشيخ أبي زكرياء يحيى الزواوي وقد كان في القرن السادس وقبره مشهور أقول قال صاحب عنوان الدراية ما نصه أربعة قبور يستجاب الدعاء عندها قبر معروف ببغداد وقبر أبي مروان في بونة أي عنابة وقبر أبي زكرياء يحيى الزواوي الذي هو هذا وقبر أبي مدين في تلمسان وقد زرت والحمد لله الثلاثة بلغني الله إلى الرابع وهو قبر معروف بجاه من ذكرته من الأربعة آمين ومن أوصافه رضي الله عنه أنه كان لا يأكل إلا السمك يصطاده بنفسه طلبا للحلال وكان كثير التردد إلى (2) المساجد يتعبد فيها بنواحي بجاية وكان رحمه الله له مجلسان في العلم مجلس في الحديث ومجلس في التفسير إلا أن التفسير كان يقرئه بعد صلاة الجمعة على المنبر لكثرة الناس وازدحامهم عليه إلى يوم موته فكان يكرر قوله تعالى عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه ففهم أكثر الحاضرين أن الشيخ يموت وكان رحمه الله سخي
__________________
(1) في نسخة بإسقاط إلى قبره.
(2) في ثلاث نسخ بإسقاط التردد إلى.
الدمعة يبكي ويبكي أكثر الحاضرين معه إلى أن قربت صلاة العصر فذهب لزاويته قرب الجامع فسمعه من في المسجد له حركة اغتيال ثم رجع إلى صلاة العصر فلما فرغ منها رجع إلى زاويته فمات بعد صلاة العصر من يوم الجمعة فدفن صبيحة يوم السبت وخرج الناس لدفنه وخرج أمير بجاية وقد انكسر كذا كذا نعشا تحته رحمة ورغبة فيه ومن كراماته رحمه الله تعالى انه كان يعبد الله في خلوة بشاطئ البحر فإذا سفينة من النصارى فأخذوه ورفعوه في السفينة فلم تتحرك بهم فأمرهم صاحبها برده إلى مكانه وقال انه من رهبان المسلمين فلم تتحرك أيضا فقال لهم أبقي من حوائجه شيء فوجدوا سجادة فردوها له فلم تتحرك حتى أخرجوا عصاه وأبريقه فتحركت حينئذ (1) ومن كراماته أيضا لما ذهب إلى الحج كما ذكره الغريني (2) لم يحج من عامه ذلك بان بقي بالشام عامه ثم أنه دخل على بعض الأولياء من رجال الغيب فقعد معهم مدة وكان لا يكلمه إلا واحد منهم غير أنهم إذا وصلوا المغرب قام واحد منهم يأتي (3) بمائدة من طعام ثم أنهم لا زالوا كذلك إلى أن وصلت نوبته فأمره مكلمه بان يذهب ليأتي بما يأتون به فذهب فلم يخيبه الله فأتى به أو أحسن (4) فكان معهم كذلك إلى أن وصل وقت الحج فودعهم وخرج معه صاحبه ومشى معه ساعة فأوصاه فقال له بلغ سلامي لفلان السافي في زمزم وأمسكه من إصبعه السبابة أو الإبهام فلما وصل بلغ وصيته ومسكه من ذلك الإصبع فقال السافي أن فرغت من مناسكك فارجع إلى فلما قضى مناسكه رجع إليه فقال الآن صلينا على صاحبك الذي ودعك وأوصاك إلينا ثم مسكه فأصبحه في وطنه أي بوادي شوشوان كأنه متيقظ من النوم فوجد راعيهم عند رأسه فذهب معه إلى البيت اه ـ وهو حسناوي
__________________
(1) في نسختين بإسقاط حينئذ.
(2) في نسخة صاحب العنوان بدل الغبريني وفي نسخة بياض هنا.
(3) لياني.
(4) في نسخة اولا حسنا.
من بني عيسى وبلدهم معلومة بقرب الجزائر ودفن معه الولي الكبير ابن عربي غير الحاتمي وغير الحافظ وإنما هو أمي على صورة البله يلعب بقصبة وقد قال صاحب عنوان الدراية ما نصه انه ضربها يوما من بجاية فوقعت في وجه النصارى في الأندلس فانهزموا بإذن الله تعالى إذ أرخوه فوجدوه كذلك والله اعلم ومن كراماته انه كان بالشام فجاءت سفينة لبعض النصارى تريد بجاية فأعطى صاحبها مزودا يبلغه إلى بجاية أعطاه إياه يوم الجمعة إلى الجمعة الأخرى وصلت السفينة بجاية ببركته نفعنا الله به آمين فوجدوه في بجاية فقال النصراني هذا أعطاني مزوه يوم الجمعة وخلفته في الشام وقت كذا من ذلك اليوم فأخبره أهل بجاية بأنه يوم الجمعة ذلك الوقت كان هنا فتعجب صاحب السفينة من أمره فأسلم ببركته وحسن إسلامه نفعنا الله بجميعهم بمنه وكرمه آمين.
وأما الشيخ سيدي المليح فلم أحفظ من أمره شيئا إلا أن أهل بجاية يعظمونه غاية التعظيم ويعدونه من أهل التصريف وكذا سيدي عيسى وجده سيدي علي البكاي إلا أن جده والله أعلم قد ذكر فيه صاحب عنوان الدراية كلاما في طبقته وان له زاوية عظيمة الخ ما ذكره والله اعلم.
وأما الشيخ سيدي أبو علي المسيلي فقد كان حجة في بجاية وتولى القضاء فيها مع كونه مدرسا للعلم وكان يقرئ الجن من الليل والإنس في النهار وكان معظما في بجاية ومن تعظيمه أنه لما دخل الموارقة (1) بجاية وكانوا يلثمون وجوههم فطلبه السلطان [في المبايعة فأبى وقال والله لا أبايع شخصا لا أعرفه رجلا أم امرأة](2)
__________________
(1) في نسخة لمتونة.
(2) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
فكشف (1) السلطان عن وجهه ليعرفه فلما رآه بايعه حينئذ وتولى القضاء بعده (2) ابن الخطيب وأبو علي مشتغل بتدريس العلم فغار منه فبعث له رسولا ليخرج من بجاية فلما جاءه الرسول وجده في مجلس العلم وقال لحفيده قبل أن يكلمه الرسول خذ مصحفا وأقرأ لنا شيئا بعد التعوذ فأخذ المصحف وتعوذ ثم قرأ وأتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم أفضوا إلي ولا تنظرون الآية فانتقع وجه الرسول ورجع وفي أثناء الطريق وجد رسولا من القاضي ليرده بأن لا يخبر الشيخ بذلك لأنه أتته ضربة من الله كادت أن تهلكه فلما وصل الرسول أخبره أمر الشيخ مع حفيده فتعجب ابن الخطيب ثم استرده إليه ليجعله في حل بصرة من الدراهم فرجع ووضعها بين يدي الشيخ وقال له يطلبك أن تجعله في حل فقال الشيخ جعلناه في حل وأمره برد الصرة وأبى أن يأخذها اه ـ ومن كراماته بعد موته أيضا أن شخصا من تونس له صديق في بجاية مات يراه دائما في النوم يعذب ولما مات أبو علي المسيلي رآه في نعيم وسرور وسأله عن السبب وكان مدفونا في جبل خليفة فقال له لما مات الشيخ غفر الله لمن كان بين أطراف المدينة من قبره إلى الجبل ضيافة له وهدية نفعنا الله به آمين.
ثم إن ذلك الرجل احتمل من تونس إلى زيارة الشيخ فلما وصل إلى بجاية سأل عن قبر الشيخ وهو يتصبب عرقا وقبره متلبس بين أربعة قبور فينبغي للزائر أن يعينه بالنية فلما زاره أخبر بالقصة اه ـ والدعاء مستجاب عند قبره ويسمى أبا حامد الصغير ومن تآليفه التذكرة والنبراس في الرد على منكر القياس وقد رأيت الشيخ عبد الباقي يقول قال صاحب النبراس وهو من أواخر القرن السادس.
__________________
(1) في ثلاث نسخ فأزال.
(2) بعد.
وأما الشيخ سيدي التواتي فهو من القرن التاسع أيضا ولي صالح كبير الشأن عالم على الإطلاق وله مؤلفات كما كنا نسمع وهو عند أهل بجاية من أهل التصريف وقد سمعنا أن فتواه لا ترد إلى توزر وهو المعاصر للشيخ سيدي يحيى العيدلي وله زاوية وطلبة إلى الآن وخدام في الجبل وغيره نفعنا الله به آمين.
وأما سيدي سعيد العلمي فلم أحفظ من أخباره شيئا إلا ما ذكره عنه سيدي عبد الرحمن الثعالبي وعن الشيخ سيدي عبد الرحمن الوغليسي صاحب التآليف المعلوم في الفقه الذي شرحه سيدي عبد الكريم الزواوي شرحا كبيرا فيه من العلوم ما يغني الناظر عن غيره وطريقته رضي الله تعالى عنه طريقة ابن أبي جمرة وصاحب المدخل وشرحه سيدي عبد الرحمن الصباغ أيضا وسيدي عبد الكريم هذا كان ينقل عنه الشيخ عبد الباقي وغيره وقد زرت قبره في بلده أعني بني يتورغ من زواوة إذ قال رجع سيدي سعيد العلمي من بعض نواحي بجاية إليها فلما قرب وجد الباب مغلقا فرجع إلى قبر سيدي عبد الرحمن الوغليسي فبات عنده وإذا الشيخ سيدي عبد الرحمن قام من قبره وأصحابه من بجاية مجتمعون عليه يقرئهم ويعلمهم إذ مات رحمه الله تعالى وترك ختمة لم تكمل فكملها لهم في قبره بعد موته وهي كرامة عظيمة للشيخ سيدي سعيد وللشيخ سيدي عبد الرحمن ولتلامذته نفعنا الله بجميعهم وجعلنا في زمرتهم ورزقنا العافية وجمع شملنا بأهلنا ونصرنا على السنة وإظهارها بمنه وكرامه آمين.
وقال الشيخ سيدي عبد الرحمن الثعالبي دخلت بجاية في أواخر القرن الثامن فوجدت أصحاب الوغليسي متوافرين.
وأما سيدي محمد امقران فكان من أكابر الأولياء وهو من القرن العاشر يعني آخره وأخذ من الحادي عشر وكراماته ظاهرة وأحواله باهرة فلا يحتاج لذكرها.
وأما سيدي عبد الرحمن الصباغ فتآليفه تنبئ عنه وكلامه (1) يدل عليه فليس إلا من أهل الشأن والتصريف وهو من القرن التاسع نفعنا الله بكلهم بمنه وكرمه آمين وبالجملة ففضل بجاية مشهور وعلم أهلها مذكور قال الشريف التلمساني دخلت بجاية في القرن الثامن فوجدت العلم ينبع من صدور رجالها كالماء الذي ينبع من حيطانها فرت أكتب في كل مسجد سؤالا وأتركه هناك حتى وصل أمره إلى السلطان.
وقال الشريف بعد أن خرجت من بجاية دخلت تونس فوجدت ابن عبد السلام يقرئ ما رأيته قط ولا رآني نعم لما سألته قال أظنك أنت الشريف التلمساني قلت له أظنك أنت ابن عبد السلام فتصفح معرفتي من كلامي وتصفحت معرفته من كلامه وقد سمعنا (2) أن بجاية فيها خمسمائة صبية يحفظن المدونة وإما اللاتي يحفظن ابن الحاجب فلا يحصى عددهن إلا الله تعالى حاصله جعلنا الله في زمرتهم وأفاض علينا من بركتهم بمنه وكرمه آمين.
ولما ودعت أهل بجاية رجعنا إلى دارنا عازما على السفر وجاءنا الركب من جبل زواوة نحو الثلاثمائة رجل واشتغلنا بهم إلى أن ذهبوا إلى قسنطينة ثم إلى تونس ليذهبوا في البحر وفيه أفاضل وأكابر وساعدهم فضلاء الركب نعم صرنا في توديع الناس من كل بلد من حمزة ووانوغة ووادي بجاية وغيرها وبالجملة فوطننا طيب فيه العلم وبعض الكرم للغريب وفيه الزيتون والعنب والتين بكثرة والحرث غير أن الوطن عزيز غال (3) وسبب ذلك كثرة الناس غير أنه خال من السلطان وأحكامه
__________________
(1) كلا وكل وكلما.
(2) في نسخة سمعت.
(3) غالي.
فالوطن سائب عمره الله بالأحكام الشرعية وأزال منه الفتنة وبدل ذلك بالعافية الدائمة وكذلك الغالب عليها البرد والثلج وبالجملة فنسأل الله تعالى أن يعمره على يد سلطان عدل فلما حان السفر وآن جمعت طلبتي وأمرتهم بالاشتغال بالعلم والمودة بينهم والطاعة لله تعالى عمرهم الله تعالى على الدوام بالعلم والعمل مع أولادنا الذكور إلى غابر الدهر بجاه من ذكرناه آمين.
ولقد علمت أن من أراد مثل هذا السفر إذ سفر الحج سفر ينسبه طريق الآخرة فينبغي أن يعتني به غاية الاعتناء لما فيه من كثرة الحسنات سيما فعل المعروف فإنها طريق للمحسنين والله يقول ما على المحسنين من سبيل يحتاج إلى نية عظيمة وصدق قوي وهمة عالية وإخلاص كبير لأن عمل الطاعة كله إلى الإخلاص لله تعالى لأن الله يقول إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء نعم الحج أقواها في طلب الإخلاص إذ كثير ما يدخل الرياء فيه لما علمت من كثرة خوف الأهوال فيه والمسافة البعيدة وملاقاة الناس فنجد الحاج يحكي للناس في وطنه وغيره أنه وقع في الدرب كذا وفي مكة [وفي المدينة وفي مصر كذا وفي برقة كذا وفي البحر كذا وفي الموضع الفلاني](1) كذا [فيقع فيه السمعة والعجب والرياء وبعض الكذب إذ لا يخلوا المخبر بالوقائع الماضية عن](2) الزيادة والنقصان فيقع في الكذب قطعا والغالب أنه ينوي (3) بحجه المفاخرة وليقال انه حج [فغالب عامة الحجاج يقصدون ذلك فيغلب عليهم الرياء ولهذا](4) قال الله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله ولم يقل في الصلاة ذلك ولا في الزكاة ولا في غيرها من الأعمال الصالحات نعم من فتح الله عليه
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(2) في نسخة يحكي الأحوال الماضية من الزيادة الخ عوض ما بين القوسين.
(3) في نسخة يروم.
(4) ما بين القوسين ساقط في نسخة وفيها وقد قال عوض ولهذا قال.
وسبقت له السعادة إذا وصل إلى بيت الله الحرام ورأى تلك الأماكن الشريفة ودخل تلك الجموع المباركة يغفر الله تعالى له لكثرة المغفورين إذ لا يخلو الموسم العظيم أعني عرفة عن رجال الغيب وأهل التصريف كالقطب وغيره والأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام والخضر وإلياس فمذهب أهل (1) الفضل الغفران لجميع الحجاج وأما قول خليل وصح بالحرام وعصى فمذهب فقهيّ قلت في الحجة الأولى اجتمعنا مع الشيخ الولي الصالح العالم الواضح الورع الصدر العارف بالله تعالى الزاهد العالم بالمذاهب كلها المربي لأصحابه بحسن التربية الموافقة للشريعة والحقيقة وما أحسنه معرفة وأدبا وورعا وزهدا وصحبة وكان متقشفا سيدي محمد المغربي (2) الطرابلسي رحمه الله ونفعنا به آمين قال لنا عام ثلاثة وخمسين ومائة وألف (1153) العام الذي قبل العام الأول لم يقبل الله من الحجاج إلا سبعة وباقي الحجاج رجع خائبا غير أن السبعة المقبولين أقبلوا على الله بالتوجه بالطلب والسؤال والمغفرة لأهل الموسم (3) إلى دخول رمضان فأول ليلة منه تقبل الله منهم وغفر لأهل الموسم وأما العام الأول فقد خرج من فاس رجل لأجل أهل الموسم ليغفر الله لهم فلما وصل إلى عرفة فقال والله ما خرجت من هنا حتى تغفر (4) لجميع أهل الموسم فلم يخرج منه حتى غفر الله لهم فعمت المغفرة الذين لم يحجوا بأن جاءوا للنزهة (5) أو للسوق فقال قول خليل وصح بالحرام وعصى مذهب فقهي وأما مذهب أهل (6) الفضل فيغفر الله لجميع من حج وبالجملة فالعناية حاصلة لمن وصل إلى حرم الله وحرم رسوله وكيف
__________________
(1) بإسقاط أهل في أربع نسخ.
(2) العربي والمعربي والمعزي.
(3) في نسخة وأما العام الأول إلى دخول رمضان.
(4) في نسخة يغفر.
(5) في نسخة للتنزه.
(6) بإسقاط أهل في أربع نسخ.
لا و (1) أن الصلاة في مسجد مكة ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم تعدل ألف صلاة في غيره أو كما قال صلى الله عليه وسلم وأن الدعاء في عرفة ومزدلفة والمشعر الحرام ومنى ومسجده وعند الرمي وعند الملتزم وعند الحطيم وزمزم وعند الحجر وغيرها مستجاب وبالجملة فينبغي أن ينوي بسفره رضى الله تعالى وأن يشغل نفسه بالتوجه إلى الله وإلى بيته ومواجهة نبيه صلى الله عليه وسلم ومواجهة أصحابه وآله وعترته ومواجهة أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام وأن ينتظر شفاعتهم بأن يتعلق بهم بحيث ينوي الانتقال من أوصافه المذمومة إلى الأوصاف المحمودة والسفر من الخلق إلى الخلق ومن طبائعه الردية إلى السجايا السنية وإن كانت غير مكتسبة إلا أن أسبابها مكتسبة وينوي أيضا أن يكون من وفد الله تعالى وضيوفه وإن يقصد أيضا إجابة الداعي الذي هو الآذان وأن يحمد الله ويشكره لما أن جعله من أهل الإجابة ومن الذاهبين لبيت الله تعالى ألا ترى إذا ذهب الإنسان إلى بيت قريبه يفرح فرحا عظيما ويسر سرورا كبيرا (2) فكيف ببيت ربه سبحانه وينوي إغاثة المضطر ما أمكنه بماله أو جاهه وأن يعلم الجاهل إن كان من أهل العلم أو يسأل العالم إن كان جاهلا وأن ينوي الزيارة لأحباب الله الأحياء والأموات في كل وطن يدخله سواء من يعرفه أم لا وإن يعتبر ويوحد الله فيما يراه من عجائب المخلوقات ولذا اختار الأكابر سكنى المدن الكبار من الأمصار للتوحيد والاعتبار [وأن يكف لسانه عن القيل والقال إذا أكثره فيه معصية الله تعالى](3) وأن يشغل جميع أعضائه بما فيه رضى الله تعالى وأن يختار من الأخوان ما يزداد به إيمانه للصحبة وأن لا يشترك إلا مع من كان كنفسه بحيث إذا تصرفت في ماله لا يتغير كما إذا تصرفت في مالك
__________________
(1) بإسقاط الواو في أربع نسخ.
(2) في نسختين فرحا شديدا ويسر سرورا عظيما.
(3) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
وإلا فلا وأن تتولى شراء ما تستحقه بنفسك لتسلم من المعاملات الفاسدة أو توكل من لا يتساهل في الأحكام الشرعية وأن يكون عالما وان تجعل من كان في الركب (1) كنفسك بان تجعل الكبير أبا لك والصغير ولدا لكل والمساوي أخا لك فلا ترضى لأبيك ولا لأبنك ولا لأخيك إلا خيرا وان لا تخالط الأغنياء أصحاب الترفه بان تستحقر نفسك ما عندها من المال فلا تحمد الله على ما أعطاك ويتعلق قلبك بمعالي الأمور حتى ينسى ما ذهب إليه بل من كان أدنى منك لتشكر الله على ما أولاك إذ من السنة في نفسك أن تنظر في أمور الآخرة من هو أعلى منك لتغبط حاله وتحمل نفسك على ذلك وأما أحوال الدنيا فتنظر من كان أقل منك لتشكر الله تعالى فتنموا أحوالك بإذن الله فيستقيم أمرك وان تعتمد على الله في جميع أحوالك ظاهرا وباطنا وان تودع من تركته من الأهل والأخوان والجيران لله تعالى لأن وديعته لا تضيع وان لا تذهب من بيتك حتى تقضي جميع ما كان عليك من حقوق الخلق لأن من أكل لأخيه المسلم ظلما دانقا [وهو](2) سدس الدرهم أعطى فيه يوم القيامة سبعين صلاة مقبولة وقيل سبعمائة صلاة مقبولة فمن ظلمته أخذ من حسناتك وأن لم تكن لك حسنة أخذت من سيئاته لسيئاتك فلا تترك شيئا عليك وان ظننت أنك غفلت شيئا مما هو عسى أن يكون عليك فاجعل نائبا يتعاهد أمورك ويقضي ما كان عليك كما يقضي ما هو لك على الوصف المتقدم من العلم وعدم التساهل وان تترك ما يكفي من تجب نفقته عليك فتغسل ظاهرك عند سفرك وباطنك بالوجوه السابقة مع التوبة من كل مخالفة صدرت منك في الماضي لتكون صالحا لدخول حضرته هذا في الحقوق المالية.
__________________
(1) في نسخة المركب.
(2) ما بين القوسين ساقط من أربع نسخ.
وأما الأخرى (1) كهتك الأعراض وغيرها مما لا يتمول (2) فلا بد أن يجعلك صاحبها في حل إن كان لا يتغير إن ذكرت له ذلك وعينته وإلا فاطلبه على الجملة إن كان لا يفهم التفضيل وإلا فاطلب له من الله المغفرة والإحسان إليه وكذلك إن كان ميتا فادع له بالرحمة ليتولى الله ذلك عنك وان تختار من مالك الحلال لتتزود به إن وجدته وأن تزجرا أصحابك عن الجدال والمنازعة عند الماء والنزول بان يصبروا ويتخلفوا فيجدوا ما كتب لهم فالذي يختاره الله للعبد أولى مما يختاره لنفسه ولعل الله ينظر إليه بعين الرحمة دائما أنظر للشيخ عبد الكريم الزواوي على الوغليسية فانه أجاد في نصح العبد وأعانته على ما فيه رضاه.
وكذا يصحح توبته ويقيم طريقته ليستقيم الإنسان كما أمر فإذا عزم الإنسان على الحج فلا بد أن يعلم فضله لتنشط نفسه لذلك ويسهل عليه أمر ماله إذ يصعب على النفس مفارقته وكذا تعب النفس في السفر ولذا ينبغي له أن يختار زمان البرد لشدة زمان الحر عليها فإذا علمت هذا علمت أن الحج من أفضل الأعمال وأولاها عند الله تعالى.
ولذا قال الشيخ خليل في مناسكه ما نصه ورد في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام انه قال من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه والرفث هو الجماع وقيل الفحش من القول والفسوق المعاصي وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام انه قال العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة والمبرور هو الذي يخالطه مأثم وقيل المقبول وقيل ما لين فيه الكلام وأطعم فيه الطعام ومشى في مناسكه ومشاعره اه.
__________________
(1) في نسخة غيرها.
(2) في نسخة ينمو.
وقال أيضا ما نصه الفصل الثاني في آداب السفر فإذا وجب عليك الحج فيجب أن تعرف أحكامه وما يلزمك فيه لأن الإجماع أنه لا يجوز لأحد أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه فأول ذلك يستحب له أن يشاور من يوثق به في دينه وعلى من يشيره أن يبذل النصيحة له ويتخلى من الهوى وحظوظ النفس ثم يستخير الله عز وجل وهذه الاستخارة لا تعود إلى نفس الحج لأن الاستخارة في الواجب والمكروه والمحرم لا محل لها وإنما تكون الاستخارة هنا هل يشتري أو يكتري وهل يرافق فلانا أم لا وهل يكتري مع فلان أم لا وغير ذلك وهل يسير في البر أو البحر أو في هذه السنة أو في غيرها على القول بالتراخي.
وصفتها يصلي ركعتين من غير الفريضة قال بعضهم فيقرأ في الأولى بقل يأيها الكافرون وفي الثانية بقل هو الله أحد وأن قرأ بغيره جاز ثم يقول اللهم إني أستخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فأنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن ذهابي إلى الحج في هذه الحالة ويذكرها خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله فأقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه وأقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به ، ثم ليمض بعد الاستخارة لما انشرحت له نفسه ويبدأ بعد تحققه بالعزم بالتوبة من جميع المعاصي ورد التبعات من الديون والودائع والعواري والاستحلال من غيره فان عجز عن الاستحلال من بعض الناس لموته أو لخشية زيادة الفتنة فليلجأ إلى الله تعالى فانه يرجى من كرمه لمن لجأ إليه في ذلك أن يرضي عنه خصمه يوم القيامة ويستحلب له أن يكتب وصيته ثم ينظر في أمر الزاد وما ينفقه فيكون من أطيب جهة لأن الحلال يعين على الطاعة ويكل عن المعصية وكان السلف رضي الله
عنهم يتركون سبعين بابا [من الحلال خوفا من الحرام](1).
ولما كان الضمير متعلقا بمن تعلق بالرب الكريم وتاقت نفسي إليهم غير أن صلحاء بلدنا لم يتعرض لهم أحد قبل ولا بعد لعدم الاعتناء وضيق المعيشة أردت التنبيه عليهم على سبيل الإيجاز والاختصار مع البيان والاستفسار نعم أذكر ما دون وادي آقبو.
وأما جبل زواوة فهو منفرد وأولياؤه شهرتهم تغني عن ذكرهم وتعظيمهم يقوم مقام بيانهم وتبيانهم وجميل (2) آثارهم فلم يبق إلا ذكر هؤلاء ليتم المقصد الرحماني والنور الرباني فأقول وعلى الله أعول.
منهم الولي الصالح والبدر الواضح الذي يستجاب الدعاء عند ذكره وانه ممن يبر الله قسمه وكذا أولاده المنورون يبر الله قسمهم ويقبل دعاءهم سيدي أحمد بن يحيى نفعنا الله به وجعلنا من أهل وده ونسبه يتصل مع نسب أهل عروس من بلد زواوة وهم مشهورون وكذا فرقة في أتّوجة جبل بقرب بجاية وانه من قبيلة مزينة وكان في أواخر القرن التاسع وهو تلميذ ابن غازي هكذا تصفحت أخباره رضي الله عنه وكراماته كثيرة ينبغي للعاقل أن يزوره ويزور من دفن معه فان أكثرهم صلحاء وقد سمعت الفاضلة الصالحة المنورة زوج سيدي محمد بن قرّي تقول إني ذهبت غيبا مع رجال الغيب لقضاء حاجة من أهل التصريف فلما وصلت إلى قبر الشيخ قام معي الشيخ ومن دفن معه للاجتماع مع أهل التصريف وكان الذي يتكلم في ذلك الديوان هو الشيخ سيدي أحمد بن يحيى إلى غير ذلك نفعنا الله به وأما شرفه فإنهم
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في أربع نسخ وفيها ما نصه سقط من الأصل هنا نحو ورقة ونصف وتخلف بياضا.
(2) في ثلاث نسخ فحصحص.
يقال أنهم شرفاء والله أعلم.
وكذا أولاد الشيخ أم رزق وجدهم صالح ومنهم الشيخ سيدي الوفق صالح زاهد ورع خديم الطلبة وكان ينفق عليهم وهم يشتغلون (1) بالعلم بان يأتي لهم بمدرس وكان محبا لوالدنا وجدنا نعم يحب الجانب العلي أعني الأشراف بحيث لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا معهم بل أنه مملوك لهم وقد غلب عليه القبض نفعنا الله به وهو تلميذ سيدي علي بن الطالب وأوصافه الطيبة وأخلاقه السنية لا تكاد تحصى رضي الله عنه وأرضاه بمنه.
وكذا ابن عمه الفاضل العالم الفقيه الفرضي (2) سيدي علي بن أم رزق من أجل أهل وقتنا وأهل عصرنا فقد نفع وانتفع نفعنا الله به.
ومنهم الشيخ سيدي أمزال قبره في قرية الجمعة وعليه مسجد وأهل إمتين يعظمونه وهو في الصمعة (3) نفعنا الله به وأما تاريخ فلا علم لي به ونسبه والله اعلم من جملة من هو معه غير أنه أقبل على الله فأقبل عليه وهو أظنه قريب.
ومنهم الفاضل الكامل المجرد عن الخلق واعتزلهم طرا بل الذي اعتقده انه اعتزل الخلق واتصل بالحق وهو فقيه متكلم فقد انفرد في زماننا بالتسجيل وجودة الخط سيدي أحمد زروق بن الحاج نفعنا الله به وكان صديقا ملاطفا لأبي تخلف عنه ثم بقيت صبحته لنا كذلك إلى أن مات في مصر بعد رجوعه من الحج وقد سافرنا معه إلى تونس نريد الحج فلم يتيسر لنا ولا له ذلك العام وبقي هو في زاوية الولي
__________________
(1) في نسختين يشغلون.
(2) في أربع نسخ الفرائضي.
(3) كذا في جميع النسخ.
الصالح الزاهد في الدنيا على الإطلاق الكريم كل الكرم سيدي أحمد المجذوب الزموري وقد دفن في جبل افريقية عند ولده الفاضل ونخبته الكامل سيدي ابن الحاج إلى العام القابل فحج نفعنا الله به.
ومنهم بدّيمان (1) على ما قيل انه ولي صالح وضريحه يزار دائما وظن أهل وطننا أن ممن ذهب إليه تقضى حاجته وان فيه رجال الغيب حسبما اتفق عليه أهل وطننا وأني سمعت في صغري من بعض الصالحين من أهل السياحة يقولون ذلك حق وصدق.
ومن العامة المرابط سعيد بن هارون فأني سمعت من أبي انه كان يعلم الفجراي طلوعه وهو في بيته مدة طويلة وكان لا يفتر عن ذكر الله تعالى وهو صديق له وانه إذا ذهب إلى الخلاء امسك لسانه وقد تخلف في الحياة بعد موت أبي وصاحبني مدة وهو رجل كبير السن كبير الشأن وكذا ابن عمه يقرب من سنه وشأنه.
وكذا المرابط علي بن درار وهو من شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان كلامه بالعربية لكان يكتب بسواد العين لما فيه من العلم اللدني وقد كان يرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعمى رضي الله عنه ونفعنا به آمين.
ومنهم سيدي علي بن جاب الله كان صديقا لأبي وكان رضي الله عنه في غاية الترقي في العبادة والذكر وتهذيب الأخلاق وغير ذلك من أوصافه.
ومنهم سيدي يحيى الشريف ابن رقية في قرية ويزران هاجر من بني عمه وفر بنفسه من قرابته ليكمل أمره ويظهر سره وهو من شرفاء العش شريف النسب وهو
__________________
(1) في نسخة بديماي.
من أهل العلم والصلاح مجاب الدعوة خديم العلم وأهله من القرن الحادي عشر نفع الله به وبأمثاله جميعنا.
ومنهم الشيخ الولي الصالح والغيث السائح الشريف نسبا كما هو عند ابن فرحون في طبقات الشرفاء سيدي أحمد بن عبد الرحمن نفعنا الله به وهو من تلامذة الشيخ سيدي يحيى العيدلي وأولاده الآن معلومون بالجور والتعدي والظلم في مجانة بتخفيف الجيم أمراء ومحاربون ولعل جدهم يشفع فيهم وفينا وهو في القرن التاسع وولده هو الذي بنى قلعة بني عباس وأقام المملكة فيها بان أسس العساكر (1) وجيش الجيوش وأخذ المغرم في القرن العاشر بان وصلت عساكره عمالة تونس ووادي ريغ في الصحراء ومن جهة المغرب مزاب وبلد الأغواط وهم كذلك في المملكة ثمانون سنة كما سمعته من بعض الفضلاء من علماء القلعة وآخرهم في مملكة القلعة سيدي ناصر هو فاضل عالم زاهد وقد قيل انه من زهده يلبس الغرارة شعارا على لحمه وقد رتب طلبة العلم نحو الثمانين طالبا فحسده مناحيس بني عباس على ذلك فقتلوه مكرا وخديعة فمزق الله جيوشهم وأضل عسكرهم أعني عسكر بني عباس فلم يبق فيهم ذلك بل أضلهم الله بسببه وأهلكهم من أجله وكان بعض علماء فاس يقول في مرثيته قصيدة رائية (2) وهي عندنا في عندنا في الزاوية [في العقل انه عمر](3) ويقول في بني عباس :
فلعنة
الله ثم الخلق قاطبة |
|
على
المجوس بني عباس ما ذكروا |
أن
عاهدوك فقد خانوا على ثقة |
|
أو
حالفوك (4)
فأيقن أنهم فجروا |
__________________
(1) في نسختين عساكر.
(2) في نسختين رأيتها.
(3) ما بين القوسين ساقط في نسختين وفي نسخة في العدل أنه عمر.
(4) في نسخة واحلفوك.
وعدد أوصافهم من الخيانة والغدر والخديعة ما يحمل السامع على الفرار منهم والنفرة من ساحتهم إذ هم على تلك (1) الأوصفا إلى الآن بل زادوا ضلالا ومكرا وخديعة في العهود وقلة الحياء والهيبة في الحدود وأولاده على المملكة في مجانة تحت ولاية الترك غير أن حكمهم عليهم ضعيف نفع الله به جميعنا وأمور أمراء القلعة معلومة عند أهلها ومنهم جد أولاد الطالب (2) فانه من أولياء الله الصالحين ولا اعلم من أخباره شيئا إلا أن أولاده فضلاء لا يخلون من العلم وجميعهم فيه البركة نفعنا الله بهم.
ومنهم الولي الصالح الرباني سيدي محمد ابركان قبره عند أولاد (3) السيد أحمد بن عبد الرحمن في الوادي معلوم يزار ويعظم وأولاده أين ما كانوا في بني عباس وغيرهم علماء فضلاء أجلاء يقتدى بهم ولهم العلم الصحيح والصدق الصريح.
ومنهم سيدي أحمد زروق المذكور وغيره.
ومنهم أولاد تبونداوث فضلاء نجباء فقهاء مفتون وفيهم البركة إذ العلم كله بركة وقد سمعنا أنهم من بجاية نفعنا الله بهم وبأمثالهم وأنهم قضاة من العهد الأول إلى الآن بارك الله فيهم.
ومنهم أولاد سيدي عبد الحليم الساكنون في قرية من قرى بني عباس فضلاء كرماء علماء صلحاء إلى الآن نفعنا الله بهم وبأمثالهم من ذرية سيدي عبد الحليم.
ومنهم شرفاء بوجليل من الزمان الأول هم على الخيرة والبركة القوية والأنوار
__________________
(1) في نسختين إذ على تلك الأوصاف وفي نسخة وهم على تلك الأوصاف.
(2) في نسخة الطيب.
(3) في نسختين والد وفي نسخة ولد.
السنية وهم شرفاء نسبا وهم من قرابتنا بان اجتمعنا في الجد الأول ما نسمعه من أعالي (1) أسلافنا فبركتهم معلومة وبرهانهم مشهور وكرمهم مأثور رضي الله عنهم ونفعنا بهم وكان لنا ولهم بمنه وكرمه.
ومنهم المعظم بالاتفاق (2) سيدي أحمد بن يوسف الولي على الإطلاق يعتقده العام والخاص نفعنا الله به وهو في حنديس قرب الوادي ولا أعلم هذا وأولاده معظمون عند أهل وطنهم ولا يخلو بعضهم من العلم والبركة في جميعهم رضي الله عنهم وقد سمعنا من بعضهم أن جدهم يقرب من الشيخ المعلوم صاحب الفتح والخرف الواضح سيدي أحمد بن يوسف الملياني الذي كان حجة الله في أرضه إلى الآن والله اعلم.
ومنهم سيدي محمد بن محرز قبره بالقلعة ظاهر البركة قوي التعظيم قبره يزار وأهل القلعة يظنون أنه سترهم والله اعلم.
ومنهم أولاد معمر فضلاء علماء صلحاء ذوو بركة عظيمة ونتيجة قوية نفعنا الله بهم.
[ومنهم أولاد أبي جمعة (3) فهم فضلاء صلحاء محل العلم وأهله فقهاء أئمة خطباء نفعنا الله بهم](4).
ومنهم المرابط سليمان وكان صالحا متعبدا في زماننا لا نظير له زاهدا معلوم
__________________
(1) في نسخة بإسقاط أعالي.
(2) في نسخة بإسقاط المعظم بالاتفاق.
(3) في نسختين أولاد بو جمعة.
(4) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
البركة رضي الله عنه ونفع به جميعنا آمين.
[ومنهم ومنهم أولاد أبي ذئب صلحاء علماء ذوو بركة نفعنا الله بهم](1).
ومنهم سيدي سعيد وهو والد (2) سيدي أحمد بن يدير ذو بركة قوية ومن أجلها خرج ولده طيبا صالحا عالما فقد انتفع به أهل زمانه أي انتفاع.
ومنهم سيدي سراج ذو بركة عظيمة ورحمة مشهورة معلوم الذكر صيته منتشر في وطنه كراماته مشهورة وأولاده فضلاء كرماء فقهاء علماء يقع بهم الخير والصلاح والنفع والنجاح نفعنا الله بهم.
ومنهم أولاد ساسي معلومون بالبركة والصلاح والاعتقاد والتعظيم نفعنا الله بهم.
ومنهم سيدي أحمد بن علي صالح صاحب اتكال ولي معلوم البركة والتعظيم وقبره يزار وانه منور انتفع به العام والخاص رضي الله عنه.
ومنهم سيدي المسعود قوي البركة ولي صالح أولاده صلحاء فيهم بركة عظيمة نفعنا الله بهم آمين.
ومنهم سيدي سليمان ولي صالح كبير الشأن عظيم الحال ولي معظم عند أهل وطنه وقبره يزار وأولاده صلحاء معظمون فضلاء كرماء رفع الله قدره ونفعنا به آمين.
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(2) في نسخة ومنهم والد سيدي أحمد بن يدير وفي نسخة ومنهم والد سيدي سعيد وهو سيدي أحمد بن يدير وفي أخرى سقط جميع ما ذكر في شأنه.
ومنهم سيدي عمر في قرية ترق هؤلاء كلهم قرب مجانة وهو ولي صالح كبير الشأن عظيم في الأعين أولاده معظمون راغبون في العلم وأهله وهم على العهد الأول من القراءة والأخلاق السنية والأوصاف الحميدة فأكثر أولاده (1) يتعلمون علينا نفعنا الله بهم وبأمثالهم.
ومنهم الولي الصالح سيدي أبو التقي معلوم البركة قوي النفع معظم عند أهل مجانة نفعنا الله به.
ومنهم سيدي موسى الولي الصالح كبير الأمر عظيم السر أولاده فضلاء معظمون عند أهل مجانة وأهل جبل عياض وأظن أنه من القرن التاسع كما وجدته في بعض الرسوم نفعنا الله به.
ومنهم أولاد العياض ومن معهم رضي الله عنهم علماء كرماء أدباء فضلاء محبون للعلم وأهله وأولاد سيدي أحمد مثلهم في الفضل والصلاح والشواثرة علماء أيضا صلحاء لا يخلون من العلم يرثونه خلفا عن سلف نفعنا الله بهم وبمن كان في ذلك الجبل.
ومنهم سيدي يدير الحاج ولي صالح معظم معتقد في بني يعدل أولاده معظمون صلحاء ذوو بركة وخير ونجاح نفعنا الله بهم.
ومنهم أولاد سيدي خروف معظمون فيهم العلماء والصلحاء والقضاة والمفتيون وهم شرفاء على ما اشتهر عندنا من كان في زمورة وبني يعدل نفعنا الله بهم.
__________________
(1) في نسختين أولادهم.
ومنهم سيدي سعيد الفرطاس ولي معتقد فيه وأولاده ذوو بركة عظيمة وهو من أخيار أهل زمانه وهو من القرن الحادي عشر [معاصر لسيدي لوهر](1) نفعنا الله به آمين.
ومنهم أهل تعروسين (2) معلومون بالبراكة وكذا أولاد ابقورة (3) فهم على كتاب الله عز وجلب والصلاح سيما سيدي لي فهو شيخ جدي وقد قيل انه لا يخرج منهم الأولياء وقد انتفع بهم العام والخاص.
وكذا سيدي أحمد صالح معلوم الولاية والبركة.
وسيدي أحمد أعشاب معلوم الولاية.
وكذا سيدي محمد بن صالح من أولاد سيدي الجودي فقد ظهرت كراماته في وطنه وغيره وانه مجاب الدعوة نير السيرة قوي البركة نفعنا الله بهم وبأمثالهم.
ومنهم الشيخ الفاضل الولي الصالح المعلوم النجاح سيدي محمد بن مصباح ذو العلم المتين والسر المبين وكذا أولاده فضلاء نجباء رضي الله عنهم وأرضاهم سيما من أدركنا سيدي أحمد زروق وسيدي أحمد بن المبارك فقد كان فيهم العلامة الفاضل المحقق الكامل محيى السنن سيدي الحسين نفعنا الله بهم.
ومنهم الولي الكامل والعالم الفاضل مقيم السنن ومنشر العلم سيدي محمد بن عبد القادر وأولاده فضلاء علماء أدباء جمعا فاوعوا سيما سيدي محمد بن عبد القادر
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسختين.
(2) في نسختين تاعورسين.
(3) في نسخة القورة وفي أخرى ابغورة.
وولده سيدي الموهوب فإنهما من فضلاء الوقت يقصدان للفتيا رضي الله عنهم وأرضاهم ونفعنا بهم وبأمثالهم آمين.
ومنهم الولي المشهور والطود المنصور صاحب الزاوية ذو العناية سيدي أحمد اغوبة ظاهر البركة قبره مزار معلوم لدى الخاصة والعامة يقصده الزوار من بعد وله طلبة إلى الآن وروضته بينة نفعنا الله به وأفاض علينا من بحر أنواره آمين وأظنه من القرن السابع كما سمعته من البعض والله سبحانه اعلم وله كرامات مشهورة ومناقب وقد سمعت من بعض من يوثق به انه يتصرف كما كان حيا فانه يغيث من استغاث به.
ومنهم الولي سيدي إبراهيم صالح مشهور عظيم الشأن معظم عند الناس بركاته ظاهرة ونوره قوي وسره صمداني وأولاده علماء صلحاء من لم يكن منهم عالما كان صالحا نفعنا الله به وبأمثاله والله اعلم انه كان في القرن الحادي عشر معاصر السيدي موسى الوغليسي ولا اعلم انه أخذ من العاشر أم لا والله اعلم.
وأما أهل ايلمان (1) على ما تقرر من رسم الأشراف انهم شرفاء من شرفاء ايلمان الوانوغي كذا رأيته مزبورا فيها فانه نص على أولاد عنان وهم ايلمان والحمد لله لا يخلون من أهل الخير رجالا ونساء وذلك معلوم عندنا فقد شاهدنا ذلك منهم نفعنا الله بهم وان كان فيهم أهل جرأة وتعدّ وقد ورد في الخبر أن الله ينظر إلى قوم فيهم الصالح نظر رحمة نقلته بالمعنى وأما لفظه والله اعلم فقد نسيته والحديث يجوز نقله بالمعنى بشروط انظر الشهاب في الآيات البينات على المحلي نعم ما وجد منهم مما (2) لا يحل من اجتماعه الرجال والنساء عند الرفض والبكاء والتباكي والصياح وذكر
__________________
(1) في نسخة ايلماين.
(2) في نسخة بإسقاط مما.
الشوق من غير اشتياق والعشق من غير عشق والحب كذلك وغيرها من الزهد فأنها من دسائس اللعين الشيطان الرجيم حرام باتفاق لا يقول أحد بحليته لما في ذلك من الفتنة ومخالفة السنة وإنما السماع المباح أن يكون مع أهله بشروطه الخالية من المحرمات ومع ذلك أنه دواء للمرضى من أهل الوله (1) وأما غيرهم من أهل البدايات كالمتمكنين فلا يكون ولا ينبغي في حقهم فهذه الفرقة غير معتبرة عندنا وإنما المعتبر من شد أزار الحزم والعزم للذكر والعبادة والاعتناء بنفسه وليس من هذا المجموع وهم موجودون والحمد لله وقليل ما هم.
ومنهم الولي الصالح الفاضل الناجح صاحب البركة قوي النتيجة (2) سيدي يدير بن صالح الجمهوري أصلا والعيدلي مسكنا التمغراوي (3) مدفنا تلميذ الشيخ سيدي يحيى العيدلي قد دفن معه في روضته نفعنا الله به فانه معظم غاية التعظيم وحبه ظاهر وأولاده ذوو بركة قوية وخيرهم مشهور وصلاحهم منثور وأمرهم مذكور ، فان الناس ينتفعون بهم ويعتقدونهم إلى الآن ولا يخلو البعض منهم عند الوجد الصحيح ، والحب الصريح ، فتجده انه يتواجد حقا ، ويحب صدقا ، وأنهم أهل السماع دائما على كل حال فمن طلبهم وافقوه وساعدوه على أي وجه فيه الرجال والنساء غير أن سماعهم في الغالب أولى من غيرهم والناس يأمنون شرهم ويعتقدونهم وان دلائل الشر خالية منهم غالبا إلا من قل منهم وندر وأنهم لا يفرون من العلم وأهله بخلاف غيرهم فهم أسعد حالا مما سواهم كما شاهدنا ذلك منهم وان الكل مخالف للسنة النبوية وأنه ليس بشروطه غير أن غيرهم يقصد البعض منهم
__________________
(1) في نسختين أهل الود وفي نسخة بإسقاط من أهل الوله وأما غيرهم وفي نسخة بإسقاطم من أهل البدايات.
(2) في نسخة السجية.
(3) في نسخة التمقراوي وفي أخرى التمغروي.
التوصل إلى الأغراض الفاسدة وهم والله اعلم سالمون من تلك المفاسد وان كان على غير الشروط نفعنا الله بهم حاصله جمعهم لا يخلو عن أهل الخير والبركة تحقيقا وبركة جدهم وشيخه القطب تنوب عليهم.
لطيفة لو أنهم انسلخوا عن ذلك رأسا أولى بهم وأجدر وأنور وأستر وأفقر وأحظ وأشعر وأذكر وأكثر واشهر وأقدر وأنصر وأعمر وأحذر أو أنهم فعلوه بشروطه مع أهله ومن أهله من غير حضور الشبان والنساء ومن لا بلاء له بذلك لوصلوا إلى الحضرة القدسية والأنوار الإلهية نور الله قلوب الجميع ما كدّر القلب إلا مخالفة السنة وكون الشيء على غير شروطه وعلى غير بابه والله تعالى يقول : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها).
ومنهم أخوه في الله ومن شيخه الولي الصالح والفاضل الناصح ذو البركة البينة والأحوال المزينة والأمور المستحسنة المجاهد نفسه حق الجهاد سيدي إبراهيم بن عمار وقد قيل انه في محله المعلوم ما فاتته صلاة الصبح مع شيخه سيدي يحيى صيفا وشتاء وغيرهما اغتناما بركة الشيخ وان ذلك من خوارق العادة إذ لا يمكن ذلك في النهار دائما فضلا عن الليل وقد قيل أن الشيطان يصنع النار له لعله يعوقه عن اللحوق به فشعر به ولم يلتفت له أصلا ولعنه واستعاذ من شره نفعنا الله به آمين وأولاده أهل بركة وخير وفق الله الكل إلى صالح القول والعمل وحفظ جميعنا من الزيغ والزلل.
ومنهم الولي عند الناس بلا شك وهو كذلك والله اعلم وقلوبنا تشهد بذلك الشيخ سيدي إبراهيم الساكن في ناحية حنيف مشهور معلوم أحواله مرضية ونفائسه زكية ولطائفه وهبية أولاده مشهورون بالصلاح إلى الآن وقد أدركت منهم فضلاء كالفقيه سيدي أبي القاسم محب ذو ود وصدق وكذا أولاد سيدي الحاج نفعنا
الله ببركاتهم ونفعنا بسر جدهم وكذا سيدي عبد الحليم مثله وأظنه من أخر التاسع أو من أوله العاشر.
ومنهم من بركاته كالأمواج وأحواله كالأبراج الولي ذو البركة الظاهرة والخوارق الباهرة الشيخ سيدي عيسى بن محمد قد انتفع به العامة والخاصة وقد رد ببركاته عينا من ماء فطرانا لحيوانه وانه صبغ (1) كل من أتى إليه وقد مسح على عين الأعور فرجعت أحسن مما قبل فقال من لا معرفة له عين عيسى خير من عين الله ولم يعلموا أن الكل من عند الله وغير ذلك من كراماته رضي الله عنه ونفعنا به وحفظنا من كل جبار عنيد بجاههم وجاهه وله قبران قبر في أطراف وانوغة أعني المسيلة (2) والأخر في فرواو وبينهما نحو اليوم وقد زرتهما معا والحمد لله.
ومنهم الشيخ عمرو الأشهب فان وانوغة يعظمونه غاية التعظيم وأولاده معظمون أيضا وقد بقي منهم الفاضل سيدي الطيب نفعنا الله ببركته آمين.
ومنهم أولاد سيدي عمر في وادي الخميس من هذا العرش وان جدهم هو المؤلف المعلوم في الكتب المتداولة أعني الوانوغي وأولاده فيهم البركة نفعنا الله بهم.
ومنهم شرفاء القصبة دار علم وبركة وشجاعة وقد زرت الجميع والحمد لله سبحانه.
ومنهم الولي الصالح والقمر الواضح سيدي علي الطيار معظم في الصحراء والتل وأولاده كذلك إلى الآن سيما الشيخ سيدي محمد بن المبارك وأولاده نفعنا الله بهم آمين.
__________________
(1) في نسخة سبغ وفي نسخة يشبع.
(2) في نسختين أمسلي.
ومن زمورة أولاد أبي شيب (1) وأنهم شرفاء أهل فضل وبركة وقد رأيت في بعض رسوم الشرفاء وأظنه كلام ابن فرحون أنه قال ما نصه ولا شريف في زمورة أعني بني فرقان إلا طائفة يقال لها أبو شيب نفعنا الله بهم.
ومنهم أولاد سيدي أحمد التواتي فضلاء كرماء أهل خير من العهد الأول نفعنا الله تعالى بهم.
ومنهم الولي الصالح البركة سيدي عمر العجيسي فان الناس يعظمونه غاية التعظيم وهو جد سيدي أحمد المجذوب وقد رأيت أيضا أن عجيسة شرفاء نفعنا الله به.
ومنهم ذو الفضل والفضائل أخونا في الله سيدي محمد بن زيان كان رحمة لنفسه وللمؤمنين وضع الله البركة في أولاده نفعنا الله به.
ومنهم أولاد البواب أعني الزياتنة فإنهم أهل فضل وكرم وقراءة نفعنا الله بهم.
ومنهم الشيخ الولي الصالح ذو البركة العظيمة سيدي مبارك السماتي وأولاده على الفضل والكرم والهمة نفعنا الله به.
ومنهم ظاهر الفضل والنجاح والصلاح سيدي عمر بن عباشة وأولاده كذلك وان أصابهم بعض الذل وقد علمت أن درهم المغرم لا يعد له شيء رزقنا الله بركته آمين.
ومنه الشيخ الصالح المجذوب الذي فاض عليه بحر الأنوار وطلعت عليه
__________________
(1) في نسخة أولاد بوشيبه وفي جميع الأخرى أولاد بشيب.
شمس الأسرار سيدي محمد بن المبارك الشريف من أولاد سيدي أبي زيد (1) وأولاده من لم يكن ذا علم فهو ذو فضل وبركته ومآثره مشهورة من القرن الحادي عشر نفعنا الله بهم وأفاض علينا من بركاتهم.
ومنهم سيدي سعيد الموسخ والولي الصالح سيدي أبو ناب والشيخ الولي الشهير سيدي عطاء الله هم أولو الفضل والصلاح والخير والفلاح أولادهم أهل فضل نفعنا الله بهم وبأمثالهم آمين.
ومنهم الشيخ الزاهد الورع الولي الصالح سيدي علي بن أبي زيد كان في الحادي عشر وقد بلغ الغاية في العبادة ومجاهدة النفس وقد انعزل بأهله في الجبل طلبا لخفة الأشغال وتفريغ سوى الله من البال وذلك شان الصديقين وقد نص العلماء أن آخر الزمان لا يسلم ذو دين بدينه إلا من فر من شاهق لشاهق وأظنه حديثنا والشيخ استعمله بنفسه وأهله نفعنا الله به آمين.
ومنهم ذو الفضل العظيم والخير العميم الولي المشهور ذو السر المأثور سيدي الجودي العلمي من آخر القرن العاشر وأولاده أهل جد واجتهاد وصلاح سيما سيدي على ابنه تلميذ الشيخ سلطان العارفين سيدي علي بن المبارك ذي (2) السر القوي والنور السني فأني رأيت بعض مرائيه من أعجب العجاب تكاد أن تكون مرائي الثعالبي أو ابن جمرة نفعنا الله بهما وقد رأيت سيدي الجودي نوما فيما مضى وصورته لم تزل عني إلى الآن ومسكني من يدي فقال (3) إلى جدك سيدي أحمد الشريف من بني عشاش إلى قبره فلما وصلناه قال سيدي أحمد الشريف ما دام يبقى
__________________
(1) في ثلاث نسخ بزيد وفي نسخة بوزيد.
(2) في نسخة ذو.
(3) في نسخة وقال لي جدك سيدي أحمد الشريف ما دام يبقى يزيد حرارة الخ.
يزيد حرارة كالسمن العتيق أو كلاما هذا معناه نفعنا الله به آمين وبأولاده (1) ولا شك أنهم أحياء عند ربهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ومنه الزاهد الورع المتخلي عن الدنيا الذاكر لله كثيرا من الحادي عشر وقد قيل التقط حب البلوط من كل شجرة في وطن الخميس (2) إلا أنه ذكر الله عند كل حبة وانه أول أمره كان يؤاجر نفسه ويقتات من ذلك حتى منعه بعض الناس من أداء الصلاة فسلم في الأجرة (3) وذهب ولم يرجع ففهم أن الله لم يقمه في الأسباب وإنما أراد به التجريد عنها والتجريد واجب عند تعذر الأسباب الشرعية أنظر ابن عباد عند قول ابن عطاء الله أرادتك التجريد مع أقامة الله إياك في الأسباب من الشهرة الخفية وأرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العالية فرجع للتجريد وهو سيدي محمد بن يحيى من أولاد الشيخ سيدي مالك وجده هذا كان صاحب حال عظيم قيل انه صبغ تسعة وتسعين رجلا من جملتهم سيدي موسى الوغليسي ولم يجد أحدا يزيده فزاد شجرة الزان والله اعلم ومعنى صبغها محتمل يحتمل أن الله جعل فيها إدراكا كما جعلها في الذي نطق للنبي صلى الله عليه وسلم حتى ذاقت حلاوة الإيمان وشهدت مشاهد الخير والبركة ثم تصير بركة للناس بعده [ويحتمل](4) أنها محل بركة إلى يوم الساعة فتصير أثارها لعيرها من العقلاء رحمة لأهل بلدة ومن يمر عليها وسيدي محمد هذا مجاب الدعوة وهو في جبل بني يعلى ضريحه مشهور يزار ومن أراد قصم عدوه الظالم فيسأل الله بجاهه عند ضريحه وقد جربت ذلك مرارا فوجدته كذلك أحيا قلوبنا الله بجاهه آمين.
__________________
(1) في نسخة بأمثاله بدل بأولاده.
(2) في ثلاث نسخ بو خميس وفي نسخة بخميس.
(3) في ثلاث نسخ وسلم الاجرة.
(4) ما بين القوسين ساقط في ثلاث نسخ.
ومنهم الشيخ العارف بالله تعالى الزاهد في الدنيا رأسا المتخلي عنها نفسا سيدي محمد بن قري وقد اعتزل بأهله وسكن القلعة في غيضة عظيمة لا يسكنها إلا الوحوش (1) لعدم الماء فيها ومع ذلك انه بنى دوره (2) في الأوعار من الجبل مع بعدها من الوادي إلى رأس الجبل وبنى فيها مساجد بفضل الله سيما الجامع الكبير فقد بناه بناء معتبرا إلا إذا كان مثله في تونس وأشار رحمه الله إلى أنها تصير مدينة قاهرة آخر الزمان وقد تحمل (3) المشاق العظيمة في مجاهدة نفسه وأهله وأولاده وأصحابه وكان لا يفتر عن ذكر الله تعالى طريقه صعب لا يسلكه إلا من نبذ نفسه وراء ظهره وقد أدركته صغير وقد سمعت من بعض الناس أنه قرأ على شمهروش الطيار من الجن وهو قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أحياه الله أحد عشر قرنا وكذلك قرأ عليه الشيخ سيدي أحمد الحبيب صاحب السر العظيم والصراط المستقيم الفملالي وكذلك الشيخ البقال المصري وقد سمعت أنه يصلي كل جمعة في جامع الزيتونة في تونس فلما مات قال مجاوره أظن أن الشيخ توفي لما لم يعمر محله وكان الأمر كذلك والله اعلم وزوجته كذلك وقد سمعت منها أنها كانت تنازع الشيخ في بعض الأمور عند رجال الغيب ونصها أنها قالت أنا أريد أطعام الطعام والشيخ يمتنع ليس بخلا [بل] لما في ذلك من كثرة الخلق وهو يريد السلامة منهم والفرار من أجلهم قالت ذات ليلة والشيخ بات عند بعض الناس خارج القلعة فذهبت إلى المسجد الكبير فصحت برجال الغيب فأتوني من مصر ثم ناديت برجال المغرب فجاؤا من فاس أعني أشياخ زوجها قالت وناديت رجال الصحراء فأتوني كالجراد وناديت رجال بجاية فأتوني سيدي أبو القاسم الذي في قراية وغيره من رجال بجاية فلما استقر
__________________
(1) في نسختين لا يسكنها الوحش.
(2) في نسخة طرقه وفي نسختين طروقه.
(3) في نسختين احتمل.
الجمع والتفت البصر والسمع لم أجد الشيخ يمتنع أو يتبع ثم أن بعض الحاضرين قال إن أردت أن يحضر
الشيخ فنادى بأهل الجزعة وهم سبعة وهو واحد منهم قالت فناديت بذلك فحضر ساعتئذ فقال ما شأنك بهذا الجمع وأنت امرأة فقلت له منعك من غيرهم وأما هؤلاء فلا ثم قام واحد من هؤلاء الجموع وأتى بجمرة تضطرم نارا أي اضطرام في أحدى يديه وخبزة في يده الأخرى يقول لي أطعمي هذه ولو جلست على هذه فقلت لا والله ما يرضاه بي زوجي ثم بعد ذلك زجروه وأمروه بموافقتي فوافق وساعدني بعد وتفرق الجمع الخ الحكاية رضي الله عنهما وأولاده ذكور وأناث ظهرت عليهم آثار الأسرار وشوارق الأنوار سيما الولي كأبيه ذو الصدق والوفاء والحلم والنصيحة والصفاء المتواضع لكل الخلق وقد حاز في كل خير السبق سيدي بركات وقد شاهدنا منه ما لا يمكن التعبير عنه نفعنا الله به وجعل البركة في أولاده وأظهر عليهم آثار الفضل بمنه وكرمه وقد حج من لا نظير له أصلا في زماننا سيدي عبد الرحمن ولده.
وأما سيدي محمد السعيد فضله عن أهل وطننا وكذا علمه وصدقه لا يخفى وقد زوجني سيدي بركات بنته كما زوج أبو بكر رضي الله عنه بنته النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها من غير كلفة ولا مشقة وقبر الشيخ معلوم في القلعة.
وأما ضريح ابنه سيدي بركات فهو مع ضريح سيدي محمد بن يحيى السابق وكذا قبور الفضلاء الصلحاء أولاد قري ومن أولياء الله سيدي عبد الرحمن وسيدي التواتي والأستاذ السبعي سيدي الحسين وسيدي أبو عبد الله وكذا جميع أولادهم على الخير والبركة في كل سكون وحركة نفعنا الله بهم.
ومنهم الشيخ سيدي عمر بن موسى فانه ولي من أولياء الله تعالى وقبره مشهور
يزار وأولاده على الخير والبركة والعلم والصلاح والفلاح ومن بركاته أن أهل محله يقسمون به صغيرا وكبيرا وان قريته والله اعلم ما وصلت إلى خراب في الظاهر وهلاك إلا شفعها فقد سمعت (1) أن الولي رحمه الله في قومه ما دام يعظمونه ويبجلونه مع مراعاة أولاده أن كانوا على وفق العلم قال تعالى وكان أبوهما صالحا قيل الجد التاسع ولا أعلم تاريخ وفاته رحمه الله ونفعنا به وبأمثاله.
ومنهم سيدي سعيد بن شتوان (2) أدركناه أستاذا في القرآن مشتغلا بالله مقبلا عليه مع تعليم القرآن وقد ورد فيه الخير الكثير وأولاده على الخير والبركة رضي الله عنهم ونفعنا بهم.
ومنهم شرفاء تمنقاش من أخيار الناس وليس أحد يذم منهم بل كلهم أو جلهم على الخير والاستقامة بحسب الزمان وأهله وأصلهم والله اعلم من الرابطة وأهل الرابطة ذوو فضل وخير وهمة وصلاح وكرم وعلم وقرآن وحياء سيما الشيخ سيدي السعدي وغيره منهم نفعنا الله بالجميع بمنه وكرمه.
ومنهم سيدي سعيد الزيتوني فانه ولي كبير وأمره عظيم وحاله جسيم وأولاده كذلك ذوو علم وحلم وفضل خصوصا سيدي سليمان وكان حبيبا لنا وأولاده وسيدي الحسين وولداه الفاضلان الكاملان سيدي محمد وابوة وقد رأى البعض النبي صلى الله عليه وسلم قال فسألته عن الأشراف فأجابني بقوله الزياتنة ولا أدري زاد (3) وما نسبهما أم لا ولا أدري تاريخ سيدي سعيد وأظنه من أواخر التاسع أو أول العاشر نفعنا الله به وبأمثاله آمين.
__________________
(1) في نسختين وقد علمت.
(2) في نسخة شتران.
(3) كذا في جميع النسخ.
ومنهم الولي المعلوم ذو البركة العظيمة والخيرات الجسمية سيدي إسماعيل الفملاني وكذا أولاده فهم على الخير والبركة والعلم والفضل والرحمة نفعنا الله بجميعهم ولا اعلم تاريخ وفاته وقد سألت البعض عنه فقال من القرن السابع غير أني لم أثق به.
ومنهم أولاد محجوبة فهم أهل الخير والفضل والقرآن والعلم والحلم سيما والد سيدي علي بن محجوبة وكذا سيدي علي وولداه الفاضلان الكاملان سيدي عبد الله وسيدي محمد السعيد وقد حضرت مع سيدي الحسن (1) بن مصباح أن سيدي محمد السعيد طار في الهواء ساعة زمانية مع جماعة من أهل الخير أدركنا الله من بركاتهم بمنه وكرمه وكذا سيدي علي بن محروش وولده وكذا شيخنا الذي هو ظاهر الصلاح والخير والنجاح سيدي يحيى اليعلاوي في قصطنطينية وقد شهدت منه أمرا عظيما من الكشبي غير مرة وجدهم هو الولي الصالح سيدي الحاج عيسى ولا أدري تاريخ نفعنا الله بجميعهم آمين.
ومنهم سيدي سيلمان الحربيلي فانه ولي من أولياء الله تعالى وهو واسع المعنى رحب البناء عند أهل حربيل وأولاده كذلك أهل فضل وخير نفعنا الله بهم آمين.
ومنهم الأخيار والسادات الأبرار ساداتنا زواوة وهم أهل سداد وصواب وخدمة رب الأرباب أولو (2) فضل وعلم وأدب وحلم أنوارهم ساطعة وأحوالهم مرتفعة وضمائرهم خاشعة ونفوسهم لله خاضعة جملة وتفضيلا وعلهم على الخير من الله تفضيلا ونسبهم على ما اشتهر لديهم وكذا الشواثرة إلى الولي الصالح سيدي يحيى أبي زكرياء الزواوي الذي ببجاية مدفون ضريحه الدعاء عنده مستجاب
__________________
(1) في نسخة الحسين.
(2) في نسخة ذوو.
والناس في أنسابهم مصدقون حسبما صرح به الأجهوري بضم الهمزة وغيره إذ الأنساب كالحيازة في الأموال انظره.
وقد قلت :
سريرة
الجسد تحق في الولد |
|
ونوره
حقا عليه يعتمد |
فخيرة
الخلق من أصل طيب |
|
شذا
معطرا أني من أعجب (1) |
وحسن
أخلاق (2)
كذا قد ينتخب |
|
وأمره
غريب ليس يحتجب |
نفعنا الله بجميعهم آمين.
ومنهم المحيي لما درس من حق قد بخس المحاسب منه كل نفس وأغلى حقا ما قد رخس وأعلى طريقا أنس الشيخ على الحقيقة شيخ الطريقة ولايته ظاهرة وأحواله فاخرة وأسراره بينة وأنواره قدسية سيدي الجودي بن الحاج كراماته وأحواله مشهورة وعلومه منشورة وقد بلغ رحمة الله عليه حالة التربية إذ سمعنا أن طالبا كان يتعلم عليه ذات يوم غلبته نفسه فتبعها في غير شيء بان شوغف بامرأة أجنبية وتعلق بها وأراد الزنى بها وحين وقعت المعصية بحيث أراد مباشرتها فوجد الشيخ بينه وبينها فاستحيى وأصابته حشمة عظيمة ولم يرجع بعد ذلك له نحو خمسة عشر يوما حتى بعث إليه رضي الله عنه وقد سمعت من المبرز العدل الصالح من أهل الفضل المرابط سعيد بن تقرين يحكي عن أبيه أو عن جده عن الشيخ سيدي الجودي أنه سرق لبعض أحبابه سرقة ولم يعلم بها إلا الله تعالى فوقعت الشكوى من أربابها له فبعث لكل من أتهم بها وكنت في جملتهم نعم لما وصلنا إليه أمرنا بردها ووعدنا بالخير العظيم والفضل الجسيم على ذلك فأبى الكل عنه وكنت السارق فلما انفصل
__________________
(1) في ثلاث نسخ فشدا عطرا أيتا من أعجب.
(2) في ثلاث نسخ وأحسن الخلق.
الجمع عنه مسكني وقال أنت الذي سرقت ردها فما تريده فأنا متكفل به فقلت له نعم أنا على ما تريده فرددتها ثم قال لي كلما وقعت بك شدة فاستغث بي فأنا أغيثك أين ما كنت وبعد ذلك ذهبت إلى الجزائر أريد المعيشة وتحصيل أسبابها فركبت في السفينة مع من يحارب النصارى فأسر جميعنا فوقعت عند رومي لا حلم ولا شفاعة له أصلا وصار يعذبني تعذيبا شديدا فلما كان ذات ليلة خرجت هاربا إلى شاطئ البحر مختفيا في الشجر فلما علموا بأمير صار الصياح والنداء ورائي إلى أن وصل الجمع (1) إلى محلي غير أني حجبني الله عنهم بعد أن وصل كلبهم إليّ يبصبص بي ثم يرجع إليهم غير أني معتمد على الشيخ ومستغيث به فرجعوا خائبين وبقيت أنا ثم ملتجئا إلى الله ثم إلى الشيخ فمرت عليّ سنة وإذا بالشيخ يقول مد يدك إلي فمددت يدي إليه فمسكها ورفعني فاستيقظت فوجدت نفسي في الجزائر وغير ذلك من الكرامات رضي الله عنه ونفعتا بعلومه وأحواله وأنواره بمنه وكرمه وأولاده إلى الآن على الخير والفضل والعلم والحمد لله تعالى وهو من القرن الحادي عشر أعني لوله لوم أدر هل أخذ من آخر العاشر أم لا وقد حشى على الصغرى حاشية لطيفة وكلامه رأيته لا بأس به لأنه محقق في عصره.
ومنهم سيدي عمر الواصلي رجل من الأكابر وصلاحه وولايته معلومة في الضمائر فان أهل وطنه بني سليمان يعظمونه غاية التعظيم وأولاده على الخير خصوصا الأجل المنير ذو الخير الشهير سيدي الموهوب كبير السر عظيم الشأن والحمد له حبيب لنا نفعنا الله بهم آمين.
ومنهم سيدي عمر الخلادي شيخ معظم وولي معتقد فيه أولاده على الخير والحمد لله تعالى نفعنا الله به.
__________________
(1) في نسخة الجميع.
ومنهم الولي الصالح والنجم الواضح سيدي علي بن سليمان البرباشي (1) معظما عند أهله ومحترما (2) عند أهل وطنه قبره يزار وأولاده فيهم والحمد لله العلم والصلاح وخدمة الخير وأهله ومحبة العلم وذويه سيما سيدي علي بن الصالح وكان حبيبا لجدي ولوالدي وهو قد ظهرت أنواره وقويت أسراره وعلمه وفضله ظاهران قد درس وأسس وعلم وأنس نبراس زمانه وعبقري أوانه وليث مكانه وكذا سيدي عبد الله تفقه على جدي الحسين الشريف واغتنم منه البركة والعلم يحكي ذلك الوالد عنه وكذا أخوه سيدي الموهوب بن علي بن سليمان وأولادهم على الخير والبركة والحمد لله نفعنا الله بهم آمين.
ومنهم سيدي زيان صالح زمانه وولي أوانه وأولاده كذلك نفعنا الله به.
ومنهم السادات الأفاضل والأخيار الأكامل أولاد سيدي بهلول القائمين بالحق الظاهرين على قدم الصدق والسالكين (3) سبيل الجد والرفق وهم شرفاء خصوصا سيدي علي وسيدي المهدي ومن نحا نحوهما على أن أولادهم إلى الآن على ما يحسن فلم تسكن نفسي لأحد مثلهم لفضلهم وجودهم وحيائهم وأحسانهم وعلمهم بقدر من له القدر زادهم الله رفعة وتعظيما ومهابة نفعنا الله بهم أجمعين آمين.
ومنهم ذو العلم والمهابة ، والحلم والأنابة ، والسطوة والاستجابة ، والتحقيق والإصابة ، ذو العلوم الفاخرة ، والأحوال الصادقة الظاهرة ، والأنوار الباهرة ، والأسرار الحاضرة ، الزاهد بالتحقيق ، بعد التمكين من الدنيا كما يليق ، قد نبذها وراء
__________________
(1) في نسخة البربشي وفي أخرى البرياشي.
(2) كذا بنصب معظما ومحترما في أربع نسخ وفي نسخة برفعهما وهو الأظهر.
(3) كذا في جميع النسخ بنصب القائمين والظاهرين والسالكين.
ظهره ، دفعا لنفعه وضره ، عند جميع الأفاضل مرغوب ، الولي الكامل سيدي الموهوب ، نجل الشيخ القدوة والدرة الثمينة سيدي محمد بن علي اليعدلي (1) كراماته ظاهرة ، ودعواته قاهرة ، وأسراره ليست مستترة ، مكنه الله فتمكن ، وبذكره قد أطمأن ، قلت فيه وفي أمثاله.
شمس
النهار أشرفت بضرتها |
|
عند
الظلام منجل من نورها |
ففجرها
(2)
أحيانا ما كان قد يبس
|
|
من
ريح أهل جرأة بل من نفس (3) |
أحسن
جوهر من المعالي |
|
قد
رصعن (4)
وطننا في الجبال |
قد
أقبل المآل (5)
بالسعود |
|
من
طلعة الغر على الوفود |
وكل
ظلم قد جرى من العجم |
|
على
ذوي الشرف والخير إلا تم |
أزاله
بحق من حلاه |
|
بحلية
من عزه علاه |
وكل
ما (6)
أتاه من أوساخ |
|
فرقه
إذا بلا تراخ |
من
غير أن يقبض (7)
شيئا أبدا |
|
لنفسه
وأهله معتمدا |
على
الذي من رزقه قد انقسم |
|
على
العباد ليس ضيزى في القسم (8) |
إذ
حلمه قد عم أهل مصره |
|
وبره
مدخر لوقته |
__________________
(1) في نسخة العيدلي.
(2) في اربع نسخ نفيس.
(3) في أربع نسخ فحرها.
(4) في نسخة رصعت.
(5) في نسخة الآمال.
(6) في نسخة من.
(7) في أربع نسخ ينقص.
تنبيه في هذه القصيدة واللاتي بعدها من قول المؤلف خلل كبير من جهة الوزن ومن جهة المعنى فليحرر ذلك بنسخ أخرى.
(8) في نسخة ليس للغير القسم.
فدهره
يثني عليه باتفاق |
|
وحاله
وسيره (1)
بالارتفاق |
هذا
وان صيته قد أرتفع |
|
ورسمت
أحواله لتتبع |
وأمم
حقا أرعوت لأمره |
|
وافتقرت
إذ ذاك فه بسره |
مدرس
الفنون في المقام |
|
كذا
القرآن أضحى للأنام |
محل
سر وانتفاع بالدوام |
|
قواعد
العلوم تقرا بالتمام |
على
قانون (2)
العلم من غير اختلاط |
|
ولا
التباس وانتقاص باغتباط |
تأتيه
الافواج من كل بر |
|
لأمور
اضطروها لضر (3) |
أصابهم
(4)
جائحة الفقدان |
|
لرفع
معضلات عن أخوان |
محله
كالمصر للحجاج |
|
وعلمه
أجلى بلا احتياج |
كالنحو
والتفسير مع علم الحديث |
|
ولغة
وأدب ليس الخبيث |
منتفعا
بها كل انتفاع |
|
بصيرة
عمياء (5)
باقتطاع |
أولاده
حقا عليهم ما أبدى |
|
من
علوم وأطعام وما أرتدى |
به
من التقوى وحسن الزاد |
|
وأبحاث
العلوم في ازدياد |
هذا
وان بحرا فيه مستقر |
|
من
العلوم والأسرار يعتبر |
شريعة
حقيقة مع العمل |
|
فخشية
وخضوع منه أقل |
حال
الهوى عن قلبه قد انقشع |
|
عن سره
كل السوا منه اندفع |
وكله
بربه قد انخشع |
|
وحبه
بقلبه قد انصدع |
__________________
(1) في نسخة سره.
(2) كذا في جميع النسخ.
(3) في جميع النسخ تأتيه وفي نسخة بدل الشطر الثاني لجلب خير أو لدفع ضر.
(4) في نسخة أصابتهم والبيت جميعه كذا.
(5) في أربع نسخ عميت.
وأنوار
العلوم منه تشرق |
|
وأبحاث
التحقيق منه تبرق |
مدده
قد مده الإله |
|
وحلاه
بسره مولاه |
قد
شهدت بقربه حيتان |
|
من
ربه اسمعها الرحمان |
صديقه
إبراهيم صوان (1)
|
|
ديدانه
(2)
من ربه القرآن |
هو
الذي يجذب مع ملائك |
|
شمس
العوالم سرا وذلك |
ليس
غريبا أبدا على الحبيب |
|
لربه
وقربه من الرقيب |
قد
انبان بانه لا يقفن |
|
عن
قبره شقي حقا ويا من |
وهو
الذي يقرأ في الكتاب |
|
في
مسجد الشيخ المتقي الأواب |
بجاية
قد اسعدت بسره |
|
وانتشرت
أنواره بقبره |
مدفنه
يقرب من أبني علي |
|
أبي
حميد (3)
الصغير المسيلي |
كتابه
النبراس والتذكيره |
|
وأمره
وحاله شهيره (4) |
فعند
قبره الدعاء يستجاب |
|
مدده
يحظي به من قد أناب (5) |
الغبريني
في عنوان الدراية |
|
نص
عليه وخذ العناية |
أحيا
علوما من علوم الدين |
|
في
وقته بالجد والتبيين |
بلمحة
يصبغ (6)
كل من أتى |
|
بنية
خالصة مستثبتا |
قد
كان يا أخي إذا من البله |
|
أحوال
دنياه لها لم ينتبه |
__________________
(1) في نسخة ديوانه.
(2) في نسخة الصوان.
(3) في نسخة بالقرب وأبي حامد.
(4) في ثلاث نسخ تصديره وفي أخرى التذكير وحاله شهير.
(5) في ثلاث نسخ مدده وداده قد يرتقب.
(6) في نسخة بلهجة وفي كلها يسبغ.
هذا
الذي تعلق القلب به |
|
باحمد
(1)
عبد العظيم ينتهي |
لحبه
النظم أتى مرتجلا |
|
لسنة
وقرآن ممتثلا |
فارضنا
قد اخضرت بعلمه |
|
وكل
صعب لين بحلمه |
أرواحنا
قد حييت بوابل |
|
من
غيثه قد عمنا بحلل |
من
أزهار وأنوار من العلوم |
|
فمن
سقاه شربة بها يقوم |
بأنواع
من المواهب عجب |
|
في
حضرة قدسية قد انسغب |
لنصح
من أتاه حقا قاصدا |
|
يعلو
به منازلا وزائدا (2) |
بأسماء
وصفات من ربه |
|
لسالك
يسعى به لحزبه |
وخمره
(3)
قد شاع في الأقطار |
|
سلافة
من كأس ذي الأسرار |
فنظرة
مسكرة على الدوام |
|
شاربها
عن حسد من الهوام (4) |
خردلة
من الهوى (5)
تنفعه |
|
كذاك
ضره وما يدفعه |
فمثله
أمان العباد |
|
كذا
بسد (6)
ثلمة الفساد |
بجاهه
حققنا رب بالهدى |
|
مع
الرضى مفوضا معتمدا |
وأسلك
بنا بجاهه كل نمط |
|
من
طرق الحق بعلم يغتبط |
بقربه
يا رب زوّل الحجاب |
|
عن
الضمائر بحب وأرتقاب (7) |
__________________
(1) في نسخة لا حمد.
(2) في نسخة ورائدا وفي أخرى روائدا.
(3) في نسخة وخمرة وفي أخرى وحمده.
(4) في نسخة شاربها غاب عن حسه وهام.
(5) في نسختين من الورى.
(6) في نسخة يسد.
(7) في نسخة بحيث لا ترتاب.
وكلنا
(1)
برحمة مع عافيه
|
|
وزد
لنا تصفية وتوفيه |
وجد
لنا بالعفو والغفران |
|
وجنة
الخلد مع الرضوان (2) |
وأمح
لنا جرائما قد سبقت |
|
بتوبة
صادقة منك أتت |
في
حضرة القدس مع البنين |
|
وأسعد
بناتنا ومن يلينا (3) |
إلى
انتقال وارتحال يا فتى |
|
عجل
لنا توسعة مما أتى (4) |
من
خيرة الدارين والسعادة |
|
كذا
التوفيق مع الاستفادة (5) |
واجعل
لنا ودا من العباد |
|
والخبر
والورق بالازدياد |
وكف
عنا يد عدو بالدوام (6)
|
|
من كل
جبار عنيد بالسلام |
أنت
الذي تكفنا من الأذى |
|
وأقصمه
(7)
يا رب عند العزم إذا |
أرادنا
بسوء فعل منك رد |
|
في
نحره كيده قهرا بالأشد (8) |
ما
رماه ونراه قاصدا |
|
ورده
ذلا بعادا ما أعتدى (9) |
__________________
(1) في نسخة وعمّنا.
(2) في أربع نسخة من الرحمان.
(3) في أربع نسخ مع اسعاد البنات مذ خلفن وفي نسخة ومن الينا.
(4) في نسخة
كل
خلفنا لانتقال وارتحال |
|
عجل
لنا توسعة مما ينال |
(5) في نسخة مع الاستقامة.
(6) في نسخة يد العراعي الروام.
(7) في نسخة الذي تكفينا من كل الأذى وأقصمهم.
(8) في نسخة أرادونا ـ كيدهم في نحرهم قهرا أشد.
(9) في نسخة
بما
رواه وذووه قصدا |
|
رده
عنا كافي شر الأعدا |
دعا
يعم الوالدين والأزواج |
|
ومنتم
لنا من الأفواج (1) |
من
قريب ومحسن كذا المحب |
|
واشياخ
وأخوان ومرتقب (2) |
بأمثال
المزبور فيما قد سبق |
|
وآخذ
وطالب ومن صدق |
في
حبنا وودنا من العباد |
|
وكن
لنا بجمع شمل واجتهاد |
في
العلم (3)
بالجد والتمكين |
|
لنفع
مسلم ودفع رين |
وشر
ذي شر على الإطلاق |
|
والختم
بالحسنى مع ارتفاق |
نبينا
وذخرنا يوم الحساب |
|
بجاهه
حقق لا عين انتساب |
ثم
الصلاة والسلام دائما |
|
على
الرسول صادقا معظما (4) |
وآله
وصحبه ذوي التقى |
|
والمجد
والفخر وكل منتقى |
وبالجملة فقد تشرف مقام الشيخ سيدي الموهوب بإشراق حضرة الولي سيدي أحمد بن عبد العظيم أشراقا تاما ، وطلوع نجم السعود فيه طلوعا عاما ، وكذا بأولاده سيما ذو المجد الأنيف ، والفاضل الشريف ، وهو من النوادر سيدي عبد القادر رحمه الله تعالى ورضي عنه وفيه قلت
ومعه
الحبر الهمام في الوغي |
|
مكافحا
مناضلا وقد بغى |
على
المعالي كلها أو جلها |
|
ملتقطا
لدرر من أصلها |
قد
حازها بسيفه منعطفا |
|
لهمم
الأمور غدا واقتفى (5) |
__________________
(1) في نسخة بالأزواج وفي أخرى كل منتم.
(2) في نسخة مرتعب.
(3) في ثلاث نسخ في علوم.
(4) في نسخة الصادق المعظما.
(5) في ثلاث نسخ عزا وفي كلها انتقى.
من
أرجاء الملك مع السياسه |
|
وفر
بالنفس عن الرياسة (1) |
وحظه
(2)
جواهر مع الأدب |
|
وعلمه
نار القرى كذا الحسب (3) |
وعبد
قادر تسمى في الورى |
|
وجوده
وخيره بلا امترا |
فقد
عما عصرهما ككوثر (4)
|
|
وظل
عز منهما كشجر |
من
شجر الضخم وذي الأوراق |
|
لعابر
ذي حاجة إطلاق |
هذا وأن فضل الله عظيم ، وبره عميم ، وأولاد الشيخ سيدي الموهوب فيهم الخير والعلم والأدب خصوصا سيدي عبد الله نجل الشيخ سيدي عبد القادر المذكور وسيدي عبد الله بن محيي الدين وتلميذنا سيدي عبد القادر بن أحمد وكذا غيرهم.
ومنهم من أشرق بالكرم والجود ، في سماء السعود ، بحر السخاء من الودود ، سيدي المسعود ، وفيه قلت :
مدده
قد يغني كل (5)
من سأل |
|
وجوده
قد عم قطرا واشتمل |
على
كل من المعالي واستقل |
|
بسجيه
(6)
عن غيره بها احتفل |
خدانه
بسيرة حميده |
|
قد
أخبرت عنه بها سديدة |
__________________
(1) في أربع نسخ أشخاص ضده مع العناية.
(2) في نسخة
وحظه
الأدب في كل أرب |
|
نتيجة
العلم كريم ذو حسب |
(3) في اربع نسخ وخطه.
(4) في نسخة فضلهما قد عم مثل كوثر.
(5) في نسخة لكل.
(6) في أربع نسخ بشجايا.
لا
عيب فيه أبدا سوى السخى |
|
لقاصد
من عدو موبخا |
ألسنة
من عصره متفقه |
|
على
الثنا بحمله معتبقه (1) |
فحله
الرب من المعارف |
|
تمده
مدا بلا تخالف (2) |
أعني
الذي في عهدنا محمدا |
|
فلم
يبعد عن مثلهم مستمدا (3) |
مقتبسا
من أمور قد سبقت |
|
من
أجداد له بما قد صدعت (4) |
من
خدمة العلم وأهل الأدب |
|
ذويهما
بكل ما قد اكتسب (5) |
فحظه
من كلهم لم يختلف |
|
نصيبه
من مجدهم لم ينحرف |
فأولاد
الشيخ على الإطلاق |
|
لم
يعدموا الكل من السباق |
__________________
(1) في ثلاث نسخ معتنية وفي نسخة
سنته
في عصره متبعه |
|
ثناؤهم
عن حلمه كل رعه |
(2) في نسخة :
فحله
رب من المعروف |
|
تمده
مدا بلا عكوف |
(3) في نسخة :
أعني
به الذي عهدنا أبدا |
|
نجم
سعودة ترى محمدا |
(4) في نسخة :
مقتفيا
لأمور قد سلفت |
|
من
أجداد له قد صدرت |
(5) في نسخة :
كخدمة
العلم ... |
|
ومن
يفضله اتى محتسب |
وأصلح
الكل بحق المصطفى |
|
وصاحب
وتابع ممن (1)
صفا |
ثم
صلاة الله مع سلام |
|
على
رسول رحمة الآنام |
محمد
أفضل كل من أتى |
|
من
رسول ونبي مثبتا |
وكذا الفاضل المحسن والحليم ذو المعروف والمآثر ظهري وذخري سيدي الموهوب بن محمد لا يأتي الزمان مثله وفيه قلت :
فانه
يحاكي أبريز الذهب |
|
والبحر
من فنونه قد ارتقب |
فعزه
مبجل ممن أحل |
|
في قطره
ممن علا ومن سفل (2) |
قدس الله ضريحه ، وعطر ناشذاه وريحه ، وأما قرابة سيدي أحمد بن عبد العظيم فهم على الخير والحمد لله جعلنا الله في زمرتهم آمين يا رب العالمين.
ومنهم شيخ والدنا الفاضل النحوي اللغوي المحدث المفسر الأديب الفقيه الجامع بين المعقول والمنقول الولي الصالح والبرهان الواضح ذو الأحوال الفاخرة شيخ شيوخنا المعرب الغربي سيدي محمد العربي (3) المتوطن في جبل سيدي الموهوب وقد أسعد الله باستقراره كل الأماكن من وطننا وتأنسوا به أي تأنيس في زماننا وكان إذا أحل بقوم نزلت عليهم الرحمة والسكينة وكيف لا وهو بحر الله في عالمتنا وغيث بلدنا ورحمة لمن كان عندنا وعلمه مبذول عند من سبقت له السعادة والحمد لله وقد تعلمت (4) الألفية على تلميذه العلامة الفاضل سيدي علي بن أحمد وطريقه ناصرية شاذلية وكان رضي الله عنه يفجئ الغمة على من وقع عليه في العلم وغيره رضي الله
__________________
(1) في نسخة ومن.
(2) في نسخة من أهل قطره.
(3) في نسخة الغربي.
(4) في نسخة تلقيت.
عنه وكذا سيدي عبد الملك وان لم يكن مثله في العلم غير انه ذو فضل قوي وفي سيدي محمد هذا قلت :
بحر
الندى والعلم من شيخ برز |
|
شيخ
الحقيقة لدينا مكتنز (1) |
وجوده
كعلمه فيما دنا |
|
من
قطرنا على الذين به اغتنى |
نار
القرى في علوم لم تستتر |
|
وشمسه
مشرقة على الدرر |
وأنه
طود في كل من علوم |
|
ورحمة
على الذي به يؤم |
والله
ان نعمة قد أهديت |
|
من
الرحيم عاجلا لمن أتت |
بدرا
إذا رأيته يا من قصد |
|
زيارة
أو سلوكا لمن أراد (2) |
إن
مات قلب قسوة أحياه في |
|
لحظة
من وقت ومنه قد شفي (3) |
وبالجملة فالله يتداركنا بفضله وجوده وإحسانه توفي في هذا القرن الذي نحن فيه وأما سيدي الموهوب فانه من القرن الحادي عشر وسيدي أحمد بن عبد العظيم بعد الشيخ سيدي الموهوب. وقرية أمّولة (4) جامعة لأهل الخير والفضل والعلم نفعنا الله بهم آمين.
ومنهم الولي الصالح سيدي عمر القموني (5) وأهل محله يعظمونه ويعتقدونه غاية التعظيم ولا أدري تاريخ نفعنا الله به آمين.
__________________
(1) في نسخة قد ركز.
(2) في نسخة أو سلوكا فاغنم تفد.
(3) في نسخة
فان
مات القلب من القساوة |
|
هو
الذي يحيى مع العناية |
(4) في نسخة أصوله.
(5) في نسخة المقوني وفي أخرى القمرني.
ومنهم الولي الصالح والقمر الواضح له بركات ظاهرة وأحواله باهرة وأسراره مشتهرة سيدي الصادق ضريحه في الوادي معلوم يزار وهو من القرن العاشر أعني أواخره ولا أدري هل بلغ الحادي عشر أم لا وأولاده رضي الله عنه بدور أهلة وأعلام أجلة كالفاضل الولي والصالح الولي والفقيه العلي سيدي يحيى بن الموهوب ومثله في الفضل سيدي محمد الموهوب وسيدي التواني الفقيه سيدي يحيى بن الواثق وهو في غاية الفقه تلميذ جدنا وقد سمعت منه أنه رأى الشيخ خليل في النوم وأخذ بيده إلى أن وصل إلى الصندوق المملوء بالكتب قال فأخذ منه كتابا وأعطاه لي فوجدته الشيخ بهرام فعلمت أنه أذن لي في مختصر الشيخ خليل ففتح الله علي بما لم يفتح على غيري وقد أخبرني عمي سيدي محمد الصغير إذ هو علامة زماننا أنه كان يتعلم عليه المختصر وكان يقرئ من الأجهوري وأنا وبعض الطلبة أعني سيدي محمد بن باب الملقب بالأوجه (1) [وهو فاضل محقق أيضا وأولاده](2) في أيدينا الشيخ عبد الباقي والشيخ إبراهيم فكان قدس الله ضريحه يحمل (3) الشيخ المذكور ويهذبه ويحرره بان يترك المكرر منه كالشيخين بعده سواء بسواء إلا في عين اللفظ ومآثر سيدي الصادق وأولاده كثيرة وقلت فيهم :
يا
أيها الإنسان فاعلم قدرهم |
|
لأنهم
سحابة مع غيثهم |
قد
اخضرت أشجار أهل العصر |
|
وأثمرت
فواكها بتمر |
فهم
كحصن مانع يلوذ من |
|
له
الجناية بحق أو ضمن |
رحمتهم
تعم كل بلد |
|
وسرهم
من سر فضل أحمد |
قد
سكروا بحبه وقربه |
|
فمنحوا
من عزه وحلمه |
__________________
(1) في نسخة محمد امزيان.
(2) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(3) في نسخة يحصل.
فاسكنوا
قلوبهم دار الوصول |
|
بجذبة
الإله صرفا بالحلول |
في جمع
الجمع بالتجريد |
|
وسيفهم
للقهر بالتهديد (1) |
بحليه
الإله قد جملهم |
|
وشرحه
الصدر فقد زينهم (2) |
فأنهم
على الهدى من ربهم |
|
أيدهم
قدسهم عرفهم (3) |
يا
لله رب عصمة منك لنا |
|
هداية
أمانة لمن دنا |
بجملة
الأشياخ والأباء |
|
وأزواج
والنسل بالسراء |
وآخذ
العهد وكل طالب |
|
ترزقنا
عافية يا غالب |
مع
التجلي دائما على القلوب |
|
بركة
معرفة لمن ينوب |
من
أحباب وجيران مع الخدام |
|
وكل
ذا لنسلنا على التمام (4) |
ثم
الصلاة والسلام كالمطر |
|
على
النبي دائما كمن حضر |
نفعنا الله بهم آمين.
ومنهم محيى الفنون ومجدد العلم والدين ، بعد إندراسه على التعيين ، المتصف بعلم اليقين ، اتقى المتقين ، بل انه شرب من عين اليقين ، حتى صار من أهل التمكين ،
__________________
(1) في نسخة
جمع
الجمع حلوا بالتجريد |
|
وريضوا
القلوب بالتفريد |
(2) في نسخة :
بفضله
حلاهم إلا هنا |
|
بحلية
التجريد فازوا بالهنا |
(3) في نسخة بدل الشطر الثاني ويرحم الخلق جميعا لأجلهم.
(4) في نسخة على الدوام.
علامة زمانه ، وقدوة أوانه ، بركة الأوائل ، قد زحلق وآخر لقابل ، لحكمة ربانية يعلمها مرسل صاحب الشمائل ، الولي الواضح سيدي محمد صالح كاد أن يجدد الدين في وقته وعلمه مشهور وفضله منشور توفي في القرن الحادي عشر ضريحه معلوم يزار في قرية اجلميم من عرش بني اجمات من عرشنا بني ورثيلان وهو في غاية الصدق والوفا ، وعن كل مشتبه أو شبهة قد حفا (1) ، رحمه الله وقدس ضريحه ، وأفاض علينا خيره وربحه ، ونور قلوبنا وقلوب أولادنا باليقين والتمكين ، وحلانا بحلية المتقين ، في كل تحريك وتسكين ، وهذا الشيخ كان مدرسا للعلم قائما بأمور الطلبة بنفسه مع قلة ذات يده ويهاجر من كل بلدة لا تأخذهم الأحكام إليه وقيل ليس على الأحكام الشرعية إلا جيرانه بنو اجمات من بلدنا فقد أنتقل من قرية بيكني وسكن متين من بني عيدل وكانوا يمنعون الميراث أيضا فأمرهم بإعطائه وحرضهم على ذلك فلما رآهم امتنعوا وتوانوا ورأى هجرته واجبة وعلم منهم انه إن انتقل بحضرتهم يمنعونه فتركهم إلى أن ذهبوا إلى الزيتون زمانه بحيث لا يبقى أحد في العمارة إلا الضيف أو كبير السن فلما آن زمانه وحان وقته ذهبوا إليه فرفع زوجه وشئونه فوقع النداء من العمارة والصياح ليجتمعوا على الشيخ إذ لا قدرة لهم على فراقه فتسابقوا إليه من كل فج عميق ليمسكوه فلما ألحوا على رجوعه وأقامته معهم حلف أن لا يرجع إليهم إلا بالرجوع إلى الأحكام الشرعية وقد علم الله صدقه في ذلك فامتثلوا أمره بجد وصدق فرجع فيهم على الأحكام الشرعية إلى الآن والحمد لله تعالى على ذلك وقد تحقق له الحديث فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
لطيفة أقول إنما هاجر رحمه الله وقدس روحه لما علم عظيم عصيانهم وكبير جرمهم إذ بعض المواضع سالمة من ذلك وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم انه قال
__________________
(1) في نسخة خفي.
من قطع ميراث مسلم قطع الله ميراثه من الجنة ذكره ابن مرزوق في شرحه لفرائض خليل فإذا علمت هذا علمت انتقال الشيخ لوجوبه عليه وقد نص علماؤنا رحمة الله عليهم أن المعاصي إذا كثرت في موضع وقلت في آخر فيجب على العبد أن ينتقل لمحل قل فيه ذلك. وأما عند عموم الشر فلا بل يلزم مكانه ويكون حلسا من احلاس بيته إذ رب موضع انتقل إليه أكثر مما انتقل عنه فيرجع إلى الذي انتقل منه فيجده قد تغير أيضا ثم يرجع إلى الذي انتقل منه فيصير كحمار الرحى فالموضع الذي انتقل منه هو الذي يعود إليه ذكر هذا صاحب المدخل والشيخ هذا الذي حمله فان قلت لو كان الشيخ هذا قصده لانتقل إلى الجزائر أو قسنطينة أو تونس لأن هذه الأوطان سالمة من ذلك قلت حب الوطن من الإيمان كما روي عنه صلى الله عليه وسلم ولعله يتيسر له ذلك في بعض وطنه والسنة حب الوطن وقد يسر الله له ذلك والحمد لله وقد سكن مواضع عديدة ولعله يجد موضعا تتيسر له فيه العبادة ومن جملة ذلك صحة المعاملات وبفسادها يتكدر الوقت خصوصا على ما ذكره الشيخ زروق أن المعقود عليه يحرم بحرمة العقد والمذهب خلافه فالمعقود عليه لا يحرم بفساد العقد.
انعطاف نعم أولاده على طريقة من العلم والحلم والفضل والإحسان والأدب والحياء والبركة رضي الله عنهم سيما الورع الزاهد المقتفي آثار النبي صلى الله عليه وسلم المتمكن في طريق الله عز وجل الجامع بين الحقيقة الشريعة قدس الله روحه ولي ظاهر سيدي الحسين نجل الشيخ المذكور المتبع للسنة النبوية والشريعة المحمدية كادت أوصاف سيد الخلق أن توجد فيه وقد تخلق بمعاني الأسماء والأوصاف الإلهية ظاهره راغب في الدنيا وباطنه خال منها فالجاهل من الناس إذا رأى حرصه في الظاهر يقول سيدي الحسين يحب الدنيا وليس كذلك بل الدنيا في يد العارف أمانة والأمين لا يضيعها وإنما يترقب بها أمر صاحبها أو يردها لصاحبها ومن أحاط علما
بذلك فلا يتغير لفواتها فقدانها لأنها ليست له فان قلت ربما يتغير العارف على فقدانها ولا يتكدر وقته ما الحكمة فيه قلت العراف أن يتغير عنها أي بفقدانها ليس تغيره لأجل حبه لها وتعلق القلب بها إذ لو كان كذلك لما كان عارفا وإنما تغيره لأجل تفريطه وتقصيره في حفظه إياها فتغيره راجع إليه وإلى معبوده ومحبوبه فكان بربه لا بنفسه فالعارف لا يزول اضطراره ولا يقر مع غير الله قراره وقد ذكر بعض أصحابه لنا أن الشيخ ذهب له ثور بان سرق له فلما أخبرناه بذلك تغير وتحير اشد التغير وغضب علينا أشد الغضب حتى ظننا أن الشيخ إنما غيره حب الثور وحزنه لذلك وقمنا نبحث عليه البحث العظيم الذي فوق الطاقة فوجدناه مذبوحا في بني وجهان فرجعنا بقيمته لما علموا انه للشيخ فلما وصلنا إليه وأخبرناه بذلك ليسر فغضب غضبا شديدا وتغير تغيرا عظيما أكثر من الأول بما لا نسبة له فقال من أمركم بالبحث عنه هذا فضول منكم فالله صدقة علي فكيف لا أرضى بصدقته وأنتم تردونها وتغيري أولا إنما هو لإضاعة المال والله لا يحب ذلك فتغيرت لتغير الله وكان رضي الله عنه يطعم الطعام لليتامى والأيامى من النساء والمحتاج كل يوم كأنه وليمة عنده وأخبرن الولي الصالح الأستاذ تلميذه سيدي أحمد بن الحسين انه سمع من الشيخ يقول وجدت تحت الديار زيرين من ذهب أزال عنهما الستر السيل إزالة فهمت نفسي أن ترفعهما فمنعتها ذلك ورددت التراب عليهما فلما أخبرنا بذلك ونحن طلبة عنده فقلت له يا شيخي لو أتيت بذلك فان المحتاج عندك كثير فأجاب بأني لو أتيت به وربما قالت نفسي هذه الدار لا تصلح وكذا الفرس ابن غيرها واشتر أجود منها إلى غير ذلك من شأني كله فلما علمت حالها كان ترك ذلك هو أولى بي وأجدر والإتيان به أمكر وأغدر فتركت ذلك ولقد سمعت من البعض أنه أتي له بمزود صغير من ذهب فقيل له أن أولياء الله يسلمون عليك ويقولون لك استعن بها فامتنع فقال أعطوها للشيخ سيدي أحمد بن عبد العظيم فامتنع أيضا فاتوا إلى بعض
الصالحين في عروس فقال أعطوها لفلان فصاروا يترادونها إلى أن رجعت إلى هذا الشيخ فردها ولم يأخذها ومن كراماته أني سمعت العدل المبرز الصالح سيدي محمد بن الحاج العشباني ثم التفرغوني انه قال مرض الشيخ وذهبت لأعوده فلما وصلت إلى غنمه وإذا بالذئب معها قال فقلت للراعي أتترك الذئب مع غنم الشيخ فقال دعه فانه معها مدة طويلة يرعى معها قال فذهبت وتركته كذلك وكان رضي الله تعالى عنه يلبس المرقعة وذات ليلة ذهب لزيارة بجاية وذهب معه ركب كبير وصيته في الأرض عال فلما وصلوا إلى بني عبد الجبار عزم عليهم الشيخ يوسف بن مهنا رجاء في بركة الشيخ واغتناما لدعوته إذ كان يسمع به من غير معرفة شخصه وكذا جل الناس فلما حان وقت الطعام جمعوا الناس ورتبوهم على حسب عادتهم فاقعدوا المرابطين وذوي الهيآت من الملابس الفاخرة على جهة وكان الشيخ بمرقعته معهم ولرثة هيأته قالوا له قم أنت لا تأكل مع هؤلاء بل كل من أوباش الركب وأسقاطهم فقام من ذلك وقال والله حق ما تقولون ثم وقع النداء والصياح بأن الذي قام هو الشيخ الذي صدر الإكرام من أجله فألحوا عليه بالرجوع فامتنع فأكل مع من ذكر رحمه الله وقدس روحه وأني سمعت أيضا من بعض أولاده أنه قال كان ينهانا إذا سوغنا الخبز بالزيت أو غيره عن وضع الخبز من جهة باطنه فيقول إن ذلك إضاعة للمال وإنما يصلح وضعه من ظاهره اليابس إذ يحصل به المقصود من غير إضاعة المال وكان رحمه الله يصلح للتربية وتهذيب الأخلاق وقال والدي أني لزمته ولم يكن الخير إلا منه فاغتنم بركته وصار في اتباع السنة والورع والتقشف أكثر منه وكان صديقا ملاطفا لجدي والولي سيدي يحيى بن حمودي وسيدي على الصافي وغيرهم فذهبنا إليه ذات ليلة فلم نجد عنده طعاما فلم يتكلف شيئا بل أتى بخضرة الصحراء بعد طبخها وجعل عليها شيئا من السمن والزيت فلما أتى لنا بها لم يعتذر ولم يقل شيئا وقال الوالد والله لم يكن شيء أحلى منها عندهم إذ لو لا الحياء لا عتركوا عليها قالوا
وأتينا مرة أخرى فأتى لنا بزير من عسل فوضعه بيننا فعلمنا صدق الشيخ وأخلاص نيته وسمعت أيضا انه أتى لزيارته فرحات بأي وعادة البايات يزارون ولا يزورون وان اعتقدوا أحدا بعثوا إليه ليزوروه في محلهم خوف الإزدراء والنقص في حقهم فلما وصلوا أتى لهم بخبز وأظنه من شعير فكسره في الزيت وشيء من التوابل يقال له اجعجوع والزيت لا يأكله إلا الخماس والراعي ومن هانت عليه نفسه فأتى به هو إلى الملوك ثم قام الباي لما أتى به الشيخ ظننا أنه لا يأكله أحد منها فلما بداناه حياء منه وأكلنا منه شيئا وجدناه والله خيرا من سائر الأطعمة التي كانت في الدنيا ولو لا الهيبة والحياء لتقاتلنا عليه وغير ذلك من أموره نفعنا الله به وقيل له أصلح بين القبائل الذين بينهم الفتنة فقال والله أحمد الله وأشكره حين عصمني الله منهم بحيث لا يمنعوني عن الصلاة في المسجد فضلا عن أن أصلح بينهم ومع هذا إذا كان العرس ركب فرسه ولعب بها للسنة النبوية وكانت والدة أبي من الصالحات شريفة كوالدتي أيضا وكانت تقسم الليل أثلاثا ثلث للصلاة وثلث للنوم وثلث للذكر وجدي كان عنده الزيتون وسيدي الحسن لا (1) قالت فجعل حظا من الزيتون للشيخ تلتقطه بطهارة وتعصره بطهارة أيضا لتتم معارف الشيخ ونوره ولتغتنم (2) بركته أيضا رحمه الله ونفع به وأما أولاده فلا تجد فيهم ناقصا بل كلهم على الكمال وكذلك أولاد الشيخ سيدي محمد صالح جل أحوالهم على الهدى وسيدي عبد الله من الصالحين وترك ولبيبن صالحين سيدي عبد الرحمن وسيدي أحمد وهما مفترقان في السكنى وقد سمعت أنه قال لي لما تحيرت من أمر السكنى رأيت قائلا يقول لي فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته الآية فسكن موضعا كذلك (3) وهو المسمى اثروش مستندا
__________________
(1) في نسخة ليس عنده.
(2) في نسخة يلتقطه ويعصره وليغتنم.
(3) في ثلاث نسخ فبيكني موضع كذلك.
إلى الكهف كما رآه في النوم كذلك فظهر له الفضل وولده صالحان سيدي عبد الوهاب وسيدي على قد قرأت على سيدي علي الألفية حاصله أولاد سيدي محمد صالح لم يعدموا الفضل وإن كان بعضهم أولى من بعض وكذا أهله أولاد سيدي محمد صالح من قرية بيكني كلهم على الفضل والعلم والحلم والخير خصوصا العالم الفاضل الخطيب المحقق في علم الكلام وقد سمعت ممن سمع من تلميذه سيدي محمد العياضي أنه قال أن الشيخ قرأنا عليه شهرا بتمامه من قوله فعلى العاقل إلى الختم من غير تبطيل دائما إلى الليل نصا واحدا وقد سمعت أيضا أنه قال رأيت الشيخ السنوسي في النوم يضرب برأسي ويقول أنت أولى بكلامي يا مسعود وهو العالم الفاضل سيدي المسعود بن عبد الرحمن آية من آيات الله تعالى وقد تزوجت بنتين من ولده سيدي السعدي وسيدي علي ولده محقق في علم الكلام غير انه لا يصل مرتبة أبيه وكذا سيدي محمد بن الفقيه محقق في الكلام فاضل صالح مشتغل بنفسه وقد أخذ عني الصغرى بأن قرأناها قراءة تحقيق بحاشية المحقق المراكشي وكذا أخذ مني الفقيه الفاضل العالم الأديب الحسيب (1) وهو ليس منهم فنبهنا عليه لأنه من أجل الفضلاء وقد رأى الكاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له يحيى بن حمزة من أحبابي وكفى به ومن الصالحين سيدي الحسين بن حمزة إذ اشتغل بربه ونفسه إلى أن مات نفعنا الله بجميعهم ومن هذه الفئة الأديب سيدي محمد بن حمو وأولاده مثله.
انعطاف بقي واحد من أولاد سيدي محمد صالح سيدي علي بن محمد ظاهر الصلاح لا شك فيه إذ خصاله كلها محمودة ودعاؤه مستجاب كريم على الإطلاق اللهم ارزقه بذكر من صلبه يعمر محله بالعلم والسر والولاية والزهد والكفاف
__________________
(1) في نسخة الحبيب.
والعفاف نفعنا الله بجميعهم آمين بمنه وكرمه وقد قلت فيهم :
جدوا
حقايا ذا الفضل فيض (1)
|
|
إذ
شهر أنواركم تعطي لنا حلمكم |
فقوت
قربكم يبدي لنا دررا (2)
|
|
وحق
أكرامكم يحظي لنا غررا |
فكلهم
أخلصوا الأعمال من حبه |
|
وأظهروا
فضله كل قربه (3) |
أهلة
أقمر في ظلمة من دجى |
|
وعلمهم
أنوار للصبح منبلجا (4) |
فإنهم
في أنهار العلم يلتقطوا |
|
من
در عرفانهم فالكل ينبسطوا (5) |
قد
ركبوا من مطايا العزما وجدوا |
|
وحازوا
سبقا مضى في كل ما شهدوا (6) |
بالفضل
منهم زالت رعونة الأنفس (7)
|
|
بتمكين
الله حقا غير ملتبس |
ونورهم
بالتقى فغير منعكس |
|
وجدهم
بالوفا فغير منتكس (8) |
فاسلموا
حالهم في أيدي رب الملا |
|
وخلوا
حقا لهم في كل ما يبتلى |
فرفعوا
جملة لكل من قد أتى |
|
بحضرة
العز سعيا ليس من قد عتا |
عن
جادة وطريق الحق مشرقة |
|
قد
عد ذو القصر حزما كل مقصورة (9) |
__________________
(1) في نسخة جودوا حقا ذوي فضل بفيض إحسانكم.
(2) في ثلاث نسخ وشيء من قربكم.
(3) في نسخة فضله من سطوة قربه.
(4) في نسخة وعلمهم مثل نور الصبح.
(5) في اربع نسخ من درر عرفان.
(6) في ثلاث نسخ
قد
ركبوا مطايا من عزما وجدوا |
|
وحازوا
سبقا أيضا في كل ما شهدوا |
(7) في أربع نسخ فازالت منهم رءونة الأنفس.
(8) في نسختين وجدهم بالعز وفي نسخة بالعز جدهم ع غير منتكس.
(9) في نسخة جزما وفي أخرى كل مقصدة وفي أخرى إذ بالخيرات يفوز تابع السنّة.
ومد
كلا من الممدود فيما علا |
|
وساروا
من سرها يدنون من حوقلا (1) |
فازالوا
حجبا عن لك مستورة |
|
فرأوها
عيانا في كل مرئية (2) |
فمنهم
أحد مؤيد من سما |
|
ومنهم
من سلب العقل ليس عمى (3) |
فأذهبت
قوة لكل ذي صحة |
|
واحزنت
جذلا لكل ذي قوة |
وحركت
ساكنا بسطوة الهمة |
|
وطيرت
أرواحا بريح عاصفة (4) |
وحيرت
ثابتا بكل ما قد دهش |
|
فأبصرت
جاهلا بل ما دق خدش |
حتى
أوتوا كلهم حكمة رب العلا |
|
وصيروا
آمنا في ذروة قد خلا (5) |
سواهم
معدوم ولن يرموا قلى (6)
|
|
لمخلوق
أبدا خصوصا من قد علا |
قد عم
وبلهم تحقيقا من في الوطن |
|
وكلهم
بالرضى من ربهم مؤتمن |
عزهم
محبوب بكل ما حققوا (7)
|
|
وأعلنوا
صدقهم بما به وفقوا |
وأظهروا
مظهرا لنوره كل ما |
|
قد
ضاق منهم رحب فناؤه قد سما |
من
صغرهم أجادوا فحققوا ما أتوا (8)
|
|
من
أوصاف إلى غير أنهم بغتوا |
رضى
المولى عنهم في كل مسألة |
|
سم
الخياط أتى أوسع دائرة |
__________________
(1) في نسخة وصاروا من سرها يذوقون من حوقلا وفي نسخة يدنون أعلى الملا.
(2) في نسخة :
أزالوا
حجبا جما عن كل مستورة |
|
فريئت
عينا لهم في كل مرئية |
(3) في نسخة فمنهم آخذ من يد من قد سما وفي نسخة ومنهم مسلوب عقل؟؟ قد هام.
(4) في نسخة وصيرت رائجا بريح عاصفة.
(5) في ثلاث نسخ في درة وفي نسخة قد منحوا مننا يا خسر من قد خلا.
(6) في نسخة من سواهم.
(7) في نسخة من عزهم.
(8) في نسخة أوتوا.
دمهم
شيم يطفى اشتعال نار |
|
أحوالهم
في الوغى ترد سخط جار (1) |
يا
رب جد سيدي قبل نزول العذاب |
|
بحق
من قد سما في كل من انتساب |
وان
تعفو رجلا (2)
يرعى خواطركم |
|
لعل
من نفحة أرقى بها إليكم |
وجد
لنا بالرضى والفوز بالمقعد |
|
للنسك
متصل والكل في مصعد |
في
جنة الخلد حقا منه أن ينظروا |
|
لوجهه
بالرضى مع منحه اعتبروا |
للوالدين
وللبنين مع من أحب |
|
من
أخوان وجيران حق من اقترب |
علاقة
الأزواج (3)
وكل من انتمى |
|
من
أشياخ آخذ من طالب النعما |
ثم
الصلاة على محمد ما في السما |
|
كذا
السلام عليه ماجدا أفخما (4) |
وآله
شرفا وصحبه حججا |
|
ما
دام شمس النهار تقطع الأبرجا |
ومن أولاد هذا الشيخ نفعناه الله به آمين سيدي علي بن محمد حي فاضل ذو ظن وحب في الله وفي كل منتسب إليه أفاض الله علينا من بركاتهم آمين.
ومنهم الشيخ الفاضل العالم كبير السن عظيم الشأن سيدي علي الصافي من ذرية الولي الصالح سيدي موسى وسيدي علي هذا أدركناه كان عابدا أقبل على مولاه ضريحه في قريته وأما جده فضريحه عند بني إبراهيم معظم قبره يزار وأولاد سيدي علي هذا أفاضل إلى الآن وهم على خير إلى قيام الساعة إن شاء الله نفعنا الله بكلهم آمين.
ومنهم الولي الصالح والبدر الواضح سيدي السعيد بن الحبيب ومن قرابته
__________________
(1) في ثلاث نسخ فما هم شيم وفي نسخة في الوغى تريك.
(2) في نسختين واجلا.
(3) في نسخة وللأزواج لنا.
(4) في نسخة ما جرى فاغما وفي أخرى ما سار في السماء نجما.
الفاضل الصالح سيدي يحيى بن الحبيب وكذا من حلاه الله بجلية القبول وقد غلبت عليه صحبة الرسول منّ الله بفضله قريب سيدي عيسى بن الحبيب وقد أدركته صغيرا وكان عالما فاضلا كريما مهد الله له خلقه ونصره على ملوك زمانه بحيث لا يتعدى الغالب منهم كلامه وقد كان صغيرا طالبا عند الشيخ سيدي الحسن وأشار بولايته وكان إذا أراد أن يذهب إلى بيته يعطي له فرسه يركبها دون سائر الطلبة قيل له في ذلك قال عيسى مرابط وكان كذلك لأن أنفاس سيدي الحسن ما كذبت قط وسيدي عيسى هذا أعطى من الحلم ما لا يمكن أن يعبر عنه وكذا كرمه وقد سمعت من عم أبي قال إني بت عند سيدي عيسى هذا ليلة فلما حان وقت صلاة الفجر وإذا بالشيخ يقول أرأيت بني يعلى فقد انكسروا وأصابتهم جائحة الفتنة وكان الأمر كما ذكر وقال أن بني أحمد أيضا قد أتاهم ذل وفتنة عظيمة وسببهم الشيخ الفلاني الذي حرمه الله من نعائم الدنيا إذ كان يصوم الدهر كله غير أنه من العرفاء [أعني عليا ابن جني إذ قال صلى الله عليه وسلم أكثر العرفاء للنار وأما قليلهم فالمجنة والعراقة المشيخة](1) وقال أيضا أن جميع الرؤساء من الشيوخ أتوا إليه وكل واحد يسره بكلام فإذا قام لي يا سيدي أبا القاسم الشريف كل واحد من هؤلاء إلى النار إلا واحدا أتاه من الشيوخ كلم الشيخ بالجهر ورفع الصوت بين يديه والشيخ كالمغضب عليه فلما انفصل عنه قال هذا من أهل الجنة يا شريف والشيخ هذا [هو عبد الرحمن بن أحمد بن امقدس](2) حاصله كلما قال كان إلا إن البعض في حياته والبعض بعد موته وهو نفعنا الله به يحب الأشراف غاية المحبة يعمل بقوله تعالى قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى وقال صاحب المواهب اللدنية من المعاصي التي لا بد أن يعذب عليها بغض الأشراف واستدل بقوله تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(2) في نسخة مقداش أو مقديش وما بين القوسين ساقط في نسختين.
إلى قوله أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين يعني نفي الهداية عن هذا الفاسق وهو مبغض الأشراف فكان حينئذ الغضب قطعا وهذا سيدي عيسى نصره الله على الخلق زمانه وقد قال بعض العارفين إذا كان المرء عبد الله تعالى أن أظهره نصره وإن أخفاه ستره إذ عبد الظهور عبد الظهور وعبد الخفاء عبد له واللائق أن يكون عبدا لله تعالى أظهره أو أخفاه غير أن الإخفاء هو الكثير إذ الظهور هذا من أوصاف الإله سبحانه لا يشاركه فيه أحد غير أن الخلق عيال الله فلا بد من أحد يصلح شأنهم وشنآنهم وذات البين طوبى لمن كان كذلك فيظهر الله بعض عبيده لذلك بأن يخلقهم لمصالح خلقه ويكسوهم من هذه الملابس لتبدو هذه الحكمة النورانية والفائدة الروحانية ليصح نظام العالم الصمداني وليتم الوعد الرباني وسيدي السعيد ذا له قبران قبر عندنا وقبر في برباشة (1) والمدة بينهما نحو من مسافة يوم بالإجمال المثقلة في الأيام القصار أو نصف يوم في غير ذلك ولما تنازعوا على دفنه وكل منهما يسرقه ليلا فيقّظ الله كلهم فوجد كلا الفريقين الشيخ في قبره فحصل المقصود للكل والشيخ سيدي السعيد تاريخه من أول الحادي عشر وأولاده وقرابته على الفضل والخير نفعنا الله بهم آمين.
ومنهم سيدي ناصر الخلقي كان فقيها مفتيا حافظا للأنقال وهو من قرننا هذا ومن الحادي عشر معاصر لجيد والد والدي وأولاده على الفضل والحلم والعلم والحمد لله نفعنا الله بهم آمين.
ومنهم سيدي أحمد بن سعيد ولي معظم عند بني عفيف ضريحه مشهور يزار وأولاده أفاضل على الخير والطاعة ومن أولاده محب النبي صلى الله عليه وسلم
__________________
(1) في نسخة في رياشة.
وأصحابه به الشغف القوي من أجله حتى ظهر ذلك للعامة والخاصة بحيث لا يشك أحد في ولايته وهو من قرننا هذا من الحادي عشر وهو سيدي علي بن حصانة نعم الزوار وفقراء زماننا انتفعوا به أي انتفاع وسمعت من بعضهم انه قال الشيخ علي كان يجتمع مع رجال الغيب ويحضر ديوانهم والله اعلم وكان كريما إذا لم تأته الضيوف يبعث إليهم إذ مهمي ابطؤا عليه ضاق وحزن وان أتوا إليه سر وفرح وقد سمعت حكاية عنه أن صحت وهي مشهورة لدى العامة ونصها أن الشيخ على المهاجري كان زمارا في الأعراس بأن بلغ الغاية في صنعته بحيث يشترطه أهل الأعراس دائما فقد فاق أهل صنعته وهذه صنعة محرمة لأن مثل زمارته تلهي كل اللهو على ما حكوا عنه ولو على قول ابن كنانة الذي يقول بجوازها أن لم تله كل اللهو سيما مع انضمام مفاسد إليها كحضور النساء والشبان والرقص وذكر الخدود والقدود فان كان كذلك فحرام فلا يقول أحد بحليته أبدا أتى إلى هذا الشيخ في حاجة عرس أو غيرها فقضى الحاجة للشيخ على حسن المراد وإذا هو عطفه الله عليه وقال أن مررت بمحل كذا من طريقك تمرغ بالموضع الفلاني فلما وصل إليه تمرغ فيه وكان قبله اجتمع الأولياء ديوانا هنالك فأثر فيه الحب لله بأن صبغ حينئذ قال وبعد ذلك لا أحضر إلا عند رفع العروس لزوجها وأما بعد فاذهب إلى المسجد فاشتغل بالصلاة والعبادة إلى أن يطلع الفجر أو ما شاء الله والناس يظنون انه هو الذي يرفض ويشطح ويغني وليس كذلك وإنما خلق الله صورة شيطانية مثل صورته (مع أنه لا آثم عليه فضل منه) ودليله خلق الله الملائكة على صورة الإنسان تفعل الطاعة ويكون الثواب للإنسان فقد قال صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا اغتسل من حلال يخلق الله من كل قطرة منه ملكا يعبد الله تعالى إلى قيام الساعة وثواب ذلك للمغتسل أو كما قال صلى الله عليه وسلم أي تفعل ما يفعل وهذا أن صح عنه فغير بعيد غير أنه واقع والله أعلم ويدل عليه أني صغير في بني عيدل فذهب كلب إلى قبره
فاستخرجه منه فلم يتغير منه شيء والمدة التي بين إخراجه وأقباره سبعون أو ثمانون سنة فالغالب من ذلك أنه من الذين يحبهم الله ومن أحبه فلا سبيل للأرض عليه وأحوال الشيخ كثيرة نفعنا الله به آمين وولداه على الطاعة والخير والحمد لله وقد أدركتهما أحدهما سيدي إبراهيم وهو كبير السن والناس يعتقدونه ويعظمونه والأخر قد مات وكانت طريقه كأبيه سيدي محمد السعيد نفعنا الله بهم.
ومنهم الولي الصالح ذو الكشف الواضح سيدي محمد ومثله في ذلك مع زيادة في العبادة سيدي محمد (1) بن علي ومثلهما في ذلك أو أعظم سيدي يخلف إذ كلهم في القرن الحادي عشر متعاصرون نفعنا الله بهم غير أن طريقهم مختلفة أما الشيخ سيدي محمد بن علي يتبع لسان العلم وكثرت عليه المجاهدة حتى أثرت فيه تأثيرا قويا إذ غلب عليه حال الخوف وأما سيدي محمد أمشالي (2) فقد غلب عليه الجمال وأما سيدي يخلف فقد كثرت عليه الخلوة والاعتزال بحيث إذا بقي في موضع مرئي للناس جازوا عليه ولا يرونه أصلا وهو صاحب كشف عظيم لا يكاد يخفي عليه أمركما أخبرني من رآه وصحبه وهو أمي لا يقرأ وهو من المغرب ومثله ولده سيدي الطاهر في الخلوة والاعتزال ورؤية رجال الغيب وقوة الكشف وأما امشالي فانه من بني يعدل أي بني جعفر وأما سيدي محمد بن علي فمن بني يعلى وأولاد الجميع على الخير والطاعة والحمد لله.
تتمة أما سيدي محمد صالح فجده أبو محمد صالح الدكالي المعلوم وأما سيدي أحمد ابن سعيد وأولاده فمن أولاد دراج لأن طائفة من بني عفيف منهم وأما سيدي السعيد بن الحبيب فمن وانوغة وأما سيدي علي الصافي فلا أدري ذلك والله أعلم.
__________________
(1) في نسخة أحمد.
(2) في نسخة امشامي.
ومنهم سيدي يدير الحاج فولي من أولياء الله تعالى شريف وأولاده فحول وذوو فضل وعلم وحلم وعبادة منهم سيدي علي بن الطيب وسيدي محمد بن الطيب وغيرهما وسيدي محمد السعيد بن أبي القاسم وسيدي الموفق وأولاده وغيرهم فهم أهل خير وعبادة وجد فيها وهم من بني يعدل نفعنا الله بهم آمين.
ومنهم سيدي محمد الشريف وأولاده سيدي عبد الله وغيره فهو رجل صالح وهم قرباء لسيدي الصادق وإنهم من بجاية وكذلك سيدي الصادق من بجاية أيضا.
ومنهم أولاد صالح فهم على الخير والفضل والقراءة وهم من جبل عياض نفعنا الله بهم آمين.
ومنهم الولي الصالح والبدر الواضح سيدي يحيى بن موسى فقد ظهر أمره ظهورا فاشيا يزار دائما وسيفه ماض لمن يتعدى على أولاده وذلك مجرب صحيح لا يكاد يخفى على أوباش العامة فضلا عن الخاصة وقد علمت من أهل بلدنا أن دعاء سيدي يحيى بن موسى هو سبب الشر الذي أصابهم حتى افتتنوا ومات من جميعهم نحو الثلاثمائة من غير حق وإنما هو أمر الشيخ جار عليهم وهو من تلامذة الشيخ سيدي يحيى العيدلي وسببه انه ذهب للشيخ ليسرقه فدخل موضعا مختفيا وأظنه موضع الدواب ظنا منه أن دار سيدي يحيى مملوءة بالأمانات ولعله يتصل بشيء منها وهو ممن سبقت له السعادة والعناية فلا تضره حينئذ الجناية فيعد العشاء اجتمع الأولياء عند الشيخ على واحد من الأولياء مات لينظروا من يرجع في محله ومقامه ولما استقر بهم المجلس وقربهم الأنس سألوا الشيخ سيدي يحيى عمن يصلح فقال ايتوني بذلك الذي كان مختفيا فاطلعوه وعقدوا له ذلك فوصل من حينه لأن الولي إذا أراد؟؟ وقالوا أيضا عزم الولي اقطع من السيف وقال أبو الحسن الشاذلي نعم الرجل
أبو العباس المرسي يأتيه الرجل البدوي يبول على ساقيه فلا يمر عليه يومه حتى يبلغه لله فكذلك عمل الشيخ سيدي يحيى لهذا الشيخ قيل انه لما رجع صبيحة تلك الليلة كان كل من لقيه من الرعاة أو غيرهم قبل يده وطلب منه دعوة الخير بعد أن كانوا اليوم الذي قبل ذلك يتحاذرون منه ويتناذرون من أجله بالكك سي يحيى بن موسى والله سبحانه يفعل ما يشاء نفعنا الله به آمين وهو من القرن التاسع وأولاده على القراءة وإطعام الضيف والطاعة والفضل سيما العالم الفاضل الولي الكامل سيدي يحيى بن حمود (1) وقيد قيل انه يجتمع مع رجال الغيب وانه يشتري لهم قدرا معلوما من الثياب وهو تلميذ سيدي علي بن طالب وهو طامة كبرى وكذا أولاد سيدي يحيى بن حمود سيدي أبو القاسم وسيدي أحمد كلاهما على العلم والفضل والكرم والنصيحة والأخلاق السنية نفعنا الله بهم.
ومنهم أولاد العقاري (2) فيهم العمل والعلم والصلاح غير أنهم قد انقرضوا فهم من أولاد سيدي عمر العجيسي.
ومنهم أولاد سيدي على امداح ظاهر الصلاح أيضا وولد ولده فيه الفضل والقراءة والنجاح نفعنا الله بجميعهم آمين.
ومنه الشيخ الولي الصالح العلامة الواضح سيدي محمد الصغير صاحب جد واجتهاد في العبادة أولاده وقرابته على الخير والطاعة والصلاح وكان رحمه الله تعالى يحب الأشراف حبا قويا بخلاف غيره وهو من الحادي عشر.
ومنهم الولي الصالح العلامة الفاضل والمحقق الكامل والنقاد الأبريز سيدي
__________________
(1) في نسخة حمودي وفي أخرى حمودة.
(2) في نسخة الغفاري.
علي بن عبد العزيز من ذرية سيدي أبي الحسن الشاذلي كما كان بخط الجم الغفير والعدد الكثير انه من ذريته وهو نجل الشيخ الولي الصالح سيدي عبد العزيز الخراز أما قبر سيدي علي فهو في بني إبراهيم وأما ضريح أبيه سيدي عبد العزيز فهو في الزاب أي في الصحراء وهو معلوم في بلد الدوس نفعنا اله بهم وكراماته ظاهرة وأسراره باهرة صاحب العناية وقد سمعت أنه أخذ علمه عن الشيخ الولي سيدي عمر الوزان القسنطيني وكان رضي الله عنه بنى دارا واسعة عظيمة بحيث لا يكفيها جذوع الأرض والذي رآها يتعجب بما يكون به السقف وقد رأيت رسمها فلما كملت أصبحت الجذوع على الدار أي القنناطيس من جبل الزان (1) وبيننا وبينه يوم كامل وقد عملوا ذلك من خرق العادة وقد رأيت المورد العذب لابن الجوزي بخطه وأولاده أفاضل على الخير والطاعة والحمد لله وهو من القرن العاشر أي أوله ولا أدري هل أخذ من التاسع أم لا نفعنا الله ببركته وجعلنا في زمرته آمين.
ومنهم الولي الصالح جدنا سيدي أحمد الشريف نسبا إذ ثبت ذلك وهو الشريف الحسني والذي سمعناه من أعالي أسلافنا انه من شرفاء تفلالت وأما مقره ومقر أوائله فمن بجاية وجدنا هذا نجل الشيخ سيدي علي البكاي وكانت له زاوية عظيمة وقد سمعنا انه قدم بخمسمائة طالب إن صح وقد ثبت عن بعض الثقات من بني يعدلي أن طلبة الشيخ في محله إذا قرءوا الحزب سمعوهم من بني يعلي يعني من مدشر الخميس وهو الكدية ومدشر الذراع وكان رحمه الله يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم والمحل الذي يجتمع فيه إلى الآن معروف بعلامة ظاهرة وقبره يزار وقد سمعت العدل الصالح بلا شك سيدي محمد الحاج حين بتنا معه ليلة الجمعة في روضته فلما أخذنا النوم واستولى علينا ولا أدري جاز الليل على النصف وهو الظاهر
__________________
(1) في نسخة الزاب.
مع جماعة من الطلبة فاستيقظنا من النوم وأتينا إلى محل الافتراق (1) ثم إن بعض الطلبة سأله عن الحكمة في إتياننا نصف الليل وثلث الليل الأخير أولى فقال أعلمكم غير أنكم لا تخبروا أحدا إلا بعد موتي فعاهدناه على ذلك فقال لما نمتم وإذا برجال الغيب يجتمعون إلى أن امتلأ الموضع ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وسيدي عبد القادر الجيلاني أيقظتكم والحمد لله على ذلك وقد سمعناه أن الديوان يكون ليلة الاثنين والجمعة غير أن الاثنين بالشيخ سيدي عبد القادر وليلة الجمعة بالنبي صلى الله عليه وسلم ولما بنى داره قال لبانيها أرسل نفسك من غير سلم فأبى فقال له والله لو أرسلت نفسك لوقعت في الكعبة وقد سمعنا أيضا إن من بات عنده في روضته سبع جمعات متواليات قضيت حاجته أي حاجة كانت دينية أو دنيوية ومن كراماته أن سيدي محمد الجوادي أعني الذي كان في صدوق المشهور ولايته أخذ عنه وكان شيخا له فلما قربت وفاته قال له إذا مت من أشاوره بعدك فقال له أنا قبل وبعد فلما مات كان الأمر كذلك فصار يكلمه من قبره إلا مرة واحدة أتى إليه ليشاوره في أمر فنادى الشيخ على عادته فلم يستجب له أي لم يجبه فبكى من ذلك وظن أن المانع منه فمكث غير بعيد وناداه مرة أخرى فأجابه فقال له أين كنت قال كنت عند الشيخ سيدي يحيى كان غائبا أمدا طويلا عن الأرض فلما رجع ذهب الأولياء إليه فذهبت إليه وكان ولده سيدي يحيى في مجانة. [أما بنو عشاش من بقية عبيد جدنا وقد خرجوا عن طاعتنا وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرجت طائفة باغية من بني إبراهيم وهي وسر وأولاد الخلف ومن (2) أراد الحرابة والزنى والسرقة فليتحصل بهؤلاء العروش أخلى الله منهم الأرض وقد أعانني فيهم المجاهد في سبيل
__________________
(1) في نسخة الاقتراء.
(2) في نسخة من بني إبراهيم وهي قرية وأولاد خلف لمن أراد.
الله القامع للمتمردين سيدي أحمد باي إذ نصرني وأعطى (1) أمر المحلة في يدي وأحرقت أولاد الخلف وقرية وسر وسكانها وبني عشاش وفي تلك السنة جعلت عليهم وأمرت الخليفة أن يأخذ منهم مائة وسبعين إلى أن يتوبوا لله ولرسوله ويرجعوا إلى الأحكام الشرعية أزال الله منهم ذلك ولنرجع إلى ما كنا بصدده وكان جدنا سيدي يحيى في مجانة](2) بأهله مكث فيها عشرين سنة وكان يركب معه من ممالكه ثمانون عبدا فأرادوا غدره فقال الشيخ له قل لولدي يحيى أنت نائم وأرادوا قتلك فأنا الذي أيقظتك حتى ركبت فرسك ونجوت منهم وكان يقول أن يحيى يحيى الدار ثم بعد ذلك رجع إلى وطنه لما قضى (3) الله أمرا كان مفعولا وكانت عنده بنتان كل واحدة منهما نسخت التوضيح وقد سمعت سيدي الطاهر الشريف انه قال أحد المنسوخين في فملال (4) إلى الآن وكانت عنده خزانة عظيمة بحيث لا توجد عند غيره ولما سلط عليهم الوباء ولم يبق إلا ولدان صغيران ضاعت الكتب والأملاك البرانية التي في بني عبد الجبار وسلالته أولاد عيسى بن عبد الله فأن بقية منها في الزاوية (5) وادعوا بعد ذلك أنها لهم نفعنا الله بهم ومن أولاده الفاضل الكامل الفقيه الورع سيدي الحسين جدي إذ كان مدرسا دائما يحفظ الشيخ سالما ينسخ منه كل ليلة نصف كراسة في القالب الكبير أخبرتني بذلك زوجته والدة أبي وهو يدرس إلى أن مات وكان يفتي ولا يقبل الهدية من أحد وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره بالفتيا على لسان بعض من يراه يقظة من المحبين له وكذا والدي في غاية الاتباع
__________________
(1) في نسخة وأعظم أمر المحلة في يدي.
(2) ما بين القوسين ساقط في نسختين وفي نسخة موجود بين قوله قضى الله أمرا كان مفعولا وقوله وكانت عنده بنتان.
(3) في نسخة رجع إلى وطنه إلى أن قضى الله.
(4) في نسخة ملال وفي نسخة مملان وفي أخرى فعال.
(5) في نسختين ومسألته وأولاد سيدي عيسى بن عبد الله أن بقيت في يد الزاوية.
أكثر من أبيه تؤخذ السنة من كلامه ومن أفعاله فالمدخل والشيخ عبد الله بن أبي جمرة وابن عطاء الله والشيخ زروق أمامه وقد علمت من جعل واحدا منهم قدوة كفاه فكيف بالجميع قلت وقد أخبرني بان قال رأيت جدي هذا قال فقلت له أعطني سرك فقال سري مقسوم بين أولادي ولا أدري هل زاد له وأنت لك الحظ الوفر أم لا نفعنا الله بهم آمين.
ومنهم الولي الصالح سيدي محمد بن علي إذ كان هو المتصرف في الأوطان بإذن من له الحكم من بجاية وهو الذي مسك جدي في هذه البلدة وزوج بنته له وهو الذي أمر الناس بأن بنوا له وهم بنو يعلى قيل أنه هو الذي تسبب في إزالة الميراث بان كانت البلاد في أيدي الخوارج فلما حاربوهم وقاتلوهم أجلوهم من بلادهم فبقيت في أيديهم فجعلها للرجال فقط فلما سمع الشيخ الفقيه الولي الصالح سيدي محمد بن مصباح أنكر ذلك إنكار كليا وقال الشيخ يبقى هذا سنة إلى قيام الساعة فقال الذي قاتل هم الرجال فالآن لهم ويكون بعد على فرائض الله تعالى والحق ما قاله الشيخ قدس الله روحهما ونفعنا بالجميع بمنه وكرمه.
لطيفة فان قلت وكل ما ذكرته من الأولاد على خير وفضل وعلم وحال وحلم مع أن في ذلك أمورا لا تليق وأكثرهم على المخالفة والبدعة بل ربما على ذلك (1) قتل النفس بغير حق فما وجه صنيعك قلت الأمر كما ذكرت غير أني قصدت أمرين أحدهما الستر على سبيل الجملة لأنك إذا سئلت عن قوم فيما بينهم وبين الله فقل هم بخير خصوصا أولاد الصالحين وأيضا أردت زيارتهم بالثناء عليهم فهم أحياء في قبورهم ومن ذم ولدك وأنت تسمع تغيرت عليه وإذا تغيرت لا ينتفع منك من تغير عليه وأيضا مرادي من كان على طريق الجد المذكور والابن الخارج عن نمط الأب
__________________
(1) في ثلاث نسخ ربما زاد إلى المجمع (وفي نسخة الجميع) عليه سيما قتل النفس.
ليس بابن قلب الآن ولد القلب يرث الباقي وولد الصلب يرث الفاني وإذا كان ولدك على طريقتك فانه يرثهما معا وان كان ولد الصلب فانه يرث الفاني فقط وبالجملة فاني ذكرت أولياء الله في وطننا ولعل الله بذكرهم يزيل الحجاب عنا ويرزقنا الوهب الرباني لي ولذريتي ولمن تعلق بي وان يحفظني من العوائق عن الوصول إلى الله وإن يجمع شملنا ويرزقنا ما زرق به أهل وده وليس لك إلا بالتسليم لهم مع محبتهم وكذلك بالتعظيم لأولادهم لقوله تعالى وكان أبوهما صالحا قيل الجد التاسع ونسبة المفضول للكامل من باب نسبة ما للجزء للكل مجاز كما ذكر (1) اه.
انعطاف بعد ذكر أهل وطننا فإن فيه زيادة وتنبيها على بعض أوصافهم الحسنة لتزداد النفس رغبة فيهم ورجاء أن تكون همتك كهمتهم فإن الرحمة تنزل عند ذكرهم.
فلما حان السفر وآن حاله ذكرنا بعض ما ورد ذكره وصلينا الصلاة الواردة وختمنا بالصلاة في المسجد ثم أتينا أهل البيت والخدام والطلبة والجيران ومن أتى يودعنا ودعوا لنا ودعونا لهم وعند ذلك رفعنا ما يحتاج الرفع وانفصلنا على حسن الانفصال ووقع البكاء والصراخ من أهل البلد لما كان من أنسهم بنا إذ اعتقادهم ما دمنا معهم لا يقع بهم إلا الخير والبركة وكل ذا بعد التحيل على المنع من السفر أصلا ورأسا فلما امتنعت كل الامتناع لم يبق إلا الصبر والتسليم لله في حكمه وإبرامه وقدرته وأرادته وعلمه لأن القلوب قد تعلقت بالمصطفى صلى الله عليه وسلم فسهل عليها الفراق من أجل ذلك قال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم الآية فإذا كان النبي أولى من النفس فكيف يبقى التعلق بالأزواج والذرية والمال بل المتروك كالعدم بالقياس إلى المطلوب إلا ما ألزمتك به الشريعة من الوصية على
__________________
(1) في نسختين ونسبة الفضل للكلي من باب نسبة ما للجزء للكل مجاز لما ذكر.
الأولاد والنفقة على من تلزمك نفقته لأن الذي ذهبت إليه هو الذي ألزمك بها فلما جهزنا الأمور ، ووفينا المسطور ، أخذنا في الظعن والذهاب ، ومع ذلك كثر من الناس الارتقاب ، وبعضهم لا ربه بعضهم لزوال الأرتياب ، فأكثرها بالإحالة إن شاء الله على الاياب ، فحينئذ نمشي خطوة بعد خطوة مع التوديع جملة وتفصيلا وقد قلت :
حقي
على الأوطان بالرعاية |
|
وحقهم
علي بالهداية |
ما
أصعب التوديع للأحباب |
|
وعنده
بالحزن واكتئاب |
وكل
نفس تزعج للافتراق |
|
لفقدان
المألوف باختناق |
حبيبكم
بويل منه قد رجع (1)
|
|
وسمه
للعظم منكم قد قطع |
فالعين
قد تبخل (2)
بالدموع |
|
والكبد
محروق من المودوع |
دموع
يخشى عليه منذ فرق (3)
|
|
كالمجنون
المصاب حقا بالقلق |
ونفسه
كأنها في النزع |
|
وقلبه
منصدع بالروع |
فأشد
النيران نار بافتراق |
|
لعمركم
قد هبت (4)
نار باحتراق |
فتحويل
الوجه عن (5)
الوداع |
|
بشدة
يرجع بانصداع |
أيتها
النفس تحملي واصطبري |
|
لتوديع
الصحب لخير وخير (6) |
__________________
(1) في نسخة حبيبكم اليوم منه وفي نسخة حبيبكم يومل سنة.
(2) في نسخة تهمل.
(3) في نسخة يغشي وفي نسخة دموعي وفي أخرى عليه متدفق وفي أخرى دموع غاشية عليه قد فرق.
(4) في نسخة :
فاشتدت
النيران بافتراق |
|
لعهدكم
|
وفي ثلاث نسخ هانت نار وفي نسخة هابت أو هافت.
(5) في نسخة عند.
(6) في نسخة لتوديع المحب وفي أخرى
أيتها
النفس بالله فاصبري |
|
لتوديع
المحب وكل خير. |
فموتهم
أحلى بالاتفاق |
|
وسيرهم
يسير بارتفاق |
لا
كنه الحبيب منك قد نسخ |
|
ما
قد عسى يكون مما قد رسخ (1) |
بل
حبه اشغلكم على الدوام |
|
فانه
غيبكم عن الآلام |
فلم ترض
الأزواج غير من قصد |
|
ولم
تسع لغيره مما تريد (2) |
وإن
طال العهد عن المودوع |
|
فلم
يضرنا هذا المتبوع (3) |
وكيف
ذا منا لنا مما ذكرا (4)
|
|
من
أولياء وصلحاء قد يعتبر |
فناء
محبوب من الإرسال |
|
فانه
الكل بالابتهال |
بجاهه
وجاه من زبرته |
|
من
عالم وفاضل قيدته |
بنصيب
وحظ (5)
منه وافر |
|
وعودة
عديدة وناصر |
على
الذي أحييته من سنة |
|
وانشرن
لواءها بعزة (6) |
على
ساق الجد تكون قائمه |
|
مع
شدة الحزم تكون دائمه (7) |
بحقه
مما بنا قد اعتلق (8)
|
|
من
أولاد ومن بنا قد انتسق |
خالدة
تليدة لا تنزع (9)
|
|
كلية
العلوم حقا تنبع |
__________________
(1) في ثلاث نسخ ما عسى أن يكون.
(2) في نسخة غير مقصد ولن تسعى لغيره مرتدي وفي نسخة ولم تسع لغير ما تريد.
(3) في نسخة هذا المنزوع وفي نسخة فلم يضرها من هذا المتبوع وفي أخرى عن الموعود.
(4) في نسخة لما حنا مما ذكر في نسختين ذا لما منامما ذكر.
(5) في نسخة أجعل لنا نصيبا.
(6) في نسخة وانشر لنا لواءها.
(7) في نسخة الجد كي تكون.
(8) في نسخة التصق.
(9) في ثلاث نسخ خليدة وتنتزع وفي نسخة خالدة تليدة تكيدة.
من
أبناء وأبناء الأبناء |
|
لغابر
الدهر من أولاء (1) |
واغفر
لنا ربنا ثم الوالدين |
|
وأخوان
وجيران والمسلمين (2) |
ثم
الصلاة والسلام ما طلع |
|
شمس
ونجم في سماء قد سطع (3) |
وآله
وصحبه ذوي التقى |
|
والزهد
والعلم ومن قد ارتقى |
نعم خرجنا يوم الخميس لما فيه من التيمن والبركة ، في كل سكون وحركة ، كما روي عنه صلى الله عليه وسلم ثم بقينا كذلك على التوديع إلى أن غربت الشمس بل إلى صلاة العشاء والناس تقدم إلينا لتذكرنا الانفصال ، والافتراق والانتقال ، فحصل مبيتنا في بني حافظ ، فودعنا كل حبيب وعدو ورافض (4) ، هذا وان أولي القربى من أهلنا الأشراف ، حصل منهم اللطف والألطاف ، وقد قاموا بمن نزل بهم بحق الضيافة ، وبات عندهم أضعاف مضاعفة ، كثر الله رزقهم ، ومن كل بلاء حفظهم ، فلما أصبح الصبح وتنفس ، أخذنا في الرحيل أمننا الله من كل بأس ، وظعنا من تلك القرية مودعين كل فاضل وعشير وعشيرة وعترة وانفصلنا عن الأفاضل وغيرهم قاصدين بني يعلى فبلغنا محل المدرس الفاضل ، والعلامة الكامل ، المحب على الدوام ، المحقق الهمام ، ذي الفضل والنجاح سيدي الحسن بن مصباح رحب الفناء ، عالي السناء ، شامخ البناء ، كل خير منه قد دنا ، وقد فرح بوصولنا واحضر الطعام ، فأكل منه القانع والمعتر بالتمام ، ووصولنا عند الضحى الأعلى ، فكان محل الرفيع قد امتلأ ، بأفاضل الخاصة والعامة من بني يعلى ، ثم سألنا الله جميعا بقلوب خاشعة ، والسن متضرعة ، واجباح خاضعة ، بلوغ المنى ، والوصول إلى مكة ومنى ، وغير ذلك
__________________
(1) في نسخة من الأبناء وأبناء الأبناء إلى غابر.
(2) في نسختين كالمسلمين وفي نسخة واغفر لنا الهي.
(3) في نسخة في السماء.
(4) في جميع النسخ رافظ.
مما به الاعتناء ، فودعنا بعد ذلك من يريد الرجوع ، ثم بعد أخذنا في الطلوع ، لدار طب الزمان ، وقمر الأوان ، ولي على الإطلاق ، وزاهد بالاتفاق ، من يطلب رضى الرحمان ، باتباع النبي العدناني ، ناصح الأمة ، وناصر الجماعة ، ظاهر البركات ، سيدي بركات ، فدخلت بيته ، وزرت زوجته ، نخبة تعلى ، وهي صهرة لي ، من الصالحات القانتات ، الصادقات الصابرات (1) ، فلم تملك نفسها عند المفارقة ، وهي بقدرة الله مشتاقة ، فدعت لنا من صميم القلب ، وخلوص اللب ، وكذا أولادها ثم ودعناها أيضا ، نطلب الله الرضى ، فخرجت وما زلت أودع ، الأحبة والمتبع ، فمشينا تلك العقبة ، فوصلنا قبر كامل من النقبة ، ذي الهيبة والحيا ، سيدي محمد بن يحيى ، بخشوع وارتقاب ، والدعاء عنده مستجاب ، فصلينا الظهر عنده ، طالبين رضاه ووده ، وصلت تلك الجموع ، فرجع المودع وذهب المودوع ، طالبين الأمان ، وودعنا سيدي الحسين (2) ومن معه من الإخوان ، فذهبنا إلى زمورة فبتنا فيها ثلاث ليال ، لتكميل ما خص من حالهم وحالي ، وليلحق أيضا ما بقي من التالي ، فخرجنا يوم الأحد ، معتمدين على الله الصمد.
وزمورة كثيرة المياه ، وأرضها ذات زرع وضرع بلا اشتباه ، طعامها جيد ، وسوقها عامر مفيد ، وفيها برج للنوبة من الترك ، حفظها الله تعالى من أكابر المعاصي والشرك ، وفيها قائد ، ولأهلها سائد ، بهم يظلم ، وكيدهم في نحورهم دائم ، يسعون ببعضهم بعضا ، قد أهلكوا ولم يكن من الله الرضى ، وبسبب ذلك اضطرمت نار الفتنة ، وحقت عليهم كلمة اللعنة ، فليس يقبل منهم الاعتذار ، لأن القاتل والمقتول في النار ، بأنفسهم عذبوان وبرأيهم أصيبوا ، أزال الله منهم هذه الأوصاف ، ورزقهم تحف الألطاف ، رزقها رغد ، وخيرها مدد ، وقال الشيخ سيدي علي بن أبي زيد فيا
__________________
(1) في نسخة العابدات.
(2) في نسختين الحسن.
فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون قليلة الأشجار ، [كثيرة الإسفار (1) ، وأما بلدنا فهي قريبة منها على مسيرة أقل من يوم وبلنا كثيرة الشجر (2) من زيتون وعنب وتين كثيرة الفواكه إلا النخل والليم فليس فيها وما ذكرنا من بني يعلى وزمورة وطن واحد كثير الأمطار والعيون ومع ذلك كثير المعاصي والبدع ، وقل الحكم فيها وارتفع ، وزاد لما ذكر فنساؤهم باديات مكشوفات ، هداهم الله لحجبهن لأنه من أعظم الأفات ، وإنها كثيرة الثلج ومع ذلك يقولون انه زبل البلد ومهما كثر كثر الزيتون وزمورة علمها قليل ، وجهلها جليل ، كثيرة اللهو اللعب ، نائية التواضع والقرب ، قل فيها الاعتبار ، والزاهد في هذه الدار ، والشارب من كأس الحب بالإكثار ، وفيها من أجل الطلبة وأفاضلها من قل أن يأتي به الزمان ، ويسمح (3) به الأوان ، فاضل على الإطلاق ، ومحب بالاشتياق ، مشارك الفنون ، أديب متمكن في المعالي فحلا في العيون ، ومقبول عند الوجوه ، له طلاوة وحلاوة بما لا يعنيه لا يفوه ، ولي إن شاء الله عن كل ما يشين بعيد ، سيدي محمد السعيد ، ومثله بل زاد عليه حسن الخلق ، الفائز بتادية الحقوق ، سيدي محمد بن عبد الله ومثلهما سيدي المبروك الشوثري فانه أمثل أهل زمانه كثير الحفظ إلا أنه لم يستمد من الأشياخ وهو أنسب من غيره فتح الله عليه وكذا سيدي الطاهر الشوثري فقد رأيت رسومه فلا بأس بها وفيه الفقيه المسن ذو الأخلاق العلية والأوصاف السنية سيدي أحمد الشوثري وقد انتقل وتركته متوطنا فيها وفيها سيدي علي بن الطيب فقيه حافظ للأنفال ، وفقه الله وإيانا إلى صالح القول والأعمال ، وغيرهم مما لا نسبة له من العلم وإن قلّت.
__________________
(1) في نسخة الأسعار.
(2) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(3) في نسختين يصلح.
ثم مشينا من زمورة صبيحة الأحد ومع ذلك خرج معنا جموع من الناس فمنهم من وصل إلى أطراف العمارة ومنهم من وصل إلى قرب الوادي ومنهم من وصل إلى عقبة زمورة وكلهم محبة في الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأمة محمد بخير فلا بد لهم من المحبة وهي على قدر الإيمان ومنهم من ذهب معنا إلى أولاد يحيى فوصلنا قرب المغرب فلما سمع شيخهم وهو الفاضل الشيخ ابن عثمان فأقام بضيافتنا وأحسن وأكرم الحجاج وأطعمهم في بيوت الشعر إلا أنها بيوت المستقر (1) وأقرهم (2) وأنسهم وتأدب معهم فلما تنفس الصبح ، أتانا وإياهم بالربح ، أخذنا الطريق ، وودعنا من بقي من الرفيق ، وهو سويد اللب ، وولد القلب ، سيدي محمد بن عبد الله ومن معه من أصحابه ومن معنا من المحبين من أولاد سيدي أحمد بن التواتي وصاروا إلى بيوتهم منيبين ، وإلى بيت ربنا كنا متوجهين ، إلى أن نزلنا عند قائد العزلة في وادي بوسلام ، وأقام بضيافتنا بالإكرام التام ، والبسط العام ، الشيخ ابن حمود (3) ثم ظعنا صبيحة يوم الثلاثاء إلى أن وصلنا إلى قصر الطير ، فحططنا به الرحال مع الغير ، وتلاقينا مع الحجاج ، ومن يريد الزيارة بلا احتجاج ، ووصلنا عند الظهر ، وانتفى علينا وعليكم البأس والضر ، فوجدنا هنالك ما كان كالشقيق ، سيدي أحمد الطيب وأولاده وسيدي أحمد بن حمود (4) وأصحابه فكان ما رمناه بالتصديق ، فاجتمع هناك فضلاء ونبلاء وأولياء وصلحاء بالتحقيق ، وكل يوم والحجاج تأتي من كل فج عميق ، فلما اجتمعوا ، واشتروا وباعوا ، اهتموا بالرحيل ثم إن كل فاضل وعالم وذي خير وراغب من قصر الطير إلا أتى إلى الركب يزوره ويقتبس نوره إلا
__________________
(1) في نسخة وامعن بيوت الشعر إلا أنها بيت المستقر وفي نسخة واعطى بيوت الشعر وقربهم وفي نسخة وأطعم وهم بيوت الشعر لأنها أطيب المستقر فلما تنفس الخ.
(2) في نسخة وقربهم فلما تنفس الصبح.
(3) في نسخة حمودي وفي أخرى حمودة.
(4) في نسخة حمودي وفي أخرى حمودة.
أن قائده وشيخه الأول ابن يلس والشيخ أحمد بن الصخري (1) نجل الشيخ أبي عبد الله بن سعد بن السعد (2) ولم يرد الله بهما خيرا فلم يتكرم أحد منهما بطعامه ولا بشعيره على الحجاج فانهم وفد الله ووفد رسوله صلى الله عليه وسلم وقال تعالى ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني حرموا فحرموا.
وقصر الطير بادية وهو من أحسن الأوطان وأكرمها قل ألا يكون فيه الخصب وعشبه أخضر ولو في الصيف والخريف وفيه مكان يقال له المرجة من حفر فيه مقدار ذراع وجد الماء عذبا سائغا شرابه وزرعه كثير وكذا ضرعه وبالجملة فخير هذا المكان منتشر مشهور وأهل الخير فيه كذلك غير أنهم من العامة وأما الخاصة فلا غرابة في حصول الخير منهم حاصله هذا الوطن ينبغي أن يكون مدينة إذ جمع فأوعى نعم قل إن يشكر أهل نعم الله والاستقامة أيضا فتجدهم لا يدوم لهم الحال ، ولا يستقر لهم النوال ، بل يسرع إليهم التبديل والزوال ، والسلب لأموالهم والانتقال ، وقد قال صلى الله عليه وسلم لم يكن شيء أسرع بصاحبه كالظلم فان خرجوا من وطنهم تشبثوا وتعلقوا ، وإن رجعوا مكروا وتزندقوا ، فسلطوا بأعمالهم ، وأصيبوا بأحوالهم ، اللهم أرحم جميعهم وأهدهم إلى الصراط المستقيم ومن الأفاضل أولاد الكتف سيما عوض ولدنا العلامة سيدي محمد الكتفي ومثله سيدي يحيى وسيدي محمد الزواوي وابن عمه سيدي محمد بن جد (3) وسيدي محمد الصحراوي وأولاد عبد الواحد فيهم أفاضل وأما الفقراء المخمرون بحب الله وحب رسوله لا يحصى عددهم من أولاد سي أحمد وأولاد الكتف (4) وأولاد الزعيم وأولاد المداس
__________________
(1) في ثلاث نسخ السخري.
(2) في نسخة السعيد وفي أخرى الصد.
(3) في نسخة جدي.
(4) في نسخة الكتفي.
وصاحب القبر المشهور في رأس الوادي نفعنا الله بجميعهم ثم ظعنا إلى أولاد موسى بن يحيى وكانوا محاربين لا يمر أحد على طريقهم وهم على ذلك إلى أن سلط الله عليهم الشر حتى عاشرتهم (1) مع حسن ظنهم فينا فأمرتهم بترك ذلك ليكثر عندهم الخير فامتثلوا فأفاض الله عليهم بكثرة الأموال ورأوا الشيء عيانا فنزل الحاج في وادي رأس إسلي عند العين في رأس الوادي وأنا وأصحابي مررت إلى أن وصلت إلى الولجة في أرض الحضنة لأولاد دراج أعني أولاد ناصر عند أولاد الشيخ الولي الصالح ، والبدر (2) الواضح ، سيدي رحاب محل العلم والحلم والفضل والأدب والشرف ، خلفا عن سلف ، فقد زاد الفضل والحمد لله في الأواخر واستقر بنا الحال في بيت الفاضل الفقيه سيدي عبد الله بن رحاب وكلهم فضلاء وأدركت منهم الأخيار سيدي محمد الحاج ما رأيت مثله أصلا وسيدي عبد القادر وسيدي رحاب وسيدي محمد بن إبراهيم وإخوانهم نفعنا الله بهم.
ووصلنا قرب العصر إليهم وأقمنا عندهم يومين فاشترينا بعض الجمال هناك وأولاد دراج طائفة من العرب وقد رأيت في بعض الطرر انهم من ربيعة وكذا مقدم وأولاد رحمة وأولاد مخلوف (3) فمهما طغت أحدى الطوائف إلا أغرمت الأخرى (4) وبلد هؤلاء الصحراء وحرثهم على الحي أعني أودية تتحدر (5) إليهم من الجبال إذ فيها أعين هذا غالب أمرهم ويغلب على العامة منهم الجهل والجفاء والتعدي وهم أكثر من أن يحصوا وهم فوق وقد تحصل الفتنة بينهم فيموت الثلاثون والأربعون في
__________________
(1) في نسخة عشائرهم.
(2) في نسخة القطب.
(3) في نسخة وكذا مقدم أولاد رجم وأولاد لخلوف وفي أخرى أولاد خلوف وفي أخرى بإسقاط أولاد مخلوف.
(4) في نسخة فمهما طاعت أحدى الوائف إلا خربت الأخرى.
(5) في ثلاث نسخ تتفجر.
يوم واحد وفيهم أهل الخير من العامة والخاصة لا ينقطعون وقد أدركت أفاضل وصلحاء منهم أولاد العريب وولد (1) الشيخ سيدي محمد بن إبراهيم والولي الصالح سيدي عبد الله بن صوشة وإخوانه وهو حي إلى الآن وأولاد سيدي الطيب بن صوشة وأهله وأولاده سيدي علي بن خلف الله وأولاد سيدي أبي الفضل النحوي والشرفاء من أنور والشيخ احليتم شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرى الشيخ عبد القادر مرارا وانه ولي من أولياء الله وأولاده وإخوانه وأولاد سيدي غانم.
فمنهم سيدي ابن (2) المقندوز وأولاده سيدي محمد وسيدي أحمد ما رأيت مثلهما أصلا سيما الكبير فقد فاق أهل زماننا وعلى نمطه ابنه سيدي محمد وإخوانهم وأولاد سيدي عبد القادر كلهم والحمد لله على خير وأولاد سيدي عمر كذلك وسيدي عمر أهل وطنه زادوا فيه هيبة وإجلالا لأولاد سيدي رحاب السابقين فقد سمعت ابن زيان انه قال رأى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الأشراف من فقال أولاد رحاب وما شابهم وكذا المرابطون من جبل بو طالب أهل خير وأولاد سيدي عمر وغيرهم نفعنا الله بهم.
وكذا سيدي مبارك بن عمار وسيدي محمد بن بو خالفة وغيرهم نفعنا الله بهم وأفاض علينا وعلى أولادنا من بركاتهم آمين وأولاد سيدي رحاب تزوجت بنتهم ثم ظعنا من عندهم والركب سابق إلى مدوكال (3) فتبعناه وسيدي عبد الله بن رحاب ذهب معنا إلى الحج وذهبت بعيالي بنته وبنت سيدي السعد نجل الشيخ سيدي
__________________
(1) في نسخة أولاد.
(2) في نسختين بإسقاط ابن.
(3) في نسخة دكال وفي أخرى مدوكال.
المسعود بن عبد الرحمن وزوج ابني محمد بنت سيدي عبد الله أيضا.
فنزلنا قرب بريكة (1) وهي أرض طيبة وفيها نهر جار مثل النيل (2) وهي لسيدي محمد الحاج يتقاتل (3) عليها أولاد دراج بينهم أزال الله ظلمهم وأهلك من أرادها منهم من غير رضى أولاد الشيخ وصبيحة تلك الليلة ظعنا إلى أن وصلنا قرية مدوكال التي أمير الركب منها وهو الفقيه المحب الفاضل الكامل سيدي محمد المسعود نجل الشيخ سيدي الموهوب أسعده الله وجعل البركة في أولاده وقرية مدوكال فيها نخل ولم يكن من بلادنا نخل إلا فيها ثم كذلك إلى الزاب وهي قرية كبيرة فيها جمعة وعين عظيمة عند رأس البلد وفيها تضع العرب أثقالها وهم قد طغوا عليها سيما أولاد دراج إلا أن بركة سيدي محمد الحاج والسيد الحاج بودابة وأشياخهما ظاهرة تنوب عليهم وطريقة أولاد سيدي محمد الحاج ربانية لا يشك فيها أحد فلا يشوبها شوائب الملك أصلا خصوصا أسلافهم حسبما أخبروا عنهم وكذا هؤلاء الأواخر ومدة بقاء الحاج فيها يشترون الرواحل ، متعنا الله برؤيته صلى الله عليه وسلم بجاه الأوائل ، فلما استقربهم الحال اجتمعت فيه أفاضل ، فيحق في ذلك ذكرهم في الفضل وبالجملة فهذه القرية طيبة وأهلها فيهم الصلاح كما رأيت بعض المرابطين كامام مسجد الشيخ وبعض أولاده وبعض الطلبة وأما أكثرهم فقد فسقوا فيها بالسرقة والتعدي والمشي بالنميمة بين أكابرهم حتى نزل بهم ما نزل وقد صار البغض العظيم بينهم والله يقول وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم القول وقطعوا صلة ما أمر الله به أن يوصل من صلة الرحم أن لا الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم أصلح الله حالهم وأزال العداوة بينهم ورزقهم
__________________
(1) في نسخة باركة وفي أخرى باريكة.
(2) في ثلاث نسخ مثل الشام.
(3) في جميع النسخ يتقاتلون.
المودة والرحمة بينهم بمنه وكرمه هذا وإني وعظتهم وأمرتهم بما يكون فيه خيرهم نعم هم أفضل من غيرهم فإنهم كالماء يجوّز اللقمة إذا غصت وأما الماء إذا غص فما المجوز له لكن ببركة أسلافهم يهديهم الله ويعينهم على طريقة أسلافهم ومحلهم محل خير وعلم وحلم وفضل اللهم أجعله كذلك إلى قيام الساعة ولا تبدله بالضد إذ أكثر المواضع كذلك أحيي الله قلوبنا وقلوبهم ورحم ضعيفا وضعيفهم آمين وأكرم الشيخ الركب ليلة واحدة وأما أنا وبعض أصحابي وسيدي أحمد الطيب فقد أكرمنا كثيرا والحمد لله.
ثم ظعنا منها إلى مدينة بسكرة ذاهبين فبتنا في الطريق ليلة واحدة وصبيحتها ظعنا ووصلنا عند الضحى غير انه عاق الناس الماء فلا يجدون سبيلا إلى الخروج إلا بتعسف فطال بنا ذلك إلى الظهر إلا القليل أخذوا الطريق من بدء الوادي فلما قطعنا الوادي نزلنا حافين بالنهر وهذه البلدة أعني بسكرة كثيرة المياه بين خلال البيوت فكل باب عنده ساقية من الماء تجري من ماء حلو كالعسل ونخلها عظيم وغلتها كثيرة أيضا أي زرعها وكذا الفواكه خصوصا الزيتون فانه كثير جدا وهذه المدينة كانت قاهرة عظيمة البنيان والجامع الأعظم يدل على ذلك فانه لا نظير له وصومعته ما أحسنها وما أوسعها غير أن القديمة أي المدينة قد خربت وصارت دكا وسبب ذلك فتنة بينهم فادخلوا الترك فأهلكوها حتى بقي القليل منها حاصله أن الناس قد خرجوا إلى البساتين فبنوا هناك من ذلك العهد إلى الآن ثم نزل عليهم الوباء فلم يبق فيها إلا حثالة من الناس وفيها برجان للترك عامران أحدهما في البلد والآخر خارجها وبالجملة فهذه أوصافها الحسنة التي لا تحصى وقد اجتمعت فيها مع الأفاضل كالفقيه الفاضل سيدي محمد بن الجودي وسيدي محمد الشريف والقاضي والمفتي وكذا بعض شهود العدالة والطالب الفاضل سيدي مصطفى وسيدي بركات وغيرهم من العامة والخاصة وقد أخذ كثير منهم العهد عنا ولقيت أيضا فيها
قبل الفاضل الصادق في الجد المقتفي للسنة النبوية (1) نفعنا الله به آمين.
وأما الموتى ففيها العجب العجاب نفعنا اله بهم وجعلنا في زمرتهم بمنه وكرمه وهو من العارفين وقد زرت قبر الشيخ سيدي عبد الرحمن الأخضري وله تآليف كثيرة مفيدة وهو من العارفين بالله تعالى ومن تآليفه السلّم في النطق أنعكف الناس عليه شرقا وغربا سيما في مصر فمنهم من حشى ومنهم من فرر وطرر وقد شرحه رحمه الله وألف الجوهر المكنون في البيان لخص فيه التلخيص وشرحه وقد أقبل الناس عليه أيضا في مغربنا ونظم قصائد عديدة في التصوف أعظمها القدسية وقد شرحها والحمد لله وله قصيدة في علم الفلك سماها السراج وشرحه والدرة البيضاء في علم الفرائض والحساب نظما فهي في غاية الحسن وهو من القرن العاشر كما أخبر بذلك وزرت قبر النبي سيدي عبد الرحمن انه نبي رسول وكذا حكى فيه الخلاف الخفاجي شارح الشفاء بان قال على القول برسالته فانه أرسل إلى جبل أوراس (2) وكانت معجزته نارا وقد سمعنا أن الشيخ سيدي عبد الرحمن هو الذي أظهره بالتربيع وكذا زرت سيدي محمد بن يحيى وإخوانه وولده ومحله محل العلم والفضل والكرم والجود إذ هم ظاهرون عند الخاصة والعامة مشتغلون بتدريس الفقه نفعوا وانتفعوا نفعنا الله بهم.
وفيهم أيضا سيدي البار فانه فقيه فاضل وهم أشراف وهو ليس منهم والحمد لله وقد لقيت الزاهد على الإطلاق ، المتجرد للعبادة باتفاق ، كأنه من الموتى سيدي المبروك نفعنا به وبأمثاله.
__________________
(1) بياض في جميع النسخ.
(2) في ثلاث نسخ الرس.
والزاب والحمد لله عامر بالخير والفضل وذلك في العامة والخاصة وإن كثر الفساد والعصيان والظلم وعم وانتشر غير أن بعض الأوطان ينعدم فيه الخير رأسا وبعضهم فيه الشر الكثير مع وجود الخير من بعض الأفراد وقد دخلت.
طولقة وهم أهل الجود والفضل أطال الله سعدهم خصوصا أولاد بوزيان فقد عم فضلهم الخلق فان لم يصبهم وابلهم فطل أحسن الله إليهم بمنه وكرمه ولكن هذا الوطن أعني الزاب منوط ببلدة بسكرة وهي الكافية بالجميع قلت قال شيخ شيوخنا سيدي أحمد ابن ناصر ما نصه بعد ذكره كلاما يخصه وزرنا مسجدا وطلعنا إلى مآذنته وهي في غاية الإتقان والطول والسعة تقدر الدابة على الصعود إليها بحملها وإدراجها مائة وأربع وعشرون درجة والمسجد في غاية السعة وإتقان البناء إلا أنه قل عامروه وضعف ساكنوه فلا ترى فيهم مدرسا ولا فقيها ولا قارئا مع أن هذه المدينة من أعجب المدن وأجمعها لمنافع كثيرة مع توفر أسباب العمر ان فيها قد جمعت من التل والصحراء ذات نخيل كثيرة وزرع كثيف وزيتون ناعم وكتان جيد وماء جار في نواحيها وارحاء متعددة تطحن بالماء ومزارع حناء إلى غير ذلك من الفواكه والخضر والبقول وكثرة اللحم والسمن فى أسواقها. وبالجملة كما قال الإمام العياشي في رحلته ما رأيت في البلاد التي سلكتها شرقا وغربا أحسن منها ولا أحصل ولا أجمع لأسباب المعاش إلا أنها ابتليت بتخالف الترك عليها وعساكر العرب فيستولي عليها هؤلاء تارة وهؤلاء تارة إلى أن بنى الترك حصنا حصينا على رأس العين التي يأتي الماء منها إلى بسكرة فملكوا البلد (1) وأضروا بأهلها واجحفوا بهم في الخراج ولم يقدروا على الخروج عليهم لتمكنهم (2) من الماء الذي به حياة البلد وأهله اجتمعت عليها غارات العرب من خارج وظلم الأتراك من داخل وقد أشرفت على الخراب
__________________
(1) في نسخة الرحلة الناصرية فتمكنوا بالبلد.
(2) في الرحلة الناصرين لتمكينهم.
وقاربت أن تكون فقراء يبابا لو لا ما تماثل من أسباب عمرانها الموجبة لرغبة الناس في سكناها قال ولقد لقيت بها سنة تسع وخمسين رجلا من الصالحين ممن جمع بين العلم والعمل به الزهد والورع وصدق التوجه إلى الله تعالى واسمه سيدي أبو طيب الناصري لم ترعيني قبله ولا بعده أمثل منه في هديه وسمته تخشع القلوب لوعظه وتلين لكلامه ولو كانت أقسى من الحجر قال ولما رجعت من الحجاز في سنة الستين وجدته قد توفي بالوباء الواقع في تلك السنة وكان وباء مفرطا مات به بسكرة على ما قيل لنا نحو سبعين ألف نفس وقد دخلنا المدينة عقبه فوجدنا أكثر حوماتها خالية ومساجدها داثرة ولقيت بهذه المدينة سيدي محمد الصالح وهو رجل من أهل الخير منفرد في مسجد له بازاء داره يلازم فيه الصلوات الخمس ويجتمع إليه أناس من أصحابه يذكرهم ويعلمهم قال وخرج إلينا أيضا من فقهاء البلد سيدي عبد الواحد الرماني وهو أيضا رجل من أهل الخير غلبت عليه الديانة والانقطاع عن الخلق وقرأ علي أول صحيح البخاري برواية أبي ذر وذهب معنا إلى زيارة سيدي أبي الفضل وصلينا العصر في مسجد سيدي أبي الفضل وفي الغد يوم الخميس ارتحلنا ودخلنا البلد ثانيا لزيارة سيدي محمد بن (1) علي فوجدناه على سطح دار يشرف على الطريق ولم ينزل إلينا وقرأ لنا الفاتحة من هناك ونحن بالطريق ودعا لنا وهو رجل من أهل الأحوال الصالحة مغلوب عليه في أكثر أوقاته تؤثر عنه كرامات قال ولقد لقيته بداره سنة خمس وستين وهو في مرمة له في داره يعمل بها بيده يسنج الثياب وأخبرنا أن فوقه من كسب يده وأخبرنا بحاله ومبدأ أمره مع شيخه وقد انتشر صيته في هذا الوقت بتلك البلاد وله أتباع وأصحاب يجتمعون إليه في أوقات السماع والذكر وسمعنا من بعض الحجاج ممن زاره بعد ذلك أنه قال لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أن النار لا تمس كل من رآك وزعموا أنه قال له ومن رأى من رآك
__________________
(1) وفيها أيضا أبي.
مراتب متعددة والله اعلم بحقيقة لك فان صح انه قال له فهو في الغالب لا يكذب إلا أن كلامهم يحتاج إلى تأويل ويبعد حمله على ظاهره وأن المراد مجرد الرؤية البصرية فان القواعد تأبى بقاءه على عمومه فانه يراه البر والفاجر والمصر على الكبائر والمفارق لها بل والجاهل الذي يتطرق إلى إيمانه الخلل لغلبة الجهل والآراء الفاسدة ولكثرتهم جدا يبعد موت جميعهم على التوبة النصوح الموجبة لغفران الذنوب كلها الموجبة للنجاة من النار إلا أن كلام أولياء الله لا ينبغي أن يرمى به جزافا فليحرص المرء جهده على لقائهم ورؤيتهم والتبرك بهم فعسى أن يصادف نفحة من نفحات الحق فيسعد بها دنيا وأخرى فإن لله عبادا إذا نظروا إلى أحد أغنوه ومع ذلك فلا يركن إلى ظواهر ما يجري على ألسنتهم كل الركون حتى يعتقد أن من رأى أحدهم ممن قال مثل ما تقدم قد أمن من النار فإن لكلامهم وجوها واحتمالات تدق على إفهام أكثر الخلق ممن لم يسكت طريقهم قال وأقرب ما يحمل عليه كلام المتقدم أن تحمل الرؤية على القلبية والمرأى على صورته الباطنة التي توجب العلم بما هو عليه من سنيّ الأحوال وسميّ الأوصاف ورفيع المقامات ولا شك أن من منح شهود ذلك وأشرف عليه فله نصيب وافر من التخلق بأخلاق الأولياء والورود من موارد الأصفياء وحينئذ يكون جديرا بأن لا تمسه النار وهذا من معنى ما اشتهر عن قطب الزمان مولاي عبد القادر الجيلاني أنه قال أخذت العهد من ربي أن لا يدخل أحد من أتباعي النار إلى يوم القيامة فيحمل على من اتبع طريقه لا على مجرد الانتساب باللسان قال ولو صح حمل الكلام المتقدم على ظاهره وعمومه لكان أولى بذلك الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وكثير من رآهم رؤية بصرية لم يوفق للاهتداء بهديهم فحرم بركة رؤيتهم وكل مقام ناله ولي من أولياء الله فهو ميراث اتباعه لنبيه صلى الله عليه وسلم وما كان ميراثا لا يصح أن يكون شيئا لم يكن لموروثه بل يستحيل عند أرباب القلوب أن ينال ولي ولو ذرة من مقام أو حال لم تكن بكمالها
لمتبوعه ومعلوم أن هذه الحال لم تكن لأحد قط فلا بد من التأويل قال وما أطنبت في هذا إلا أني رأيت كثيرا من الجهلة يغتر بأمثال هذا ويحمله على ظاهره وإلا فإنا والحمد لله ممن يعتقد تنزيه ساحة الأئمة الصوفية عن الكذب والافتراء ويثق بأقوالهم ويصدق كراماتهم ويحمل ما أشكل على أحسن محامله ولا أطعن فيه بوجه وأسلم لهم فيما لم يتبين لي وجهه والمنة في ذلك لله وحده اه ـ كلامه ونقلته على طوله لحسنه في بابه وزرنا في تلك الحجة أولاد سيدي محمد الصالح وأخرج لنا ولده سيدي علي ترما ولبنا وأكل أصحابنا ما أرادوا منه وشربوا وزرنا أيضا سيدي قاسم وذكر لنا الأخ سيدي محمد بن عبد الواحد الرماني أن هذا السيد كان رجلا صالحا وكان أمير الركب في زمانه وسيدي عبد الواحد والد سيدي محمد المحدث عن صلاح هذا السيد كان من أصحاب والدنا رحم الله جميعهم وكان في حجتنا الأولى التي حججناها مع الوالد رحم الله جميعهم عام (1076) ستة وسبعين وألف في قيد الحياة وولده هذا هو الذي تقدم بنا لزيارة صالحي هذه البلدة وزرنا أيضا سيدي عبد الرحمن وسيدي أبا الفضل وسيدي محمد الموفق وسيدي الصحابي وسيدي محمد ابن أبي علي وسيدي عليا الأوراسي وأخبرنا سيدي محمد بن عبد الواحد أن أبا الفضل هذا هو تلميذ أبي الفضل النحوي وان أبا الفضل المذكور مدفون في بلد بينه وبين بسكرة يومان وراء الجبل رسالته عن البسكري الذي خشى على المرادي فذكر لنا أنه مدفون في الزاب.
وأما سيدي محمد بن أبي علي فذكر لي عمي سيدي حسين رحمه الله أنه قال كان حيا عام حج وانه لما وصل بسكرة ألح عليهم الأخ الحاج محمد بن عبد الملك السجلماسي أحد تلامذة الوالد رحمه الله والمقدم على الفقراء في بلده في زيارة السيد المذكور وتقديم الصدقة له بين أيديهم وطلب ضمانة الطريق وعادته لهم كما كان وقع ذلك مع بعض الحجاج فصار محفوظا في طريقه إلى أن وصل بلده ومنزله وكره العم
مخالفته ومشى مساعدا له مع عدم قصد ذلك وتقديم صدقة فزاروه وأطعمهم تمرا وماء وأقاموا عنده ساعة فلما جن الليل رأى أستاذه سيدي أحمد بن إبراهيم في عالم النوم فقال له زلقت وزللت يا صبي (1) قلت أنا البركة التي يشرب فيها الإنسان يواظبها ويقيم عليها ولا يكدرها ويطلب غيرها [فقال] اتحسب وتظن أنك لم تبلغ في تعبي ومشقتي والله لقد كنت تنام معوجا فأتيك حتى أقومك أتريد ملاقاة الشيخ الأعظم سيدي عبد الله فقلت نعم يا سيدي فذهب بي حتى لقيته فسلمنا عليه وقال لي سيدي أحمد أن حان وفاة أحدكم يعني في الطريق فإن لم أحضره فسيدي عبد الله بن الحسين يحضره لا محالة قال سيدي عمي المذكور ومات جماعة من فقراء الأستاذ في الطريق رحم الله الجميع اه ـ.
ولما دخلت مسجدها لم أجد فارقا ولا مدرسا سوى رجل واحد متى يقرأ لوحه وهو ملقى أمامه يقرأه على غير أدب ولا استقامة وأخبرني بعض أصحابنا انه وجد رجلا واحدا يسرد البخاري وحده ووقف عنده وقال له رح يا حاج ووجد آخر كذلك ولعمري أن هذا أدل دليل على الخراب وأقرب الأسباب له بدليل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أراد الله عمارة قوم بدأ بما له فيهم وإذا أراد خرابهم بدأ بما له فيهم أو كما قال صلى الله عليه وسلم ولقد بدأ الله هذه البلدة بخراب بيته ، فهو أقوى الدلائل على خراب البلد وموته ، ولقد مرضت من ذلك الأحشاء ، والله تعالى يفعل في ملكه ما يشاء ، ويعذب من يشاء ، ويرحم من يشاء ، ولقد وددنا عمارتها بالعلم والعمل ، ورفع الحرج عنها برفع ذوي الزيع والزلل ، وتدريس العلم وذكر الله آناء الليل وأطراف النهار في ذلك المسجد المشيد ، فإن لأهل هذه المدينة تاهلا لهذا كله ولاكن الله يفعل ما يريد.
__________________
(1) في جميع النسخ يا صاحبي إلا في الرحلة الناصرية.
وفي مثل ما وقع لنا من التحزن والتحسر ، والتألم والتضجر ، من قلة العلم وأهله ، في مواطن حسنة من محله ، يصدق قول العلامة الإمام الهمام أبي علي اليوسي من أجل أصحاب الوالد ، وممن ظهرت بركاته عليه في المصادر والموارد.
وأود
لو كانت مجالس بينهم |
|
يضحين
في سبل الهداية معلما |
وشجا
الحشا أن لم أجد من عالم |
|
يهدي
الوراء بها ولا متعلما |
وفي الاستبصار في أخبار الأمصار والزاب (1) كورة فيها مدن كثيرة وقاعدتها بسكرة وهي مدينة كبيرة كثيرة النخل والزيتون وأصناف الثمار وهي مدينة مسورة عليها خندق وبها جامع ومساجد وحمامات كثيرة وحواليها بساتين كثيرة وفيها غابة كبيرة مقدار ستة أميال فيها أجناس التمر منها جنس يعرف بالكسبة (2) وهو الصيحاني (3) يضرب به المثل لفضله على غيره وجنس يعرف بالبازي (4) أبيض أملس كان عبيد الله الشيعي يأمر عماله بالمنع من بيعه والتحريض عليه وبعث ما هنالك منه إليه وأجناس كثيرة يطول ذكرها لا يعدل بها وحول بسكرة رياض خارجة عن الخندق المذكور وبسكرة فيها علم كثير وأهلها على مذهب أهل المدينة ولها من الأبواب باب المقبرة وباب الحمام وباب ثالث يسكنه المولدون وداخل مدينة بسكرة آبار كثيرة عذبة منها في الجامع بئر لا ينزف وداخل المدينة جنات يدخل إليها الماء من النهر وبها جبل ملح يقطع منه صخور جليلة ومنها كان عبيد الله الشيعي وبنوه يستعملون في أطعمتهم وتعرف ببسكرة النخيل وشرب بسكرة من نهر كبير يجري في جوفها ينحدر من جبل أوراس وروي أن في الطريق إلى بسكرة جبلا يعرف بزينير
__________________
(1) في جميع النسخ بسكرة إلا في الرحلة الناصرية.
(2) في جميع النسخ بالكسبا ولعله هو المسمى الآن الإكسبّة.
(3) في نسخة الاستبصار المطبوعة الصيماني.
(4) وفيها أيضا اللياري بدل البازي.
وقيل زنفير في وسطه كهف فيه رجل قتيل يقدر انه مات منذ يومين لم يغيره مرّ الدهر ولا تقادم الأزمان تبص جراحه دما لا يشك أحد انه قتيل يومين وتخبر الكافة عن الكافة أنهم لا يعلمون متى قتل قدما وقد نقله أهل تلك النواحي ودفنوه بأفنيتهم ليتبركوا به ثم لم يلبثوا أن وجدوه في الكهف على حالته وحدث بذلك ثقات أهل تلك الناحية والله فعال لما يشاء وقال محمد بن يوسف في كتابه أن هذا القتيل في شق جبل بشرقي عين اوبان (1) وهذه العين بين مدينة قرطاجنة ومدينة سبتة (2) وذكر انه يظهر كما ذبح من يومه وأنه هناك من قبل فتوح افريقية ولم يذكر (3) من دفنه والله اعلم بأمره اه ـ كلامه.
__________________
(1) في جميع النسخ في شق جبل بشر وعن اوبان إلا في الرحلة الناصرية.
(2) في الرحلة الناصرية سبيبة.
(3) وفيها أيضا يذكروا.
ذكر خروجنا من بسكرة
ثم لما فرغ الناس من قضاء أوطارهم من بيع وشراء وأزدياد زاد ظعنا ضحى الثلاثاء خامس وعشرين من رجب وعشرين من شتنبر ونزلنا سيدي عقبة عصرا وهو عقبة بن نافع الفهري التابعي القرشي ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك عده بعضهم من الصحابة ولاه معاوية بن أبي سفيان علي أفريقية ووجهه إليها في عشرة آلاف من المسلمين فافتتحها وقاتل من بها من النصارى حتى أفنى أكثرهم ثم قال أني أرى أفريقية إذ دخلها أمام أمر أهلها بالإسلام وإذا خرج رجع كل من أجاب دين الله فهل لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا مدينة [القيروان] تكون لنا عزا للأبد فأجابه الناس لذلك واتفقوا على أن يكون أهلها مرابطين وقالوا نقربها من البحر ليتم الجهاد ثم رأوا أن ذلك لا يؤمن معه من كيد الروم لها فأبعدوها عن البحر مخافة من ملك القسطنطينية وقالوا قربوها من السبخة فإن أكثر دوابكم الإبل فتكون في مراعيها على بابها آمنة من البربر والنصارى ولما اتفق رأيهم على ذلك وكان موضع المدينة غيضة نادى عقبة جميع الوحوش والهوام التي كانت بالغيضة وقال لهم أنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونريد أن نبني هنا مدينة وأردنا أحراق هذه الغيضة فاخرجوا منها بإذن الله فخرج كل من كان فيها واختلف أصحابه في موضع القبلة وجعلوا ينظرون مطالع النجوم ليهتدوا إلى سمتها فبات عقبة مهتما فرأى في المنام قائلا يقول له خذ اللواء بيدك إذا أصبحت فإنك تسمع تكبيرا ولا يسمعه احد غيرك فاتبعه فحيثما انقطع التكبير فاركز اللواء فانه موضع القبلة ففعل ذلك وسأل أصحابه هل تسمعون شيئا فقالوا لا فأتبعه حتى انقطع التكبير فركز اللواء بموضع القبلة ولما كانت سنة إحدى وخمسين عزل معاوية عقبة بن نافع عن أفريقية وولى مسلمة بن مخلد مصر وأفريقية فنزل مسلمة مصر واستعمل على أفريقية مولى له يسمى دينارا ويكنى أبا المهاجر انتهى إلى أفريقية كره أن ينزل
بلدا اختطه عقبة فمضى خلفه بميلين مما يلي تونس فاختط هناك مدينة وبناها فسماها البربر بتكيرو ان وأخذ الناس بعمارتها وإخلاء القيروان فدعا عقبة أن يمكنه الله عز وجل منه وكان مجاب الدعوة ولم يزل أبو المهاجر خائفا من دعوة عقبة وفي مدة أبي المهاجر افتتحت جزيرة شريك وهي بمقربة من مدينة تونس حرسها الله وإليها ينسب باب الجزيرة من أبواب تونس وهي مشتملة على قصور كثيرة ومزارع فسيحة وخيرات جمة افتتحها حنش بن عبد الله الصنعاني بعثه أبو المهاجر فافتتحها وقتل أهلها ونهض عقبة إلى المشرق فلما دخل على معاوية رضي الله عنه وعاتبه فقال افتتحت البلاد وأتاني غلام الأنصار فأساء عشرتي فاعتذر له معاوية رضي الله عنه ووعده بالرجوع إلى عمله وتراخى الأمر إلى أن توفي معاوية رضي الله عنه سنة ستين وقيل إحدى وستين وولي ابنه يزيد فولى عقبة بن نافع أفريقية وقطعها عن مسلمة بن مخلد وأقره على مصر فخرج عقبة إلى أفريقية في سنة اثنتين وستين فمر سريعا حنقا على أبي المهاجر فأوثقه في الحديد وأمر بتخريب المدينة التي بناها والرجوع إلى القيروان وعمارتها وأجمع على الغزو في سبيل الله عز وجل وترك بالقيروان زهير بن قيس البلوي وودع أولاده وقال لهم أني بعت نفسي من الله عز وجل وأوصاهم بما أحب ومضى في عسكر عظيم حتى بلغ مدينة باغية وجمع النصارى بها فقاتلهم قتالا عظيما فانهزموا وأخذ لهم خيلا كثيرة فلم ير المسلمون في مغازيهم أصلب ولا أصبر منها وكانت من نتاج جبل أوراس المطل عليها ومدينة باغية مدينة جليلة أولية ذات أنهار وثمار ومزارع ومسارح وعلى مقربة منها جبل أوراس وهو المتصل بالسوس فلما هزمهم وقاتلهم قتالا ذريعا رحل عنهم ولم يقم عليهم كراهية أن يشتغل بهم على غيرهم فمضى إلى مدينة لميس باللام والميم والياء وكانت في ذلك الزمان من أعظم مدائن الروم فخرج إليه أهلها فقاتلهم قتالا شديدا فانهزموا واتبعهم إلى باب حصنهم وأصاب مغانم كثيرة وكره المقام عليها فرحل إلى بلاد الزاب فسأل عن
أعظم مدائنهم قدرا فقيل له مدينة يقال لها أذنة (1) وبها الملك بجمع (2) ملوك الزاب وكان حولها ثلاثمائة وستون قرية كلها عامرة قال اليعقوبي أذنة هذه أعظم مدن الزاب مما يلي المغرب وهي كثيرة الأنهار والعيون العذبة فالتقى أهلها فقاتلوه قتالا شديدا حتى يئس المسلمون من أنفسهم ثم أعطاه الله عز وجل الظفر فانهزم القوم وقتل أكثرهم وذهب عزهم من الزاب وذلوا إلى آخر الدهر ثم سار إلى تاهرت فلما بلغ الروم خبره استغاثوا بالبربر فاغاثوهم وبادروا إلى نصرتهم فالتقوا مع المسلمين فاقتتلوا قتالا شديدا فلم يكن للبربر والروم بقتال المسلمين طاقة فولوا منهزمين واتبعهم المسلمون فقاتلوهم قتالا ذريعا وانقضت جموع البربر وقتلوا حيث ما وجدوا وغنم المسلمون أموالهم وذراريهم ثم سار عقبة حتى بلغ طنجة وكان بها ملك من ملوك الروم وكان شريفا في قومه فأهدى إلى عقبة ولاطفه فنزل على حكمه فسأله عن الأندلس فقال له دونها هذا البحر الذي لا يرام فقال له دلني على رجال البربر والروم فقال تركت الروم خلفك وليس أمامك إلا البربر وهمه في عدد لا يحصى ولا يعلمه إلا الله وهم انجاد فقال فأين موقعهم قال له السوس الأدنى وليس لهم دين يأكلون الميتة ويشربون الدم وهم أمثال البهائم يكفرون بالله ولا يعرفونه فرحل عقبة حتى أتى جموعهم بمقربة من فأس فقاتلهم قتالا ذريعا وفرت بقيتهم ومرت خيل في آثارهم ومر حتى بلغ السوس الأقصى وهي بلاد درعة ونزل إلى الصحراء وهي لمتونة وسبى منها سبيا لم يدخل المشرق أغلى منه ربما بيعت الجارية منه بألف وفر الناس أمامه لا يدانيه أحد ولا يعارضه حتى بلغ البحر الأعظم المحيط فأدخل فيه قوائم فرسه وجعل يقول وعليكم السلام فقال له أصحابه على من تسلم يا ولي الله فقال على قوم يونس ولو لا البحر لأريتكم إياهم ثم قال اللهم
__________________
(1) في الرحلة الناصرية اذناة.
(2) وفيها أيضا فجمع.
أنك تعلم أني إنما أطلب السبب الذي طلبه عبدك ووليك ذو القرنين فقيل له ما الذي طلبه ذو القرنين قال أن لا يعبد في الأرض إلا الله اللهم إني مدافع عن دينك معاند من كفر بك ثم قال لأصحابه انصرفوا على بركة الله فتخلى الروم والبربر عن طريق عقبة خوفا من جيوشه سنة ثلاث وستين من الهجرة.
ولما وصل طنجة أمر أصحابه فتقدموا ثقة بما دوّخ من البلاد وأنه ليس بأفريقية إلا من يخافه فتقدمت الجيوش وبقي نفر يسير من أصحابه فسار يريد تهودة وبادس لينظر إليهما ويترك بهما من الفرسان ما يحتاج إليه فلما انتهى إليها يعني تهودة فيمن بقي من أصحابه وكانوا قليلا نظر إليهم الروم فطمعوا فيهم وأغلقوا أبواب حصونهم وجعلوا يشتمون عقبة ويرمونه بالحجارة ويدعوهم إلى الله عز وجل فلما توسط البلاد بعث الروم كسيلة البرنسي وكان كسيلة ممن أسلم على يد أبي المهاجر وذلك أن أبا المهاجر نهض إلى المغرب فنزل عيونا عند تلمسان تعرف بعيون أبي المهاجر فزحف إليه كسيلة في جمع من البرنس فظفر به أبو المهاجر وعرض عليه الإسلام وكان أبو المهاجر يحسن إليه فلما عزل أبو المهاجر وقد عقبة عرفه أبو المهاجر بحال كسيلة فاستخف به عقبة وأتى عقبة بغنم فأمر بذبحها للعسكر فأمر كسيلة أن يسلخ مع السلاخين فقال له كسيلة أصلح الله الأمير هؤلاء غلماني وفتياني يكفونني ذلك فقال له عقبة قم فقام مغضبا فكان كلما دحس يده في الشاة مسح بلحيته وجعل العرب يهزؤون به ويقولون له يا بربري ما هذا الذي تصنع فيقول انه جيد فيسكتون إلى أن مر به شيخ من العرب فقال لهم كلا أن البربري يتوعدكم فعاتب أبو المهاجر عقبة على ما صنع من ذلك وقال له كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألف جبابرة العرب كالأفرع بن حابس وعيينة بن حصن وتأتي أنت إلى رجل جبار في دار قومه ومكان عزه وهو قريب عهد بالشكر فتهينه وتذله فتهاون عقبة بكلامه فلما راسلت الروم كسيلة أمكنته الفرصة فانتهزها فقال أبو المهاجر لعقبة عاجله قبل أن
يجتمع إليه أمره فزحف إليه عقبة فتنحى أمامه فقال له قومه لم تتنحى عنه والرجل في خمسة آلاف ونحن في خمسين ألفا فقال لهم نعم لكنهم في الزيادة والرجل قد افترق عليه عسكره وليس عنده من يمده فلما صار عقبة يريد أفريقية زحف إليه البربري وكان أكثر المسلمين بالقيروان مع زهير بن قيس فوافى كسيلة عقبة بمقربة من تهودة فنزل وركع ركعتين وقال أطلقوا أبا المهاجر فأطلق فقال له ألحق بالمسلمين وقم بأمرهم وأنا أغتنم الشهادة فقال له أبو المهاجر وأنا أغتنمها معك وكسر كل واحد منهما جفن سيفه وكسر المسلمون أجفان سيوفهم وأمرهم أن ينزلوا ولا يركب منهم أحد وقاتل المسلمون قتالا شديدا حتى بلغ منهم الجهد وكثرت فيهم الجراح وتكاثر عليهم العدو وقتل عقبة وأبو المهاجر ومن معهما من المسلمين ولم يفلت منهم أحد وأسر محمد بن أوس الأنصاري ويزيد بن خلف القيسي ونفر معهما ففاداهم صاحب ففصه وبعث بهم إلى زهير بن قيس ومن معه من المسلمين بالقيروان وأراد زهير الانصراف من أفريقية إلى مصر فقيل له أهزيمة من أفريقية إلى مصر فعزم على القتال وكان تبيع ربيب (1) كعب الأحبار فقال له لمن تراها فقال لرجل من بليّ وأنت رجل من غسان فقال زهير الله أكبر أنا والله رجل من بليّ جني جدي جناية في قومه فلجأ إلى غسان فاجتمع إلى كسيلة جمع أهل المغرب فزحف يريد القيروان فاضطرمت أفريقية نارا وعظم البلاء فقام زهير في الناس خطيبا قال يا معشر المسلمين أصحابكم قد دخلوا الجنة إن شاء الله وقد منّ عليهم بالشهادة وهذه أبواب الجنة مفتوحة فأسلكوا مسلك أصحابكم أو يفتح الله عليكم دون ذلك فقام حنش الصنعاني فقال لا والله لا نرى قولك ولا لك علينا من طاعة ولا ولاية ولا نرى أفضل من النجاة بهذه العصبة من المؤمنين فمن أراد منكم القفول فليتبعني ثم رحل فنزل بقصر الماء واتبعه الناس ولم يبق مع زهير إلا أهل بيته في عدد قليل فلما رأى
__________________
(1) كذا في الرحلة الناصرية وفي جميع النسخ إلا نسخة فيها يتبع رأي.
ذلك زهير تبعهم وأقبل كسيلة بجنوده فلما قرب من القيروان خرج العرب منها هاربين لم يكن لهم بقتاله طاقة لعظم ما كان معه من البربر والروم فأسلموا لهم القيروان لم يبق فيها إلا الذراري والأثقال والضعفاء فأرسلوا إلى كسيلة يطلبون منه الأمان فأمنهم وأقبل كسيلة حتى دخل القيروان في محرم سنة أربع وستين وأقام زهير مرابطا ببرقة إلى أن توفي يزيد بن معاوية في النصف من صفر من عام أربعة وستين وبويع لأبنه معاوية الأصغر بعده ثم توفي معاوية بعد شهر (1) وعشرة أيام من بيعته واجتمع الناس بالشام على مروان بن الحكم وتوفي في رمضان سنة خمس وستين وولي بعده ابنه عبد الملك بن مروان فلما اشتد سلطانه اجتمع أكابر المسلمين وسألوه أن ينظر في خبر أفريقية وتخليصها ومن بها من المسلمين من يد كسيلة فقال لهم لا يصلح لدم عقبة إلا مثله في الدين فاتفق رأيهم على زهير بن قيس البلوي وقالوا هذا صاحب عقبة وأعرف الناس بسيرتهم وأولادهم بمطالبة دمه فوجه إليه عبد الملك يأمره بالخروج إلى أفريقية ليستنقذ من بالقيروان من المسلمين فكتب إليه زهير يعرفه بأمر كسيلة ومن معهم من جموع البربر فحشد له وجوه العرب وأهل الشام وبعث إليه بالأموال فلما ترادفت عليه الجنود أقبل في عسكر عظيم إلى أفريقية وذلك في سنة تسع وستين فلما بلغ كسيلة قدوم زهير دعا أشراف قومه فقال إني رأيت أن أرحل عن هذه المدينة حوطة على أهلها من المسلمين فإن لهم عهدا وخشيت أن يكون النصر مع المسلمين (2) ولا كنا ننزل ممس (3) على ماء كثير يحلم عساكرنا فان هزمناهم اتبعناهم إلى طرابلس وقطعنا أثرهم وتكون لنا أفريقية إلى آخر الدهر وإن هزمونا كان الجبل منا قريبا نتحصن به فارتحل عنها نزل ممس وبلغ
__________________
(1) كذا في جميع النسخ وفي الرحلة الناصرية شهرين وفي تاريخ الكامل لابن الأثير أن معاوية بن يزيد لم يمكث إلا ثلاثة أشهر حتى هلك وقيل بل ملك أربعين يوما ومات.
(2) كذا في جميع النسخ وفي الرحلة الناصرية وخشيت أن يصيروا علينا إلفا مع المسلمين.
(3) في نسخة بإسقاط هذه الكلمة وفي الرحلة الناصرية ممّس وفي غيرها ممسّ.
ذلك زهيرا فلم يدخل القيروان ونزلوا (1) على باب سلع وأقام ثلاثة أيام حتى استراح الجيش وزحف في اليوم الرابع حتى أشرف على كسيلة آخر النهار فلما نزل الناس باتوا على مصافهم فلما أصبح صلى ثم زحف إليهم فالتحمت الحرب فانهزم كسيلة وقتل بممس ولم يجاوزها ومضى الناس في طلب البربر فقتلوهم قتلا ذريعا ورجع زهير إلى القيروان مخافة من بأفريقية واشتد جزعهم ولجؤا إلى الحصون والاقلاع ثم أن زهيرا رأى بأفريقية ملكا عظيما فكره الإقامة بها فقال إنما خرجت للجهاد وأخاف أن تملكني الدنيا فأهلكت ولست أرضى بها ولا بملكها ورغد عيشها وكان رحمه الله من رؤساء العابدين وكبار الزاهدين فرجع قافلا إلى المشرق فلما انتهى إلى برقة وكان الروم حين سمعوا برحيله منها إلى أفريقية خرجوا إليها بمراكب فغاروا وأخذوا نساء وقتلوا ونهبوا ووافق ذلك قدوم زهير من أفريقية فأخبر بذلك فأمر العسكر بالسير على الطريق وسار هو على الساحل طمعا أن يدرك سبي المسلمين فأشرف على الروم وهم في خلق عظيم فلم يقدر على الرجوع واستغاث به الأسارى والروم يدخلونهم المراكب فأمر أصحابه بالنزول فنزلوا وقصدوا الروم والتحم القتال حتى عانق بعضهم بعضا وكثرت النصارى فقتل زهير ومن معه وادخل الروم جميع السبي مراكبهم وارتحلوا إلى القسطنطينية ولما انتهى الخبر إلى عبد الملك عظم ذلك عليه وبلغ منه لفضل زهير ودينه وكانت مصيبته كمصيبة عقبة رحمهما الله تعالى وغضب أشراف المسلمين وسألوا عبد الملك أن ينظر في سد ثغر أفريقية فقال لا أعلم أعظم من حسان بن النعمان الغساني وكان حسان بمصر في عسكر عدده أربعون ألفا عدة لما يحدث فكتب إليه عبد الملك يأمره بالتوجه إلى أفريقية وأطلق يده في أموال مصر يعطي منها من ورد عليه من الناس ما شاء فقدم حسان بن عسكر عظيم لم يدخل أفريقية قط مثله وذلك في سنة تسع
__________________
(1) كذا في الرحلة الناصرية وجميع النسخ.
وسبعين وسار حتى بلغ القيروان فسأل أهل أفريقية عن أعظم ملك فقالوا له صاحب قرطاجنة وكانت مدينة عظيمة تضرب أمواج البحر سورها وهي من توسن على اثني عشر ميلا وبين تونس والقيروان مائة ميل فغزا حسان بن النعمان قرطاجنة وبها خلق عظيم فإنها كانت دار الملك بأفريقية فبعث الخيل إليها وكان البحر لم يخرق إلى تونس وإنما خرق بعد ذلك وعملت دار الصناعة فالتقى الفريقان والتحم الحرب بينهم وضيق عليهم حسان فقتل مقاتلتهم ورجالهم فاجتمع رأيهم على الهروب وكانت لهم مراكب قد أعدوها فارتحلوا فيها بأهلهم وأموالهم فمنهم من ذهب إلى جزيرة صقيلة ومنهم من ذهب إلى الأندلس فلما انصرف حسان علم أهل بواديها بهروب أهل الملك فتحصنوا بها فوجه إليهم حسان فاحاصرهم حصارا شديدا حتى دخل بالسيف وقاتلهم قتلا ذريعا وأرسل من حولها فأمرهم بهدمها وكسر القناة التي كان يأتيهم الماء عليها ثم إن حسانا بلغه أن النصارى تجمعوا لقتاله وأمدهم البربر فزحف إليهم فقاتلهم قتالا شديدا فانهزموا وهرب البربر إلى إقليم برقة وقدم حسنا مدينة القيروان فلما استراح الناس قال لهم دلوني على أعظم ملك بقي بأفريقية إذا قتل خاف البربر والنصارى وهابت المسلمين فلا تقدم عليهم فقالوا ليس بأفريقية أعظم من امرأة بجبل أوراس يقال لها الكاهنة والبربر والنصارى لها مطيعون ومنها خائفون فلما اخبروه بذلك توجه لقتال الكاهنة فبلغ الكاهنة أمره فارتحلت من جبل أوراس في عدد عظيم إلى مدينة باغية فأخرجت منها الروم وأخبرت حصنها وظنت أن حسانا إنما يريد معقلا يتحصن فيه وأقبل حسان في جيوشه حتى دنا بعضهم من بعض وذلك في آخر النهار فكره حسان لقاءها في ذلك الوقت فبات الناس على سروجهم حتى أصبح الله بخير الصباح فزحف بعضهم إلى بعض واقتتلوا اشد قتال وقتل من العرب خلق كثير وأسرت الكاهنة من أصحاب حسان ثلاثين رجلا منهم خالد بن يزيد العبسي وكان رجلا شريفا واتبعت الكاهنة
حسانا حتى خرج من عمل قابس وأسلم أفريقية وكتب إلى عبد الملك يخبره بما لقي المسلمون فوافاه كتابه يأمره بالمقام حيث يدركه الجواب فأدركه وهو بعمل برقة فأقام هنالك خمسة أعوام بموضع يعرف بقصور (1) حسان [وله نسبت قصور حسان](2) ثم أعمل عبد الملك رأيه فيمن يبعث لأفريقية واستشار في ذلك فلم يجد مثل حسان فبعث إليه جيشا عظيما ومالا وسلاحا وكانت الكاهنة أطلقت أصحابه الذين أسرتهم وأحسنت إليهم إلا خالد بن يزيد فإنها أمسكته وكان لها ولدنا فقالت له أني أريد أن أرضعك مع ولديّ هاذين فقال لها كيف يكون ذلك وقد ذهب منك الرضاع فقالت أنّا جماعة من البربر لنا رضاع تتوارث به إذا صنعناه ثم عمدت إلى دقيق الشعير فلثته بزيت ثم جعلته على ثديها ثم أمرت ولديها أن يأكلا منه مع خالد فأكلوه وقالت لم أنتم أخوة من الرضاع ثم إن حسانا وفدت إليه العرب ورجالها فدعا رجلا منهم يبعث كتابا إلى خالد وكان واثقا بأن خالدا لا يرجع عن الإسلام فلما أتى رسول حسان خالدا فوقف إليه في زي سائل فعلم خالد أنه رسول فاعتذر له وقال له تعود في غير هذا الوقت فلما انقضى المجلس أتاه وأخذ الكتاب فقرأه وكتب له في ظهره أن البربر متفرقون لا نظام ولا رأي لهم وإنما ابتلينا بأمر أراد الله أن يكرم به من مضى فاطو المراحل وجد في السير فإن الأمر لله ولن يسلمك الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وجعل الكتاب في خبز ومضى الرسول فلم تلبث الكاهنة بعد ذهابه إلى أن خرجت ناشرة شعرها تضرب صدرها وتقول ويلكم ذهب ملككم فيما يؤكل فافترقوا يمينا وشمالا يطلبون ذلك فستره الله عز وجل فلما وصل إلى حسان أخرج الكتاب من الخبزة قد أحترق فقال له حسان أرجع فقال له أني أخاف على
__________________
(1) في جميع النسخ قصر حسان إلا في الرحلة الناصرية طبقا لما ذكره الشريف الإدريسي في نزهة المشتاق.
(2) ما بين القوسين ساقط في جميع النسخ إلا في الرحلة الناصرية.
نفسي فالمرأة كاهنة فكتب له كتابا وجعله في نقرة نقرت في قربوس سرجه وغطاه بالشمع فمضى الرسول حتى أتى خالدا فدفع إليه الكتاب وعرفه أن الأول أحرقته النار فرد جوابه وأعاده في قربوس سرجه ومضى فخرجت ناشرة شعرها تضرب صدرها وتقول ذهب ملككم في نبات الأرض وأراه بين لوحين وكانت الكاهنة قد ملكت أفريقية خمس سنين منذ أنصرف حسان عنها ولما رأت إبطاء العرب قالت للبربر أن العرب إنما يطلبون من أفريقية المدائن (1) والذهب والفضة والشجر ونحن إنما نطلب منها المزارع والمراعي ولا نرى لكم إلا خراب أفريقية حتى ييئسوا منها ويقل طمعهم منها فوجهت قومها إلى كل ناحية يقطعون الزيتون والشجر ويهدمون الحصون فحكى بعض المؤرخين عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم رحمه الله أنه قال وكانت أفريقية من طرابلس إلى طنجة ظلا واحدا قرى متصلة وعامرة وأخربت جميع ذلك قال الشيخ محمد بن علي شارح الشقراطسية سمعت من يقول انه كان بأفريقية في القديم مائة ألف حصن من بين قصر ومدينة وأما ملكها إذا أراد الغزو بعث إلى كل حصن فيأتيه منه فارس ودينار فيجتمع له مائة ألف فارس ومائة ألف دينار ولا ينقص من بلده شيء والله أعلم بصحة ذلك ومن تأمل أثر المدن والقصور الخربة بأفريقية وتداني بعضها من بعض رأى من ذلك ما يقضي منه العجب ويستدل على كثرة عمرانها في السالف وكذلك الشعاري التي بها إذا تأمل أشجارها في مواضع على اعتدال وترتيب تنبئ أنها مغروسة لإنبات ويقال أن ما فيها الآن من بطم إنما كان فستقا وإنما استحال إلى الصغر وإلى طعم آخر لطول ما أتى عليه من السنين ولا شك أن من أكل البطم أخضر وجد طعمه كطعم الفستق قال فلما بلغ كتاب خالد إلى حسان رحمه الله خرج بالجيوش فلقي في طريقه ثلاثمائة رجل من النصارى يستغيثون من الكاهنة فيما نزل بهم من الخراب واخراب ضيعهم ووصل
__________________
(1) في الرحلة الناصرية المرافن أو المرافق.
إلى قابس فخرج إليه أهلها وطلبوا منه الأمان وكانوا قبل ذلك يتحصنون ويتمنعون من كل من مر بهم وترك عامله عليهم وقاطعهم على مال معلوم واستطال طريق القيروان فمال إلى قصور قفصة فنزلها وأهدى إليه ملوكها وملوك قفصة وقسطيلية ونفزاوة وبعثوا إليه يستغيثون من الكاهنة فسره ذلك وبلغ الكاهنة قدومه فرحلت من جبل أوراس تريده في خلق عظيم فلما كان الليل دعت أبنيها وأخبرتهما أنها مقتولة وكأنها تنظر إلى رأسها يركض به فرسان إلى ناحية المشرق وكأنها ترى رأسها بين يدي ملك العرب الذي بعث بهذا الرجل فقال لها خالد فإذا كان هكذا فارحلي بنا وخلي لهم عن البلاد وأشار عليها أولادها بمثل ذلك فقالت كيف أفر وأنا ملكة والملوك لا تفر وأورث قومي عارا فقالوا لها إنما تخافين على قومك فقالت إذا أنا مت فلا أبقى الله منهم أحدا فقال لها أبناها وخالد فما نحن صانعون فقالت أما أنت يا خالد فستدرك ملكا عظيما عند الملك الأعظم وأما أولادي فسيدركون سلطانا عند هذا الرجل ويعقد لهم على البربر ثم أمرتهم أن يركبوا ويستأمنوا إليه فركبوا وتوجهوا إلى حسان فاعلمه خالد بقولها وأنها مقتولة وبوصول ولديها فأمر بحفظهما وأمر خالدا على أعنّة الخيل ثم خرجت الكاهنة ناشرة شعرها تقول انظروا ما دهاكم انظروا لأنفسكم فإنها مقتولة والتحمت الحرب واشتد القتال واستحرّ القتل في الفريقين حتى ظن الناس أنه الفناء ثم انهزمت الكاهنة وتبعها حسان حتى قتلها وقطع رأسها عند بئر يعرف ببئر الكاهنة وولى حسان الأكبر من ولدي الكاهنة على جماعة من البربر ثم أن البربر استأمنوا إلى حسان فلم يقبل إلا أن يعطوا من قبائلهم اثني عشر ألفا يكونون مع العرب مجاهدين فأجابوا وأسلموا على يديه فعقد لكل واحد من ولدي الكاهنة على ستة آلاف وأخرجهم مع العرب يجاهدون في سبيل الله عز وجل بأفريقية ويقتلون الكفرة من الروم والبربر والنصارى (1) وانصرف حسان
__________________
(1) بإسقاط النصارى في الرحلة الناصرية.
إلى القيروان وذلك في سنة أربع وثمانين وقد دانت له أفريقية وكتب الخراج على من بها من النصارى ومن كان على دين النصرانية من البربر وغيرهم وأقام بأفريقية لا ينازعه بشر إلى أن عزل عنها ووليها موسى بن نصير اه ـ ملخصا من شرح السقراطسية للشيخ محمد بن علي وبعضه بالمعنى والتقديم والتأخير.
ثم دخلنا لزيارته مع جملة وافرة من أصحابنا أصفرارا وقبره بالبسيط الذي تحت جبل أوراس الذي قتل به وهو مشهور يزار وعليه مسجد عجيب وحوله قرية عجيبة وفي وسط هذا البسيط وفي مسجده مأذنة كبيرة عظيمة متقنة البناء وفي أعلاها عمود يزعم الحجاج أن من تمسك بذلك العمود وحركه وقال أقسمت عليك أيتها المأذنة بحق سيدي عقبة إلا ما تحركت فتهتز وفي حجة سنة 96 (1) ست وتسعين طلع إليها بعض أصحابنا كالقاضي سيدي أحمد بن إبراهيم المراكشي والفقيه سيدي عبد الله بن إبراهيم السملالي إمام مسجد طلحة وسيدي محمد بن عبد العزيز الرسموكي وشاهدوا ذلك وصدقوه وأنكر ذلك الإمام شيخنا سيدي عبد الله العياشي قال وطلعت إليها ورأيت ذلك وليس كما زعموا وإنما هو من إتقان البناء وفرط طوله فإذا صودم بقوة ظهر فيه شبه اهتزاز وذلك يقع في كل بناء وقال وغالب من دخل المسجد من الحجاج يكتب خطه على أساطين المسجد وحيطانه ويكتب اسمه واتخذوا ذلك ديدنا وعادة مستمرة انتهى وقد دخلت إليه مرارا وصليت فيه سبحة (2) الضحى وهذه المرة زرناه أصفرارا في وقت لا تحل فيه النافلة.
انعطاف للمقصود وهو أننا ارتحلنا من سيدي عقبة [صبيحة](3) وتوجهنا إلى
__________________
(1) في نسختين 99.
(2) في نسختين صبيحة وفي واحدة صلاة.
(3) ما بين القوسين ساقط في ثلاث نسخ.
الزرائب فبتنا قبل وصولها وكنا في ذلك اليوم قد توافينا بإبل كثيرة للبيع فاشترى منها أخونا سيدي أحمد الطيب ما شاء الله ومع ذلك هي أرفق مما سبق من بسكرة وقرية مدوكال وفي هذا اليوم لقينا ولد الشيخ الجيد الذي أزمة العرب في يده وأيضا كلمته مقبولة ومنفذة عند الترك الحاج بن فانة وكان رجلا عاقلا مطمئنا في نفسه ثقيلا يأخذ كثيرا بيد الضعيف ولذا لم يخب سعيه ولا أنكشف رأيه قدام ما معه من الستر والعافية عليه مع تداول أولي الأمر على وطن قسنطينة وعادتهم إذا جاء وال جديد غير أهل الدولة الأولى ورد ما يصلح به من أصحابه وهو والحمد لله مقبول محبوب عند كل متول وسبب ذلك دعوة أهل الخير وفق الله الكل إلى صالح القول والعمل ثم بعد ذلك ارتحلنا ووصلنا قرب الزرائب بل نحن البغالة تقدمنا إلى القرية فخرج ألها إلينا متسوقين (1) بالبنادق والحياك والغنم غير أن بعضهم فهمنا منه أنه يريد الخطفة لأنه قد كثر الراكب من أهل الركب ونحن كذلك حتى وصل آخر الناس إذ جاؤا مفترقين فأتوا من غير بقاء أحد عندهم خوفا من الخطفة على أنهم منعوا (2) أن يمر أحد وسط القرية خوفا من غوائل الركب.
نعم الطريق التي يهبط الناس معها ضيفة إلى الوادي والركب والحمد لله لم يكن أعظم منه وما طلع ركب من المغرب مثله في الكثرة فلما ضاق الطريق بالناس ذهب الناس واحدا بعد واحد ومر حولا بعد مر حول وقد تقدمت أنا وجماعة من الفضلاء إلى أن وصلنا إلى روضة الشيخ سيدي حسن الكوفي الذي قبره قرب الوادي فنزلنا عنده وزرناه ومن بركته أن الوادي أخذ أطراف الأرض القريبة له لقوته حين حمله وهو إذا وصل قرب الشيخ نكص على عقبيه (3) ورجع على حاله
__________________
(1) في نسخة متشوقين.
(2) في نسخة ممنوع.
(3) في نسخة عقبه وفي اخرى عاقبه.
وهي بركة عظيمة نعم تخلف الفضلاء سيدي أحمد بن حمود وسيدي عبد الكريم وسيدي عيسى الشريف والحاج محمد بن علي والحاج عمر بن يوسف والحاج عبد الله بن عمر فأتى رجل فأخذ مكحلة من يد سيدي أحمد بن حمود خطفة ولم يأخذها منه لأنه اشتد مسكه (1) لها فاظهر من حضر هنالك الشجاعة بحيث هرب الرجل إلى وسط القرية وتعبته (2) الجماعة في أثره وجهوا المكاحل في اثر المذكور (3) بالبنادق إلى القرية واخذوا منهم سيفا ممن كان معه لأنهم قد تمالوا في الواقع على ذلك ولم يقع منهم ضرب ولا غيره ومع هذا أن أصحابنا قد كان معهم دراهم كثيرة لم يصلوا إليهم مع كثرتهم والمنة لله ولرسوله.
نعم قد نزلنا عند ذلك الشيخ إلى قرب الظهر وهذا الشيخ ولي لله تعالى شريف زعم أهل بلده أنه طار من الكوفة [قلت قال شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر في رحلته ما نصه وجلسنا هنالك وقيلنا في قبة ولي الله الشريف سيدي حسن الكوفي وزعم أهل تلك النواحي أنه طار من الكوفة](4) وقد قيل له ذات يوم من لنا بأنك شريف فذهب ساعتئذ فرجع قريبا فإذا بيده صك فيه نسبه كما كتب بخط كوفي وكان واديهم لا يجري فشكوا إليه ذلك فقال لهم جروني فيه ففعلوا فكان الوادي بعد ذلك يجري إلى الآن أخبرنا بهذا جماعة ممن يوثق بهم من أولاد سيدي ناجي الخ اه ـ ولنرجع إلى ما كنا بصدده وهو انه ركبنا من ذلك السيد نفعنا الله به بعد زيارتنا ثم بتنا في الطريق قبل غزران (5) على وزن عمران وبه واد جار ووجدنا عرب النماشة
__________________
(1) في نسخة تمسكه.
(2) في نسختين تابعه.
(3) في ثلاث نسخ ووجهوا المكاحل مع آثاره المذكورين.
(4) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(5) في نسخة غرزان وفي أخرى غزوان وفي الرحلة الناصرية غسران على وزن عمران.
فهم أقبح الناس وأكثرهم شرا فمنهم من يأتي للسرقة ومنهم من يأتي للخطفة ولا يحكم بعضهم في بعض ومع ذلك إنهم لم يكونوا في حكم سلطان تونس ولا في حكم بأي قسنطينة فإنهم هاربون في الصحراء وأخذوا منها بغلة وجملين (1) ونحن أخذنا منهم فرسا ومكاحل أعطيناهم لصاحب البغلة والجملين من غير رضى الشيخ خوفا منهم أن يرجع على طريقهم فيأخذونه غير أنه القصاص مطلوب شرعا.
ثم ظعنا ونزلنا غزران ثم نزلنا مرة أخرى قبل الحامة ثم بتنا فيها وكان قبل ذلك أتانا شيخ الخنقة مع طائفة من الترك هاربين من الجزائر ليذهبوا مع الركب أتى بهم ليلا فخرجت إليه خوفا (2) من دخول الركب ليلا فلقيته فطلبنا في الدعاء الصالح وطلبناه أيضا ثم رجع إلى وطنه وكنت دخلت الخنقة في الحجة الأولى مع أمير الحجاج سيدي أحمد بن الطيب نجل الشيخ سيدي أحمد بن يوسف الذي كانت ولايته ظاهرة شرقا وغربا وكراماته [وخوارق عادته](3) نفعنا الله به آمين ورضي عنه لا تكاد أن تحصى وقد ألف الصباغ تأليفا حسنا نحو الثلاثين كراسا [في كراماته وخوارق عادته نفعنا الله به آمين](4) والصباغ هذا ليس الصباغ الذي شرح الوغليسية والله اعلم وقد سمعت ممن يوثق به أنه أخذ عن الشيخ زروق فصار يترقى حتى أخذ زروق عنه وقد وشي به في زمانه إلى سلطان فاس فبعث الشيخ إليه سيدي أحمد بن يوسف رمزا فقال الذي يقدر على حله يعترضني وهو قوله نسجت برنسا (5) من ماء ، فغطيت به من الأرض إلى السماء ، وجعلت عمامة من ثلج ، وقناديل
__________________
(1) في نسخة بغلا وحملين.
(2) في ثلاث نسخ خاف.
(3) ما بين القوسين ساقط في نسختين.
(4) ما بين القوسين ساقط في ثلاث نسخ.
(5) في ثلاث نسخ برنوصا وفي نسختين برنوسا.
من ريح ، وفتائل من ضباب ، ثم بعث به إلى السلطان فجمع أهل دولته مع من كان من العلماء في فاس ليفهموا ذلك الرمز فلم يكشف لأحد معناه ولم يفتح لهم فيه لأنهم لم يعتقدوا الشيخ فحرموا بركته لعدم تسليمهم له ثم قالوا للأمير هذا كلام لا يفهمه إلا ذووه وقد جعلت رسالة في شرحه وحاصل معناه باختصار والله اعلم بأسرار أوليائه أن البرنس المجعول من الماء هو قوله صلى الله عليه وسلم من أسر سريرة مع الله كساه الله رداءها وسريرته هو الأنس بالمحبوب بزوال الحجب وبرد الرضى به لأن بدايات الحب بالحرارة وكذا مقدمات الرضى أيضا فلما اتصف ببرد الرضى وأنس المحبوب نسج من ذلك برنسا وكنى عن ذلك بالماء وغطاؤه من الأرض إلى السماء قوله صلى الله عليه وسلم إذا أحب الله عبدا نادى به في السماء فان فلانا أحبه الله فيحبه أهل السماء والأرض أو كما قال عليه الصلاة والسلام وفي رواية فيحبه أهل السماء ويضع له القبول في الأرض (1) جعلنا الله ممن يحبه فلا محنة دنيا وأخرى بمنه وكرمه آمين.
وأما العمامة من ثلج فهي ما تقلده من أنوار الشريعة وسواطع الحقيقة إذ يظهر ذلك على صاحبها كالعمامة والتاج ولا شك أنهما كالثلج لقوله صلى الله عليه وسلم فيها المحبة البيضاء ولا شك أيضا أن مقتضى الشريعة وأمثالها يبرد حرارة النفس في طلب رضاها فالشريعة كالثلج في البياض (2) والابراد لما ذكر.
وأما القناديل من الريح فهي معاني الصفات واستنشاق شذا معنى الذات من غير مرية أن ذلك أعظم من القناديل في الإشراق.
__________________
(1) في نسخة إذا احب الله عبدا نادى يا جبريل أن الله يحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء أن الله يحب فلانا فأحبوه فيجبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض.
(2) في جميع النسخ البيوضة.
وأما الريح فهو الوارد على القلب الذي يوجب حبا للمحب وشوقا للشائق وعشقا لذي عشق وخوفا ورجاء وبسطا وهيبة وأنسا وغير ذلك من المقامات إذ الوارد ريح قطعا.
وأما الفتائل من ضباب فهي معاني الأسماء والأذكار.
وأما الضباب فهي الحالة المستمدة منها المعاني فإنها كالضباب ولذلك كانت بداية للمبتدى إذ هو جاهل للعواقب وقد علمت أن الضباب يمنع بعض الإشراق بحيث لا يصفو لصاحبه وقت ولا يعلم حقيقة مقامة الخ فإذا علمت هذا علمت أن كلام الأولياء متشابه فلا يعلمه إلا الله الذي أورده عليهم والراسخون في العلم والمعرفة ولذلك لا يجزم بان هذا معناه بل إنما يقال لهذا أشار والله أعلم من غير جزم لأن مشربهم قد يكون خاصا بهم فلا يفهم ما عبر به عنه إلا تلويحا وقد يكون عاما فيفهمه كل من كان في ذلك المشرب لقوله تعالى قد علم كل أناس مشربهم فلم يبق إلا الاستسلام والتفويض لأمر الله تعالى غير أن باب الفتح ليس مسدودا عن العارفين انتهى.
انعطاف في تكميل ما تعلق بأحوالنا ببسكرة فإننا قد بقينا فيها يومين في شراء الرواحل وما يختص من جهاز النواقل (1) ومع ذلك نحن مشتغلون بزيارة الأفاضل الأحياء والأموات مثل الشيخ الولي الصالح البدر الواضح سيدي أبي الفضل تلميذ أبي الفضل النحوي المشهور والشيخ سيدي زرزور (2) مع من فيها من الأولياء وإن كان عن بعد مع دخولنا المسجد الجامع الأكبر الواسع ذي البنيان الشاخ فلم يوجد فيما علمت أحسن منه ولا أوسع ولا لا أعظم في المساجد المعلومة غير انه كالعدم في
__________________
(1) في نسخة القوافل.
(2) في ثلاث نسخ حمرور وفي واحدة احمرور أو احرور.
زماننا لا ندراس العلم وأهله إذ لا تجد طالبا يقرأ القرآن أو يتعلم مسألة من العلم فيه إذ مثله لا يخلو عن ذلك وهذه المدينة قديمة مشهورة بالعلم والولاية والجد في طلبهما فلما خربت وانجلى أهلها من جواره بان سكنوا (1) واستقروا في البساتين انعدم ذلك منه فساء أمره وإن عظم جرمه نعم حتى صلاة الفرض بالراتب انقطعت منه فلم يبق فيه إلا صلاة الجمعة وقد علمت ما فيه من التردد وأما بعد المسجد من العمارة الآن فلا يضر في صلاة الجمعة فما عسى أن يخدش في ذلك فمردود لأن اتصال الخراب بمسجد الجمعة كاتصال العمارة به وإن بعد جدا كمسجد عمرو بن العاص بمصر العتيق وانعكاس الدخان على الخراب كانعكاسه على العمارة ولا يشترط انعكاسه حقيقة بل انعكاسه حكما كاف وان لم توجد عمارة أصلا فضلا عن الخراب كتوسطه في البلد بان تكون العمارة محفوفة به أي بجوانبه كأكثر مساجد المنشية فأن أكثر مساجدها كذلك وكذا غيره خارج طرابلس كالساحل ومسراتة وما فيه البساتين المسكونة ولا شك في انعكاس الدخان عليه وذلك كأبي فلم يبق لقائل ما يقول فلا يشك عاقل في صحة الجمعة في مسجد بحدوس في زمورة وما زعمه بعض الطلبة كما كنت اسمعه من القدح في الصلاة فيه لعدم انعكاس الدخان ظنا منه أن دخان العمارة لا بد أن يتصل بجداره وذلك غير صحيح إذ الحق ما سمعته أنظر تلامذة الأجهوري كالعلامة المحقق الشيخ عبد الباقي وشرح الزروق على القرطبية وغيرهما من دواوين المالكية وإياك والإسراع إلى الإنكار فانه غرة ومكر لصاحبه فيها عجبا لمن لم يشاهد النقول ولا الأوطان التي استقر فيها ذوو التصانيف المشهورة والتآليف المعتبرة فإنهم أمروا بتلك المساجد البعيدة المحفوفة بعمارة بحيث إذا انعكس الدخان لا يصل إليها البتة وإنما المراد بانعكاسه بحيث يكون متوسطا في العمارة وان لم يصل دخانه لجداره هذا هو المراد بدليل رؤية العلماء لذلك
__________________
(1) في نسخة وانجلى أهلها من جور الحاكم بان يسكنوا.
ومشاهدتهم لما هنالك والإقرار عليه كاف ومأذنته عظيمة وقد تقدم بيان ما فيها من الدرج ومع ذلك أنها واسعة بحيث يصعد إليها الدواب بالأحمال المثقلة من غير تعسف ولا تكلف لكن أقول كما قال شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر اجتمع عليها أمران ظلم الأتراك وظلم الأعراب فكانت بينهما كالكرة (1) في أيدي الصبيان مع نفوذ الوعيد فيها من أمر الوباء حتى صارت في قلة بحيث انسلخت عن أوصاف الأمصار بل عن أوصاف المدن الصغار فهي الآن لا حمام فيها ولا سوق يعتبر منها غير أن الأتراك استولوا عليها استيلاء عظيما وما كان من المدارس والأحباس التي لم توجد في الأمصار هي في أيديهم يأكلون منها وينتفعون بها أتم انتفاع كالأملاك الحقيقة المباحة بل هي ليست لهم ولا أنهم من أهلها بل لما تمردوا وطغوا جعلوا جميع الخطط الشرعية لهم ظلما وعدوانا وهذا والعياذ بالله سبب اندراس العلم وأهله من كل وطن يوجد فيه ذلك.
وقد سمعت أن القاضي والمفتي فيها لا يتولى إلا بإعطاء لهم وارتشاء لديهم وكذلك في غيرها من عمالة الجزائر وقد قال بعض الفقهاء ممن شرح على المختصر كالشيخ إبراهيم الشبرخيتي أن المتولي للأحكام الشرعية بإعطاء منه فإحكامه مردودة وإن وافقت الحق (2) وصلاته للجمعة باطلة إن كان إماما فإن بطلت عليه بطلت على جميع من اقتدى به فينبغي للإنسان أن ينظر من كان سالما من هذه الجرأة الكبيرة والفرية العظيمة فيقتدى به أقول قد كان والدي رحمه الله ونفعنا به متبعا للسنة النبوية ومقتفيا للأحكام الشرعية حتى صارت له السنة طبيعة من طبائعه وصفة من أوصافه جعل المدخل وابن أبي جرمة أمامه بحيث تؤخذ السنة من فعله وقوله وحركته وسكونه واعتقاده إذا ذهب إلى بجاية وأدرك الجمعة هناك فلا
__________________
(1) في جميع النسخ كالكورة.
(2) في نسخة وان وقعت على الحق.
يصليها مع أئمتها لما علم منهم ذلك وإنما يصليها ظهرا معتذرا بما ذكرناه وينهى مريد الصلاة معهم على انه راغب في تحصيل فضلها وقد اهتم بشأنها إذ يقول بوجوبها في أكثر القرى من بلدنا وكان رضي الله عنه يذهب لتحصيل فضلا لا بعد المساجد في وطننا نحو الثمانية أميال أو أقل لقلة الاعتناء [بمن قرب منه بها وكذلك الأحكام الشرعية فإنهم لا اعتناء](1) لهم بها إذ كم من شعيرة من شعائر الإسلام قد تركت ونبذت في وطننا بان بدلت بالضد والعياذ بالله تعالى ومع هذا فان أهل وطننا لم يعدموا علماء ولا إفادة في كل العلوم أو جلها قراءة تحقيق وبحث غير أن النفع مقصور على الإذعان (2) أي الامتثال نعم الآن والحمد لله قد رجعت الناس إلى الإذعان بها وإقامة الجمعة في أكثر الأوطان والمواطن على الوجه الشرعي بل أكثر الأحكام العادية من أحكام الجاهلية قد تركوها ونبذوها وراء ظهورهم والحمد لله على ذلك فإنهم كانوا قبل ذلك يتخذون رؤساء جهالا فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا الغير ومن عادتهم القبيحة وأفعالهم الشنيعة قطع الميراث للنساء بل زادوا في الضلال أن الرجل ذا مات ورث أخوه ماله وزوجته كما كان في الجاهلية قبل الإسلام إذ المشرع تلك (3) الأحكام وهو الشيطان حي لم يمت فقويت دسائسهم بكثرة المخالفة نعم الإنسان إذا رأى أخا له أو ابن عمه ذا مال قتله وأخذ ماله وأهله إلى غير ذلك من أوصافهم الردية والعياذ بالله.
تتمة وانعطاف إلى ما كنا بصدده من الإقامة بالمدينة المذكورة وزيارة الفضلاء فيها الأحياء والأموات على سبيل الجملة والتفصيل من غير تخصيص (4) عن العامة
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(2) في ثلاث نسخ الآذان.
(3) في نسخة لتلك.
(4) في ثلاث نسخ محيص.
والخاصة والأفاضل والأوباش من النساء والرجال حقق الله لنا بركة الجميع بمنه وكرمه هذا وأن التعبير عما سبق لهذه المدينة من الفضل والاعتبار ، والاشتغال بالعلم والأذكار ، ومن كان فيها من المقربين الأخيار ، أفاض الله علينا من بركاتهم ، ورزقنا من نفحاتهم ، التعبير (1) والتفوه بمحاسن أهلها وما فيها من البساتين المنتخبة ، والأشجار الطيبة ، والأحوال المزخرفة ، والأبنية المشرقة ، العالية الشامخة المتلطفة ، فالاليق (2) الضرب عنه صفحا ، والطي عنه كشحا ، بعد الاغتنام بما هو مقصود بالذات الذي هو الاقتباس من أنوارهم والتحلي بحللهم والاستمداد من مددهم (3) الذي كان سابقا ولا حقا بحسب الزمان والمكان والأشخاص والأنواع فجدير أن يكون لنا نصيب من ارض الكرام [أمر محقق وحال مشهور](4) نعم قد ظعنا بعد التمكين والاستيفاء من أهلها ما قدر لنا حسا ومعنى إلى القرية الطيبة الشريفة بتربة صاحب النبي المختار صلى الله عليه وسلم وسيدنا ومولانا ذي الفضل والمجد الأثيل عقبة بن نافع القرشي الخ فلما وصلنا إليها نزلنا تحتها وفرغنا من أشغالنا المتعلقة بالنزول من بناء الخيام وحط الرحال ورعي الإبل والصلاة وشروطها إذ نزلنا فيها عند الظهر أوائل رجب سنة 1179 تسع وسبعين ومائة وألف ذهبنا إلى زيارة المشار إليه ذي الأنوار ، التي أقتبسها من صحبة النبي المختار ، صلى الله عليه وسلم وكرم فكان الفتح منه لأنه باب الله الأعظم ، وسلمه المضيء الأفخم ، وقد قال تعالى وأتوا البيوت من أبوابها وهو أحسن الأبواب والوسائل على أننا قد اعتصمنا بالعروة الوثقى وإن كان معنا بعض سيء الأدب معه لأن من أساء الأدب مع واحد
__________________
(1) في نسخة بإسقاط العبير.
(2) في نسخة اللائف.
(3) في نسخة بمددهم.
(4) ما بين القوسين ساقط في ثلاث نسخ.
من أصحابه (1) فقد أساء معه صلى الله عليه وسلم ولما وصلنا إلى قبرة الشريف ، وتربه (2) المنيف ، أتينا إلى قبالة وجهه وجسده الظريف ، كما ورد به الخبر وهو انه من أتى زائرا لضريح ولي من أوليائه أو نبي من أنبيائه أو صالح من صلحائه يقف عند رجليه أو عند وجهه مستقبلا المزور ثم يسأل الله تعالى بجاهه أن يمنّ عليه بغية المسئول والمأمول من خير الدنيا والآخرة وقد رأيت في بعض الأخبار وأظنه في حلية أبي نعيم أنه يقول عند ذلك اللهم بجاه أنبيائك وأصفيائك وصهيب وعمار بن ياسر (3) وأويس القرني وعبد الله بن الحصين وعبد الله بن المبارك [وأبي يزيد البسطامي](4) وأبي القاسم الجنيد ولا أدري هل زاد معروفا الكرخي أم لا وبجاه صاحب هذا الضريح فلان بن فلان أن تمنّ علي بكذا وكذا أي بأن يعين حاجته دنيوية أو أخروية فانه يجاب لذلك بمنه وكرمه وجاههم وفضلهم وقد فعلنا ذلك والحمد لله على منته والتفضل ببركته ، والوصول إلى تربته ، والتنعم بمشاهدته ، فابتهلنا في الدعاء بجاهه وبجاه من خلقت الدنيا والآخرة من أجله صلى الله عليه وسلم.
[نعم عقبة هذا قد ولد في زمانه صلى الله عليه وسلم ولذا قيل أنه صحابي](5).
لطيفة فان الوقوف عند أبواب الأولياء والسؤال منهم والاحتياج إليهم والنظر في وجوههم أو مشاهدة قبورهم والتضرع لله بين أيديهم والتحبب لديهم والتوثق
__________________
(1) في نسخة قد اعتصمنا بالعروة الوثقى واستعملنا الأدب معه لأن من أساء الأدب مع واحد من أصحابه.
(2) كذا في نسختين وفي نسخة تربة قبره المنيف وفي أخرى تربته المنيفة.
(3) في ثلاث نسخ يسار.
(4) ما بين القوسين ساقط في نسختين.
(5) ما بين القوسين ساقط في نسختين.
فيهم (1) والشعف بهم والذل والمسكنة عندهم لقدر جليل عند الله والله أجل وأعظم من أن يرد من هذا وصفه وعليه حاله خائبا حاشاه من كريم أن يفعله وما عداه (2) من ذي جود أن يعمله لأن المحبوب عند الله قريب لديه يستحي أن يرد من تشفع به وأيضا لا يوفق إلى زيارتهم ومحبتهم وقضاء مآربهم إلا سعيد وأنهم قوم لا يشقى بهم جليسهم لأنهم أحياء في قبورهم والله تعالى يقول ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون الآية هذا في شهداء القتل وشهداء المحبة أفضل لأن شهداء القتل أرواحهم في حواصل طيور خضر يسرحون بها في الجنة وشهداء المحبة بأجسادهم في حواصل طيور خضر يسرحون بها في الجنة أيضا فانظر هذا الفضل العظيم اللهم اجعلنا من أهله وحققنا بكرمه ومنه انتهى.
ولما فرغنا من زيارته وزيارة مسجده وهو مسجد عظيم يستحسنه كل من رآه سيما أنوار هذا الصحابي مشرقة عليه وعلى زائره وعلى محبيه ومحب محبه ومجاوره.
وزرنا من كان في القرية أيضا وقد قيل أن بعض الصحابة مدفون في بعض نواحيه وقد زرناه والحمد لله وزرنا من كان في القرية جملة وتفصيلا أحياء وأمواتا خصوصا الأشراف المستقرين فيها كمشائخهم وأفاضلهم (3) وهذه القرية كثيرة النخل والمزارع وهي على ماء جار حلو عذب بارد في الصيف ومع ذلك فهي أرض حارة في الصحراء غير أن ماءها يأتي من الجبال مملوك لبعض أهل القرية ومن كان خارجا منها وقد تشرفت هذه القرية على سائر القرى من الزاب وعلى مدينة بسكرة بهذا الصحابي العظيم افتخاره والسني أنواره والعلي أسراره وهم في عيش هنيء
__________________
(1) في نسخة التشوق فيهم.
(2) في أربع نسخ عاداه.
(3) في ثلاث نسخ كشيخهم وأفضلهم وفي أخرى كشيخهم وأفاضلهم.
وأمد سني غير أنه أصابت الشرفاء جائحة الفتنة وعوائق العداوة فهم فريقان فريق في القرية وهو المتمكن المعتصم بأولي الولاية من الترك والمتمسك بجاههم إذ من تمسكت بهم تفرض على غيره (1) وفريق آخر خارج عنها مستقر بغيرها من قرى الزاب ومدينة بسكرة حتى يفتح الله عليهم وهو خير الفاتحين لأن الدهر قلّب إن دام لشخص يوما فبعده يتقلب قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) الآية غير أن جدهم خير الخلق وأفضلهم على العموم يذب عنهم ويحفظون لأجله فأن كان الصالح يراعي إليه في أولاده فأولى النبي صلى الله عليه وسلم في قرابته وكيف لا والله يقول : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).
لطيفة قال الشيخ سيدي أحمد زروق نفعنا الله به في حقهم أنه يجب على الناس تعظيم الأشراف أي تعظيم ومحبتهم واعتقادهم لوجه جدهم الذي انتموا إليه وانتسبوا إليه وإن يعتقدوا أيضا أن الله يغفر لهم لا لشيء أسلفوه ولا لأمر فعلوه وإن وقعت منهم أذاية لأحد فيجب أن يعتقدها كالأمر السماوي من الله وكالغرق والحرق وأما هم فيجب عليهم أن يعتقدوا أن معصيتهم أكبر المعاصي لأن الفلاح مع الملك يعمل ما ليس بصلاح ويقابل بالسماح والوزير يجلس مع الملك على السرير ويخنق بالحرير اه ـ.
فأنت ترى أيها المخاطب إلى هذا الجانب الأعلى العظيم (2) فكيف يبغضون ويؤذون وأن ذلك من أكبر المقت وقد قال القسطلاني في المواهب اللدنية في السيرة النبوية من المعاصي التي لا تغفر أصلا ولا تقبل فيها التوبة بغض آل النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) إلى قوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
__________________
(1) في نسخة فاز عن غيره.
(2) في نسخة الجانب الأعظم.
الْفاسِقِينَ) انتهى.
فإن قلت كل الناس يدعي (1) الشرف وتعظيمهم مشقة عظيمة وعسر عظيم في الدين وتصديقهم تعسف فيه فكيف العمل فهل يصدق الجميع أم يكذب الجميع أم البعض دون البعض وتصديق الأول باطل وكذا الثاني لبطلان كون الجميع شرفاء أو لا شرف فيهم وكذا الثالث باطل للتحكم لاستواء الناس في نظر العقل.
قلت الحق بين والدواعي كلها باطلة فلزم أن يكون ممنوعا وسند المنع أن الأنوار النبوية ظاهرة بينة لا غبار عليها.
وقد قيل لبعض الأشراف ما منعك أن تتوسم بعلامة الشرف فقال منعني من ذلك أن أنوار النبوة هي أدل دليل فكيف يصح أن يكون لها علامة من غيرها ولذا قيل :
جعلوا
لأبناء الرسول علامة (2)
|
|
أن
العلامة شأن من لم يشهر |
نور
النبوة في كريم وجوههم (3)
|
|
يغني
الشريف عن الطراز الأخضر |
فإن قلت هذا الأرباب القلوب ومن يراعي الخواطر وكل الناس ليس عليه لغلبة الهوى والسلطان الجهل والتعلق بالسوء (4) وذلك صدأ مرآة الضمائر والعقول فلا يظهر الشريف من غيره لكل الناس إذا فلا بد من علامة أخرى تشترك فيها الناس كلهم.
__________________
(1) في ثلاث نسخ تدعي.
(2) في نسخة لأولاد النبي.
(3) في نسخة في وسيم وجوههم.
(4) في ثلاث نسخ بالسوا وفي أخرى بالسوى.
قلت الأمر كما ذكرت غير أن الأحكام الشرعية والقضايا الإلهية حكمت بأن الشريف مصدق في نسبه كما يصدق في ماله فإن حيازة الأموال معتبرة شرعا كذلك حيازة النسب والحيازة في الأموال لا بد وأن تكون في أمد طويل بحيث يقطع أن هذا لمن حازه ويقوم الأمد الطويل مقام البينة القاطعة به كذلك النسب فلا بد وأن يكون أمدا طويلا يقطع فيه العقل والعادة بأنه لا خلل فيه إذ لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وحينئذ الناس مصدقون في أنسابهم لوجود الحيازة فيها كحيازة الأموال قاله الأجهوري إذ قال الناس على ما حازوا من أنسابهم فيصدقون فيها عملا بالحيازة كما يصدقون في الأموال عملا بها انتهى بالمعنى.
قلت قال الشيخ عبد الباقي في باب مصرف الزكاة بكسر الراء الشرف يثبت بالشهرة اه ـ فأنت ترى أن الشرف يثبت بالحيازة وبشهرته فتبنى عليه أحكامه من تحريم الصدقة وتعظيم جانبه لأجله وثبوت حقه فيما لا حق فيه وغير ذلك فيما (1) يثبت فيه اه ـ.
انعطاف إلى ما كنا بصدده وهو انه لما فرغنا من زيارته وزيارة غيره رجعنا إلى الركب وأقمنا تلك الليلة في حفظه (2) وعنايته إلى أن تنفس الصبح قام الركب لتجهيز الرواحل من هذه القرية نعم هذه القرية ليس لها نظير فهي أحسن ما وجد في البلاد مزارع وأشجار ومياها كما تقدم وحسنها في المعنى أكثر بالسيد عقبة وإن كان ليس بصاحبي وإنما سمي صحابيا لكونه ولد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فمن نظر إلى ذلك سماه صحابيا وإلا فالصحابي حقيقة هو من اجتمع بالنبي (3) صلى
__________________
(1) في نسخة مما.
(2) أي في حفظ سيدي عقبة.
(3) في ثلاث نسخ مع النبي.
الله عليه وسلم اجتماعا متعارفا بحيث تقضي العادة أن ذلك الاجتماع يفيد الصحبة احترازا عن الاجتياز فلا تثبت به الصحبة ولا يشترط فيها الرؤية ولا الرواية عنه وإنما هو تابعي لأن من رأى الصحابة تابعي ونور النبوة إنما يشاهده شخص أو أشخاص وهو فتح إلهي ووهب رباني ونور صمداني لأن خواص النبوة وأنوار الولاية موكّلة لأهلها من المحبوبين لديه جعلنا الله منهم آمين.
انعطاف والخنقة قرية مباركة طيبة ذات نخل وأشجار في وسط واد بين جبلين وقد قيل أنها تشبه مكة في وضعها (1) وفي البركة غير أن التشبيه في بعض التغالي لكن كلام الأولياء مقبول فيؤوّل بما يوافق الشريعة من غير تلبس ولا التباس نعم لها فضل عظيم سيما إظهار العلم فيها فإنهم مشتغلون بالنحو والفقه والحديث خصوصا مختصر البخاري لابن أبي جمرة وأما علم الكلام والمنطق فمنعدم في محلهم رأسا وقد سألتهم عن عدم الاشتغال بعلم التوحيد فقالوا وهل يحتاج الشمس إلى دليل في قوة قضية قائلة أن الله لا يحتاج في معرفته إلى دليل وبرهان واتقان عقائد كأنه ضروري عندهم زعما منهم أن أبي جمرة نهى عن الخوض فيه بأن قال يحرم الخوض فيه وإنما يقرأ على مذهب السلف الصالح أي الصحابة رضوان الله عليهم.
قلت هذا من الحرمان البين والخذلان المتمكن والقساوة الجلية إذ لا يمكن هذا شرعا فان العلم بحقائق الصفات والحكم بوجوبها للذات العلية أي الجزم بذلك من غير دليل عقلي وكذا ما يستحيل عليه وما يجوز في حقه ظاهر الرد شرعا إذ اختلف فيمن هذا وصفه هل هو مؤمن لكونه جزم بالعقائد والحكم بها للمولى جل جلاله مع عصيانه وهو الراجح عند الكثير من العلماء أو كافر يخلد في النار مع سائر الكفرة وهو الذي رجحه الشيخ السنوسي في شرح كبراه بان نسبه للمحققين [في
__________________
(1) في نسختين وصفها.
برهان الوحدانية](1) كالشيخ الأشعري وإمام الحرمين وغيرهما إلى أن قال وهو رأيي فأنت ترى أيها المخاطب أن هذه دسيسة دسها اللعين لهم ولم يتفطنوا لما هم عليه من الكفر إجماعا أن لم يحصلوا مرتبة التقليد أو على الخلاف أن حصلوها وأي مصيبة وبلوة ومحنة أعظم من الكفر بالإجماع أو على الخلاف فإن قالوا هذا ممنوع في حقنا وسند المنع كوننا على العلم فإننا نحفظ القرآن ونفهم السنة وأدلتها كافية وتقليد المعصوم كاف حسبما صرح به غير واحد كابن عرفة وغيره فما هذا إلا تحامل منك.
قلت هذا لا يسمن ولا يغني من جوع لما علمت أن بعض المعتقدات كالوجود والسلب (2) غير الوحدانية فان فيها خلافا في الاكتفاء بدليل النقل فيها أو لا بد من دليل العقل وهو الراجح [فلا بد فيها من دليل العقل فلا يكفي فيها دليل النقل](3) إذ لو عرف بدليل النقل لدار [وما دار لا يحصل علما](4) وبيان الدور ليس هذا محله وكذا مصححات (5) الفعل كالقدرة والإرادة والعلم والحياة فلا بد فيها من دليل العقل أيضا وحينئذ ما تخيلوه من الاكتفاء في التوحيد بأدلة النقل واضح الرد وما ذكره ابن عرفة من الاكتفاء به أما خاص بالمعتقدات كالذي يرجع (6) للكمال كالسمع والبصر والكلام ونفي النقائص عنه فإنه يكفي دليل النقل فيها ولذا قال بعضهم أعني ابن زكري :
قالوا
حديث النقص والكمال |
|
من
الخطابة في الاستدلال (7) |
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسختين.
(2) في ثلاث نسخ السلوب.
(3) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(4) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(5) في نسخة مصححة.
(6) في نسخة كالتي ترجع.
(7) في نسخة حديث الكمال من الخطابة في الاستدلال.
والخطابة بفتح الخاء قضايا مقبولة تصدر من المقبول غير النبي (1) كالصالح والعالم والعامل ومن حلي بالمقبول من الله وعندهم أدلة النقول للمعقول من الخطابة أو كلام ابن عرفة عام فيها غير أنه ضعيف جدا فلا يصح الاستناد بل لا يصح ذلك لأن من لم يعلم الله كيف يعلم أن الكلام كلامه ولعله أن يكون الكلام المستدل به لغيره وما ذكره ابن أبي جمرة أيضا من حرمة الخوض في علم الكلام إنما هو بعد معرفة القدر الواجب فالقدر الواجب المكلف به البرهان (2) العقلي ولو إجمالا هو ما يحصل للقلب اطمئنانا بحيث لا يقول سمعت الناس يقولون شيئا فقلته والإجمالي هو المعجوز عن تقريره وحل شبهه والذي يحرم الخوض فيه هو المختلط بشبه الفلاسفة ككتاب الفخر وطوالع البيضاوي وغيرهما هذا لغير راسخ في السنة فلم يبق إلا كونهم على الخطأ في الاعتقاد نعم كل أحد من الناس لا بد وأن يكون له ما يشعر بالنقص والعصمة للأنبياء وأما الكمال فهو لله عز وجل.
تتمة أولاد الشيخ سيدي ناجي قد حازوا المعالي من قديم الزمان وقد وجدت كثيرا من الفضلاء منهم في محلهم كسيدي محمد بن الطيب وسيدي أحمد بن ناصر وفقهاء وقراء وفيها الولي الصالح تلميذ الشيخ سيدي أحمد بن ناصر وهو سيدي عبد الحفيظ أعني أولاده وأما هو فقد وجدته ميتا قبلي بنحو شهرين وقد أخذ عنه مباشرة وإنما أدركت الذي أخذ طريقه وهو سيدي بركات وإخوانه وأولاده وسيدي السعيد ومدرس المسجد وغيرهم من طلبة العلم وفضلاء الوقت فإن النحو عندهم يعتني به الكبير والصغير حتى أنهم اشتهروا به اشتهارا بينا وبالجملة فمحلهم مشهور بالفضل والعلم والهمة غير أنه يتحاسدن عن تولية الرئاسة التي كانت بأمر رباني والآن صارت بالضد والعياذ بالله أصلح الله حالهم ووفق كلمتهم ونفعنا ببركة
__________________
(1) في نسختين بإسقاط غير النبي.
(2) في نسخة بالبرهان.
أسلافهم وبركتهم آمين.
وفي تلك الحجة وهي عام ثلاثة وخمسين ومائة ألف (1153) ذهب معنا العلامة الفاضل والمنور الكامل تلميذ سيدي عبد الحفيظ المذكور سيدي أحمد التليلي (1) كان كريما فاضلا بحيث لا صبر له عن إطعام الطعام في الطريق وكان يعرف السير كثيرا على أني زرت معهم في بدر ومكة والمدينة المشرفة فكأنه هو الذي وضعهم في التراب وله يد في العلوم كلها من غير تخصيص أي العلوم الظاهرة فقد كان واحد عصره وفريد زمانه وكذا علوم الحقائق ومثله علم الأوفاق فانه لا نظير له فيما علمت ومع ذلك أنه موفق غاية التوفيق ، وأقبل على الله بكله بالتحقيق ، وقد طلبني لعلم الأوفاق لأخذه عنه فامتنعت لكون قلبي حينئذ متعلقا بالله بحيث لم يترك لي سواه بان غلب على سطوة الوارد وكان رضي الله تعالى عنه يكتب المعارف يسمعها مني حين يتقوى علي (2) سلطان الوجد وكان بديع الخط سريع اليد فيه وكان ينسخ كراسا وأظنه من القالب الكبير في برقة ونحن مسافرون وأما يوم الإقامة فكان أكثر من ذلك وقد زبر في برقة رحلة الشيخ سيدي أحمد بن ناصر وزاد كتاب الصباغ في كرامات الشيخ سيدي أحمد بن يوسف وقدر الجميع ما يقرب من ستين كراسا ورجعنا إلى أن نزلنا توزر ونفطة إلى أن زرنا جميعا الولي الصالح ، والقطب الواضح ، سيدي عبد الحق فيها ولم تكن له طريق وإنما طريقه من قابس إلى قفصة ثم إلى محله فريانة وهي بين قفصة وتبسة وقد زرت محله والحمد لله وانفصلنا عنه حين أرتحلنا من نقطة وعند الافتراق أزال جبة صوف عن جسده فالبسها لي وعلمت أن الله تفضل علي بذلك ثم انه عند الانفصال قال لي أخاف عليكم من المحاربين بان قال قد ثبت عندي بأنهم خارجون إليكم ولا أدري أذلك من طريق الكشف وهو
__________________
(1) في نسخة التليلتي.
(2) في نسخة عليه.
الأنسب به والأليق (1) بمقامه أو سمع ذلك ممن يوثق به فلما أخبرني بهذا رسم جدولا في الأرض وخط خطا وأمر جميع الحجاج أن يمروا بذلك الخط فمر عليه جميعهم إلا كاتب الشيخ كان متخلفا عنا لم يمر به.
وفي ذلك اليوم تلاقينا مع عدو نفسه المحارب لله ولرسوله الشيخ ابن روب وهو شيخ من شيوخ نفزاوة خارجا عن ولاية صاحب تونس بان استقر في وادي ريغ والله اعلم في ثلاثين من الخيل وعشرين رجلا ومعهم السلاح القوي والزاد على الإبل وأتى إلينا عند صلاة العصر فأعلمناه بأننا حجاج ووفد من وفود الله ورسوله وأظن أن الشيخ أعطى له شيئا أحسبه فضة (2) فذهب عنها ونحن جددنا (3) في السير خوفا من شره إلى ثلث الليل أو نصفه فلما ارتحلنا والماء عندنا قليل ووصلنا إلى الماء عند الضحى فغاروا علينا ونهبوا فرسا للشيخ فردها منهم بالقهر ثم غلبونا على الماء بان نزلوا عليه ونحن خارجه ومع هذا قد عدمنا الماء من الركب غير انه موجود عند بعض الناس نحو الخمسة أزقة وكذا المكاحل نحو العشرة وقد داروا بنا كالحلقة وكثر (4) الرصاص بأن ينزل علينا كالمطر ومع ذلك والحمد لله أن من وقعت فيه رصاصة نزلت كالطين بحيث لم تضر أحدا إلا الكاتب الذي لم يمر على الخط أتت بندقة ووقعت فيه تحت السرة بان دخلت في الجلد مقدار أنملتين فرجعت بإذن الله غير انه مكث أياما فتضرر من ذلك ثم عفي والحمد لله وأما هم فقد مات منهم والله أعلم اثنان أحدهما أصيب برأسه والضارب له الحاج خليل بن قاصد علي (5)
__________________
(1) في نسختين اللائق.
(2) في نسختين فضلة وفي أخرى بغلة.
(3) في نسخة جدّ بنا السير وفي نسختين جدّينا.
(4) في ثلاث نسخ كثروا.
(5) في نسختين قاسط علي وفي أخرى فاصط علي.
الزموري ثم التركي هذا هو المحقق وقيل انه الحاج محمد بن معمر اللمداني صهر والي الجزائر كور عبدي (1) والآخر لا علم لنا بضاربه ولا بمحل الإصابة وأما الخيل فقد مات منها نحو ثلاثة أو أقل والحرب من الصبح إلى قرب العصر نعم صلينا على نحو صلاة المسايفة بالقسمة فرقة كانت تجاه العدو والأخرى تصلي مع الإمام فلما فرغت ذهبت تجاه العدو حتى صلت الأخرى ثم حدث لنا العزم التام والحزم (2) العام أن نذهب إليهم دفعة إلى المطعن ويكون القتال على الماء أما أخذونا أو أخذناهم فلما رأوا تصلبنا وعدم الإذلال له بل لا نزال نزاد في الشجاعة ذهب إليهم فقير سيدي أحمد بن الشيخ الدراوي فوجدهم خائفين مرعوبين ثم رجع الفقير فمكثنا غير بعيد حتى أتى إلينا شيخهم مع فارس من فرسانه يطلب العفو والدخول إلينا ونحن نمتنع من ذلك فاشترطنا عليه أن دخل يترك فرسه عن بعد منا ويأتي إلينا على رجليه بلا سلاح فالتزم ذلك ثم دنا منا على نحو ما اشترطتاه فيه فلما وصل إلينا عزمت على قتله لأن لم يأت تائبا إلا بعد القدرة عليهم والله يقول : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) فمسكني الحجاج ومنعوني من قتله ثم اشترطوا عليه أن لا يبيتوا على الماء فقبل ذلك والتزم العمل به ثم طلب البارود من الشيخ إذ المزود منه بين يديه فامتنع من إعطائه وقال والله لا أعطيه إلا في بطونكم فلما انصرف من عندنا ارتحلوا عن الماء بنفس وصوله وبتنا عليه نحن إلى الصبح ثم ظعنا إلى الحامة (3) المذكورة وعلمنا أن نصر الله لنا إنما هو ببركة الشيخ نفعنا الله به وبأمثاله بمنه وكرمه اه ـ.
انعطاف إلى التكلم فيما نحن بصدده وهو أننا نزلنا قرية الحامة فيها نخل كثير
__________________
(1) في ثلاث نسخ كور عبد وفي نسختين كورغلي.
(2) في نسخة الحزم.
(3) في ثلاث نسخ الخنقة.
ومياه عظيمة طيبة وفيها حمام يجري ماؤه قوي بحيث عم غالب القرية وماؤه حار كأنه تحته نار عظيمة بحيث من أراد الاغتسال فيه لا يقدر على الاغتسال فيه بغتة لشدة سخونته (1) وغير ذلك من أوصافها.
ثم ارتحلنا منها فنزلنا توزر وقت الضحى وهي بلدة عظيمة من قواعد الجريد كثيرة النخل مع جودة تمرها إذ لا نظير له في سائر بلد (2) الجريد قوية المياه فيها إنها وماؤها عذب وبناؤها شامخ مستحسن مرونق فهي أفضل من بسكرة لأن بناءها بالطوب وهي بناؤها بالأجر والجير والجبس في غاية الإتقان مع طول البنيان إلى العلو (3) وسعة عرضه حاصله أنها قرية طيبة جيدة وذلك عام في الدور والمساجد بخلاف بسكرة فإن حسنها في مسجدها فقط.
وقد قال سيدي أحمد بن ناصر في رحلته ما نصه وتوزر هذه هي قاعدة بلاد الجريد من عمالة تونس ووافينا بها في الحجة التي قبل هذه عام تسعة أمير تونس رمضان باي بمحلته جاء لقبض الخراج الموظف على البلد كما هي سنتهم وسنة من اقتدى بهم قطعها الله من سنة وأخلى منها جميع أراضي الإسلام بلا محنة وملاها بالعدل المستقيم والدين القويم وما رأيت ببلاد الجريد أكثر منها نخلا وأحسن منها بناء وأوسع بعد بسكرة ساحة وأغزر ماء وبناؤهم بالأجر فلذلك كان أحسن من بناء بسكرة ما عدا المسجد والمنارة فقد قدمنا من وصفهما ما يغني عن الإعادة وبها من الثمار ما لا يحصى عدده إلا الله يرد عليها من الأعراب الآلاف المتؤلفة ويملأ كل واحد أبله بما شاء من الثمار وتمرها من أجود تمر الجريد ومياهها غزيرة وجناتها كثيرة
__________________
(1) في نسخة بحيث من أراد الاغتسال فيه بغتة ربما هلك أو تضرر لشدة سخونته.
(2) كذا في جميع النسخ.
(3) في نسخة بإسقاط إلى العلو.
ينساب فيها واد كبير منبعه من غربيها وأعرابها أهل بادية مخصبة يرخص فيها غالبا سعر السمن واللحم وأما التمر فيها فرخيص جدا لا يكاد يكون كدرعة (1) وأمثالها ولكن اضر بأهلها جور الولاة حتى كاد الخراب يستولي عليها لضعف أهلها بالجبايات الظلمية وقد بنى بها محمد باي عفا الله عنها وعنه مدرسة للطلبة جيدة بإزاء مسجد جيد متقن ببناء رائق أعمدتها كلها رخام وبنى أخرى بقابس مثلها أو أحسن عفا الله عنا وعنه.
وقد كثر جور الأتراك بهذه البلاد ، وشاع بها الظلم والفساد ، أخبرني بعضهم إنهم كانوا يعطون ستة نواصر على كل نخلة وأربعة على كل زيتونة والناصري اسم لسكة عندهم معروفة اثنان وخمسون في كل ريال لكل عام.
وأخبرني بعض الشرطيين في الحجة قبل هذه أن خراج الجريد من نفطة إلى قابس خمسمائة ألف ريال لكل عام وخراج جربة وحدها ستون ألفا ومئونة مائتي صبايحي (2) من البر والأزر والسمن والخل والزيت واللحم فالله تعالى يقطع جور الجائرين (3) ، ولا يصلح عمل المفسدين.
ونفطة أيضا مدينة كبيرة (4) قريبة من توزر ولها واد مثل واديها ويقال إن خراجها مثل ثلثي خراج توزر اه ـ.
تتمة في الحجة الأولى عام ثلاثة وخسمين ومائة ألف (1153) نزلنا بها في الرجعة فوجدناها كما يليق من كثرة الأرزاق وكثرة الخلائق وقد قدم معنا من
__________________
(1) من قوله من الاعراب الآلاف المتؤلفة إلى قوله كدرعة بياض منقطع في ثلاث نسخ.
(2) في الرحلة الناصرية صباحي والأولى سباهي وهو الفارس.
(3) في نسخة ومؤنة الجائزين بإسقاط ما بين مؤنة والجائزين.
(4) في نسختين بلدة طيبة وقريبة.
الحجاج من توزر من أكابرها ومن ذوي رئاستها فأكرموا من كان في الركب في ديارهم وما رأينا مثلها في البناء الرائق والوسع الذي يذهل العقول ومع ذلك اخرجوا موائد كل مائدة تكفي الجم الغفير والعدد الكثير كثر الله خيرهم ووجدت فيها أفاضل من العلماء والصلحاء وما رأيت أرق قلوبا وأسخى دمعة من أهل الجريد على أني تخلفت مع شيخ الركب في بعض نواحي توزر بان ادخله بعض الناس إلى بيته مع أصحابه وبقيت أنا في الزقاق انتظر (1) خروجه إذ لم يرني عند الدخول ولما بقيت وحدي وإذا برجل من القرية عزم علي وذهب بي إلى بيته بعد امتناعي خوفا من المكر ولما وصلت بيته فوجدته أحسن البيوت ووجدت زوجته من أحسن النساء دينا وحالا وصيانة يظهر عليها أثر الديانة فإذا تكلم أحدهما أصابته عبرة مع انسجام الدمعة وانهمارها فعلمت أنهم من أهل الصلاح وأهل الخير تفضل الله علي بهما وما رأيت مثلهما أصلا ثم قامت المرأة وجعلت لي خبزة ثم كسرتها في الحليب أعني لبن الغنم ووضعت عليه شيئا من الزبدة ثم أخذت في الأكل فما وجدت أحلى من ذلك الطعام ولا أذوق منه طعما كأنه من الجنة فلما كانت في أثناء الأكل وإذا بصاحب البيت قال لي كل هذا طعام بلدك فقلت من أي بلدة فقال من ميلة وخطر لي أنه أوتي له من الغيب ثم خرجت من بيته مذعورا بان الشيخ يتركني وحدي إذ لم يعلم بتخلفي فقال لي لا تخف فإن الشيخ لم يخرج من ذلك البيت فلما خرجنا ووصلنا إلى الزقاق وإذا بالشيخ خارج فقال لي على بركة الله وهو يبكي وكذا زوجته فإنها تبكي عند انفصالي من محلهم رضي الله عنهم ونفعنا بهم ووجدت في تلك الحجة العلامة الفاضل والفهامة الكامل سيدي عبد القادر الفاسي يقرأ في مسجد توزر في التفسير في قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) الآية وكان رضي الله تعالى عنه حافظا للروايات ناقلا مذاهب العلماء
__________________
(1) في نسختين ننتظر.
عبارته سلسة فصيح اللسان حلو الكلام ما أحسنه في وقته قل نظيره ثم بعد ذلك مات رحمه الله وهي ثلمة في الإسلام لا يسدها إلا خلف مثله وهو حديث مروي عنه صلى الله عليه وسلم بان قال إذا مات العالم انثلمت ثلمة في الإسلام لا يسدها إلا خلف مثله وفي تلك الحجة زرنا سيدي أحمد الزريبي (1) وهو ولي صالح يخبر بالمغيبات كثيرا وقد غلب عليه الغيب عن حسه بمحبة ربه بل أظنه قد زال عنه عقل التكليف وبقي فيه عقل التعريف وذلك أن من ذاق شيئا من كنه الذات أو الصفات قل أن يبقى معه عقله نعم هو في الحضرة دائما متصل بها يشاهد محبوبه وحينئذ يكون محبوبه سمعه وبصره ونطقه فإن تكلم فمنه وإليه وبه وإن سكت فكذلك وهذا الشيخ ممن عظم قدره عند الله وكان منعزلا في خلوة في بيته مدة أربعين سنة لم يخرج منها على ما سمعت ممن يوثق به من أصحابه ولما وصلت إليه مع طلبتي مسكني من حاشية البرنس وزفرني (2) زفرة عظيمة وجذبني جذبا قويا وقطع لي البرنس من جهة صدري نحو الشبر حتى أصاب الروع من ذلك جميع الحاضرين وأما أنا في نفسي أنتظر عاقبته وإنما توهمت أن يكون غضبه من غضب الله علينا أعوذ بالله من غضبه وغضب أوليائه وكذلك أخونا في الله سيدي ابن نوّة قاضي المدية لما قبل يده قال يا لطيف حين رآه فقال الشيخ ما اللطف وما لطف اللطف وما اللطف في اللطف ثم كرر العبارات مرارا متعددة ثم بعد ذلك انبسط إلينا وانشرح فعند ذلك قال له بعض أصحابه لما ذا عملت بفلان يعني نفسي ذلك الزفر فقال إنكم إذا أردتم غسل الثوب الجديد فلا بد من عصره وضربه بالرجل ضربا شديدا لتزول أوساخه فيطلى بالصابون ولذلك فعلت به ما فعلت فدعا لنا وأخبرنا بأمور تكون لنا في المستقبل وأظنه قال لي تريد السياحة قال وإنما يكون ذلك في عاقبة أمرك نفعنا الله به وبأمثاله
__________________
(1) في نسخة الدريبي وفي أخرى الزربي.
(2) في ثلاث نسخ زفر عني.
آمين.
وفي هذه الحجة وجدته ميتا مقبورا عند منزل الركب وعليه روضة عظيمة وقبره يزار وقد اجتمعت أهل توزر على تعظيمه ومحبته لاعتقاده فيه وأنه ولي من أولياء الله من غير شك وزرنا ذلك العام الأفاضل ودخلنا بيت سيدي إبراهيم الخليل مع أولاد الشيخ السيد (1) الغوث وهو من أولاد سيدي سالم والله اعلم تلميذ الشاذلي وإنهم اخبرونا بموت هذا الشيخ فعند موته رأى واحد من أولاده وهو صغير غايته أن يكون مميزا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول عليكم به صلى الله عليه وسلم فانه هنا عند رأس أبي بان ينادي بتلك المقالة الجالسين مرارا نفعنا الله بهم ومن هذه الطائفة خديم الطلبة والعلم سيدي أحمد بوطبّة (2) المستقر الآن في قفصة وهو من توزر من أولاد تلميذ الشاذلي المذكور وأحواله طيبة وقد ظننا أنه من أصحاب الوقت وفي الحجة الأولى دخلت قفصة وزرت فيها الأفاضل سيما من بلغ درجة التأليف المشهور علمه وفقهه وقد سمعنا أنه تعرض لشرح الشيخ خليل وهو الشيخ المنصوري وكذا الشيخ المنصوري آخر أقل منه درجة ووجدت فيها أيضا سيدي أحمد بن نفيس وشهدنا له كشفنا بينا بان كنا عنده في الخلوة يكلمنا بطريق (3) التصرف وأحوال الرجال وطال في ذلك فقلنا له الركب تركناه أخذ في الرحيل فقال الركب لا يرحل اليوم فمكثنا عنده لقرب الظهر فلما خرجنا من عنده وجدن الركب مقيما نفعنا الله بهم وأما في هذه الحجة فقد زرناه في توزر مع من قبر فيها أي توزر والأخر في قلعة آل حماد وقد زرتهما معا والحمد لله وكذا زرنا فيها العالم الكبير ابن
__________________
(1) في نسخة بإسقاط الخليل والسيد.
(2) في نسخة بياض وفي أخرى بوطبّ وفي نسختين بطبّ.
(3) في ثلاث نسخ بطرق.
شباط الشقراطسي وغيرهم من المؤلفين وزرنا أيضا الشيخ. (1)
ثم ظعنا منها صبيحة فلما انفصلنا (2) عن الوادي المملوء (3) بالعمارة وأمطرنا في ذلك اليوم مطرا شديدا كادت النفس تزهق من شدته وشدة برده فبتنا هناك ثم منه إلى أولاد يعقوب وفي ذلك اليوم مررنا على ولد الشيخ بو عزيز الحناشي وهو الشيخ إبراهيم قد فر من باي قسنطينة لما تبعه بعساكره يريد الانتقام منه لأمر ديني وهو استطالته على المسلمين وتمرده على الأحكام الشرعية وانه كان يتزوج أكثر من أربع وقد سمع انه بلغ اثنتي عشرة امرأة عدو نفسه فلما وصلناه خاف منهم الركب فخرج إلينا مع بعض أصحابه فأتى إلينا ونحن السابقون فسلم علينا وطلبنا في الدعاء فدعونا له بالهداية والرجوع إلى بلده وانه أمرنا بالنزول عنده فامتنعنا من ذلك لأنه أول النهار ثم سرنا فبتنا عند أولاد يعقوب ثم رحلنا عند الضحى فجاؤا إلينا بجيوشهم ظنا منهم أن العرب غارب عليهم فلما التقى الجمعان علموا بنا أننا حجاج فرجعوا ونزلنا قرب السبخة عند صلاة العصر ثم رحلنا صبيحة فقطعنا السبخة بعسر وشدة فكثير من الإبل قد وقعت في السبخة وكذا البغال تداركنا الله بفضله فنزلنا في حامة قابس وهي قرية ذات نخل وماء وفيها حمام من الله تعالى سخن كأنه يغلي بالنار فلا يستطيع أحد أن يدخله بغتة إلا بعد الألفة وفيه بيت يستر المغتسلين وخارجه نهر منه يجتمع فيه الرجال والنساء من غير ستر في النهر كل واحد يرى عورة الأخرى من غير تغيير (4) ولا نكير فلما رأيتهم اقشعر جلدي وتحركت فرائصي فملأت حجري بالأحجار وصرت أضرب كل من هناك من النساء
__________________
(1) هذا بياض نحو نصف السطر في جميع النسخ.
(2) في ثلاث نسخ فصلنا.
(3) في نسختين بإسقاط المملوء.
(4) في نسختين تغير.
والرجال فقالوا ما هذا الرجل وظنوا أني خرجت من عقلي ففر الكل ولم يبق أحد في ذلك الوقت إلا هرب ثم مر علي شخص فقال لي رحمك الله لو كنت معنا دائما لزالت هذه الأمور العظيمة (1) إذ يحرم ذلك إجماعا.
وأما أهل القرية فلم يعجبهم صنعي بان ظهر التغير على وجوههم غير أنهم سكتوا إذ العاصي ذليل ثم حممنا منه في محل الستر وكذا أهلنا ليلا فمنها ظعنا لقابس (2) ونزلنا خارجه عن بعد منه فلما أصبح الله بخير الصباح أتى أهل قابس يتسوقون مع الركب إلى صلاة الظهر فأتى الأعراب فغاروا على أبل الركب فنهبوا جملين لصاحب سيدي أحمد بن حمودة (3) ثم ذهبت أنا وسيدي أحمد بن الطيب لأمير المحلة هناك وفضلاء الحمارية (4) نشكو بما صار بنا وإذا بطائفة أخرى أخذوا بغل سيدي يحيى بن صالح من وطننا فلما سمع الركب بذلك نهبوا من كان بقابس في الركب وأخذوا الفضة وغيرها فدخلنا على القائد بين المغرب والعشاء فأخبرناه الخبر وقال لا بأس عليكم فغدا إن شاء الله يرجع ما لكم فخرجنا من عنده فوجدنا جماعة منهم ينتظروننا ليمسكونا في الركب فلما عرفوني تركوني فذهبوا إلى سيدي أحمد الطيب فلما زجرتهم تركوه وأتوا إلى العلام فوجدوه هاربا قبل ذلك فأمنا ذلك (5) فمكثنا غير بعيد إلا والإجمال رجعوا على يد الحمارية (6) رزقهم الله البركة وأعانهم ونصرهم على الظالمين.
__________________
(1) في ثلاث نسخ لازلت هذا الأمر العظيم.
(2) في نسخة بإسقاط فمنهم ظعنا لقابس.
(3) في نسخة حمود وفي أخرى حمودي.
(4) في نسخة الحمارنة وفي أخرى المحارنة.
(5) في نسخة بإسقاط فامنها ذلك.
(6) في نسخة الحمارنة وفي أخرى المحارنة.
وتوزر وقابس محل الخطفة بل توزر أعظم فكل من غفل عن حاجة في يده إلا وخطفوها فإياك والغفلة فيهما بل وفي غيرهما فإن الغفلة فيها مظنة التلف وقد زرنا الصحابي أبا لبابة الذي هو من الصحابة رضي الله عنه وقد زرناه مرارا وأعلمنا به بعض أصحابنا من الركب فانه من الصحابة قطعا وانه هو هذا إذ ثبت عندهم بالتواتر وهو من أسباب العلم وقد فضلت هذه القرية على سائر القرى بقبر هذا الصحابي.
أقول قال شيخ شيوخنا فيه ما نصه.
نكتة وأبو لبابة هذا من أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ذكره ابن ناجي في اختصار معالم الإيمان وروضات (1) الرضوان في مناقب المشهورين من صلحاء القيروان وهو كتاب مجتمع في سفر والأصل لأبي يزيد الدباغ القيرواني وذكر البلوي في رحلته أنه لقي صاحب هذا التأليف وأثنى عليه وعلى تأليفه هذا وقد أطال في خبره وذكر أن قبره مما تواتر عند أهل بلده وذكر أن من لم يذكره من ألف في أسماء الصحابة وأمكنة وفياتهم فانه لم يبلغه العلم به والتواتر المذكور مقدم على ذلك وكاف في إثبات أن ذلك قبره وقد بنى عليه أمير تونس حمودة بنيانا عظيما أثابه الله على قصده وبإزائه مدرسة بناها محمد باي في غاية الجودة والإتقان والحسن ومسجده كذلك وجعل لهذه المدرسة احباسا ورتب فيها عشرين طالبا يعطي كل واحد منهم ريالا على رأس كل شهر واستأجر فقيها يعلمهم ويصلي الصلوات الخمس بالمسجد المذكور إماما به فالله تعالى يرحمه به ويعفو عنه فلقد خلف ما يذكر عنه من الآثار الحسنة والله تعالى برحمته يبدل لمن يشاء السيئة بالحسنة.
__________________
(1) كذا في الرحلة الناصرية وجميع النسخ.
وأنشدنا هنالك لنفسه صهرنا الأحب أبو العباس البرنسي الشفشاوني عام تسعة :
نزلنا
بقابس فشفينا فيه |
|
غليل
القلب من شوق اصهابة |
وزرنا
به ضريح إمام بر |
|
وبحر
في السخاء أبي لبابه |
هو
البحر المعين لوارديه |
|
فرد
ما شئت من بحر الصحابة |
فايقنّا
بنيل القصد حقا |
|
وصدّقنا
بإسراع الإجابة |
أنلنا
يا إلهي كل خير |
|
وإحسان
وزودنا الإنابة |
وعاملنا
فإنا قد أسأنا |
|
بفضل
لا تغلّق عنا بابه |
وأمددنا
بوافر مالعطايا |
|
أدرّ
علينا من درّ السحابة |
ونوّر
قلبنا وأملاه حبا |
|
وصدقا
ولتزل عنا حجابه |
بلغه الله جميع مراده وجعله من خواص أهل محبته ووداده وأخبرت بأن المدرسة التي يدرس بها سيدي إبراهيم الجمني بجربة هو الذي بناها أيضا وصلينا الظهر عند أبي لبابة والعصر بمنزل الركب وهو آخر البلاد التي فيها ماء واد جار وفيها رحاء ماء غريبة الصنعة إلا أنها تتعطل كثيرا اه ـ.
تتمة فإننا أقمنا يومين في قابس وزرنا أبا لبابة المذكور وزرنا جميع من فيها من الأحياء والأموات واجتمعنا مع بعض فضلائها من طلبة العلم وصلحاء البلد كالمدرس سيدي عمر في المدرسة المذكورة وكذا اجتمعنا مع بعض فضلاء الحمارية (1) وفعلوا معنا خيرا عظيما وهو رد الجمال لأصحابنا ووصيناهم على السعي في رد البغل الذي انتبه العرب من يد بعض أصحابنا بإزاء الركب بين العشاءين جزام الله
__________________
(1) انظر ما قيل في صحيفة 128 وتحت عدد 2 وفي الرحلة العياشية والرحلة الناصرية الحمارنة فتأمل.
أحسن جزاء بمنه وكرمه.
ثم ظعنا منه ونزلنا قرية عرام بعد أن زرنا ما فيها من قبور صلحائها ثم ظعنا منها وسرنا نحو الثلاث مراحل فنزلنا الشيخ الصياح فزرناه ثم منه نحو المرحلتين نزلنا قرب برج الملح فأصاب الركب عطش تلك الليلة فأصبحنا والحمد لله في الزوارة (1) الخالية فسقينا الماء وأوردنا الخيل والبغال والإبل وماؤها عذب حلوا حسن المياه من عرام إليه وكلها خبيثة المياه إلا بئر السلطان فانه أيضا طيب وتلاقينا قبل الصباح بفضلاء أولاد مريم وما أحسنهم من فضلاء وكرماء ولقد كانوا متبعين للسنة جمعوا الخير ووعه وحبهم لنا قوي واعتقادهم فينا سني جعلهم الله أفضل الناس علما وعملا وجاها وحالا وأدام ذلك فيهم إلى يوم القيامة وقد أتوا لنا بشعير ومع ذلك انه مفقود في ذلك الوقت وإنما حملهم على ذلك حبنا وأكرمونا باللحم وما معه من الضيافة [فخف في الركب وهم بعداء منا](2) غير أنهم الحجة الثانية ضيفونا ضيافة عظيمة وذهبوا معنا من طرابلس إلى قابس بل إلى الشيخ سيدي مهذب أنا وجماعتي قد قدمنا مع الركب الفاسي وتخلف في طرابلس إلى انصرام رمضان ونحن أردنا العجلة فذهبوا معنا رضي الله عنهم وجزاهم عنا خيرا بمنه وكرمه.
تتمة فبعد السقي ذهبنا إلى أن خرجنا إلى الزوارة العامرة فنزلنا عند العصر بين السبخة والنبكة ثم منها إلى زواغة (3) وكانت مدينة عظيمة هي أصل طرابلس وبها كان ملكها وطرابلس كانت عامرة بالنصارى ثم انتقلت العمارة إليها بعد انجلاء النصارى منها ثم منها إلى الماية (4) ومررنا على الزاوية الغربية وهي كثيرة النخل قوية
__________________
(1) في نسخة زواوة وفي الرحلة العياشية الزوارات.
(2) هكذا ما بين القوسين في ثلاث نسخ وبإسقاطه في باقي النسخ.
(3) في نسخة زواغ وفي نسختين ازواغ.
(4) كذا في جميع النسخ.
العمارة فيها أفاضل وعلماء وعباد وزهاد معلومة بأهل الصلاح الأحياء والأموات غير أن الركب لم ينزلها وإنما اجتاز عنها فقط ومررنا على زنزور أيضا ثم منه إلى طرابلس وبينها وبين زنزور نحو اثني عشر ميلا والحمد لله أولا وآخرا.
ذكر وصولنا إلى طرابلس
وصلنا في أول شعبان صبيحة وسمع الإخوان بوصولنا وإتياننا فحركهم العزم والشوق إلى ملاقاتنا ومنهم من لقينا عن بعد كالأخ في الله سيدي محمد (1) بن عبد الخالق إذ نزلنا قرب بلاده وأتانا بخروف ضيافة لنا جزاه الله عنا خيرا وأكثر الإخوان إنما أتونا لزنزور كالمحب حقا والأخ في الله صدقا سيدي محمد (2) الشريف البلغيثي النوفلي وجميع أخوانه من الشرفاء وكذا جميع أحبابه كسيدي محمد بن عثمان (3) كاتب الدار الكريمة والشيخ المفتي ابن مقيل وجميع أحبابه وكذا خديم العلم وأهله الذي فاز عن أمثاله قائد عمورة في زنزور خرج إلينا بشوق وعشق يبحث في الركب بحثا شديدا واختلفنا معه في الطريق أنا وسيدي أحمد الطيب وجماعة من الإخوان أخذنا وسط البلد إلى أن خرجنا إلى قرب المنشية ولما تلاقينا مع سيدي محمد الشريف صار يبكي وأنا أبكي بالفرح مع ما فقد فيما مضى من الاجتماع وأما قائد عمورة فقد خرج عن أجناسه من العمال إذ بنى مدرسة عظيمة متقنة ما رأيت أظرف منها وأحسن من صنعتها وجعل فيها بيوتا متعددة ومطهرة طيبة ومسجدا في غاية يستحسنه الناظر وجعل أيضا بيتا للتدريس وغرس النخل الجيد وحبسها على المدرسة وزاد أحباسا عليها عظيمة وحاصل خدمته إنما هي على طلبة القرآن وطلبة العلم بأن جعل معلما للقرآن ومعلما للعلم وهو الفاضل والتقي الكامل تلميذ الشيخ النوراني سيدي إبراهيم الجمني أي الكبير الذي هو تلميذ الشيخ الخرشي وهو نور جربة إذ غالبها خوارج فان الشيخ سيدي إبراهيم شمس الحق في هذه البلدة فقد أفاد واستفيد منه بان نفع الناس شرقا وغربا وجوفا وقبلة وتلميذه المدرس في هذه المدرسة هو سيدي
__________________
(1) في نسخة احمد.
(2) في نسخة احمد.
(3) في نسخة عمار.
عبد الله وقد اجتمعنا معه في هذه المدرسة في الرجعة مع الطلبة والقائد المذكور [والشيخ المفتي ابن مقيل وأصحابه في ضيافة القائد المذكور](1) جزاه الله عنا خيرا وتقبل منه ورزقه التقوى والله يقول إنما يتقبل الله من المتقين.
فإن قلت ما هذا الثناء الذي تثني على صاحبك قائد عمورة فإن هذا الرجل لو كان يبني من ملكه وهو من جملة من يبني المساجد والطرق والقناطر [لكان الثناء عليه في محله](2) والذي يبني به ليس ملكا له شرعا لأنه إنما بناها من مال المسلمين الذي أخذه منهم ظلما وعدوانا لما علمت أن ما عنده إنما هو بطريق الغصب والتوظيف الشرعي مفقود في زماننا هذا فهم كالزانية تزني وتتصدق وقد قال صلى الله عليه وسلم ليتها لم تزن ولم تتصدق الحديث وحينئذ ليتهم لم يبنوا ولم يأخذوا مال المسلمين فما هذا المدح منكم إذ يحرم عليهم فضلا عن الثواب.
قلت قال الشيخ عبد الكريم الزواوي في شرح الوغليسية ما حاصل معناه أن ولاة هذا الزمان إن حصل منهم أفعال الخير المتعددة كالصدقة والهبة والوقف وبناء المساجد والمدارس وغيرها كالإحسان إلى العلماء والطلبة والفقراء هل يحصل لهم الثواب عما فعلوه من الحسنات صورة لإدخالهم السرور على المسلمين وإبقاء أثار فعلهم بعدهم وهو حسنة أولا يثابون لأن ذلك من مال غيرهم بل يحرم عليهم ذلك إذ يجب عليهم رده لأربابه فإعطاؤه لغيرهم تعد آخر فيكون غصبا بعد غصب إذ الوقت وما معه إنما يثمر شرعا بعد حصول الملك قال والحكم في ذلك أنهم يمدحون شرعا من جهة دعوة المسلمين لهم بالخير وذلك غنيمة عظيمة إذ من وصله المعروف منهم يدعو لهم بالخير والرحمة والعفو والغفران فإن استجيب لهم فالله يتولى إعطاء
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسختين.
(2) ما بين القوسين ساقط في ثلاث نسخ.
المظلوم فيما أظلم من عنده يوم القيامة لا سيما إذا تعذر الرد لأربابه لفقدهم أو لجهل أعيانهم فالواجب عليهم حينئذ التصدق به وقد فعلوه فلم يبق عليهم حق يسألون عنه وإما إذا تيسر الرد ببقاء عين المغصوب وتعين المغصوب منه فيجب عليهم رده باتفاق وإذا وقع ونزل وصرفه فيما ذكر فيثاب من جهة وهو توفية (1) عن ربه ويثاب من أخرى وهو تحصيل المنافع لمن حصلت له هذه الأشياء مع اغتنام دعائهم وحصول الميل منهم إليهم اه ـ بالمعنى.
قلت الغالب وجود الوجه الأول وهو تعذر الرد لجهل أربابه وحينئذ يجب شرعا صرفه في مصالح المسلمين فيكون فعل هذا القائد ممدوحا شرعا نعم بقي له أمر لا بد له من فعله وهو أن ينكف عن الأخذ بهذا الوجه من المسلمين رزق الله لنا ولهم الهداية والإنابة بمنه وكرمه.
فإن قلت هل يجوز لمن كان في تلك المدرسة من عالم أو متعلم الأخذ من تلك المدرسة والانتفاع بما فيها وإن كان غنيا كتحصيل الطهارة منها والصلاة فيها لأنها قد وقعت بوجه مباح بل بوجه مطلوب إذ الفاعل لذلك يطلب منه صرف ما أخذه في منافع المسلمين فيجوز حينئذ الأخذ والطهارة والصلاة [لأن ذمته عامرة به فيجب عليه إبراء نفسه من ذلك وما حصل منه يعد كصورة المتسلف](2) أو لا يجوز لعلمهم بأنه مغصوب ومشتريه ووارثه وموهوبه أن علموا كهو فتجري عليه أحكام الغصب.
قلت الحق الجواز من غير شك إذ قال صاحب المدخل أن المدرسة إذا بنيت من مال حرام وجهلت أربابه فيجوز للعالم أن يأخذ منها بوجه العلم انظره فأنت ترى
__________________
(1) كذا في نسخة وفي أربع تفويته.
(2) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
أيها المخاطب أن نصه هذا إنما هو في عين النازلة فهو طوق في عنق ومع ذلك انه لم يجعل كتابه إلا فيما وافق الأثر وبعضهم يجعله أي صاحب المدخل مشددا في الدين لا مترخصا فإذا علمت هذا فاعلم أن ما يحصل من المدارس والمساجد من أحباس الملوك والعمال عليها وكذا ما يعطونه (1) للمدرسين ومن فيه مصالح المسلمين يجوز من غير شك إذ ما جهل أربابه [للعلماء والفقراء ومن فيه نفع الخلائق و](2) ليس طريقه إلا هذا وإما قولهم المشتري وما معه أن علموا كهو فخاص بتعيين المغصوب منه والمغصوب وهذا في غيره وكذلك الدراهم والأموال الموجودة في أيديهم إن جهلت أربابها [سبيلها هو هذا لأن المال إذا جهل ربه](3) يجب وضعه في بيت المال إن كان منتظما فلا أقل حينئذ من كونها للعلماء والفقراء ومن فيه نفع للخلق فلا يحل لمسلم فضلا عن عالم أن يقدح أو يسمع لمن هذا وصفه (4) بأن يقول يأكل الحرام بل هو من الحلال البين لأن الذي يأخذه المدرس أو المتعلم أو غيرهما حلال قطعا لأنه من أعظم وجوهه حسبك صاحب المدخل حجة بينك وبين الله تعالى والذي فيه الخلاف من مال المستغرقين للذمة بأموال المسلمين بان كان ماله حراما كله أو جله أو أقله على ما فيه من الخلاف بين العلماء إنما هو في غير من يأخذه [منهم بوجه العلم أو الفقراء أو النفع للمسلمين وإلا فالذي يأخذه](5) بذلك الوجه جائز من غير خلاف ألا ترى عبد الله بن عمر لم يكن أورع منه ولا أظلم من الحجاج بن يوسف في زمانه إذ كان يتعدى على النفس فضلا عن المال وهو يقبل الهدية منه لوجود الوجه
__________________
(1) في نسخة يقطعونه.
(2) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(3) ما بين القوسين ساقط في نسخة وفيها يجب وضعها.
(4) في نسخة أن يقدح فيمن هذا وصفه.
(5) ما بين القوسين ساقط في نسخة وفي أخرى في غير من يأخذه بذلك الوجه إلا من يأخذه بذلك الوجه فجائز من غير خلاف ألا ترى الخ.
الذي يأخذها به وهو العلم أو النفع للمسلمين انظر الخطاب عند قول خليل لا أن أخذ من العمال أو أكل عندهم بخلاف الخلفاء والمراد بالعمال من ينيبه الخليفة على الجباية فقط وليس له الإعطاء فلا يجوز الأخذ منه ولا الأكل عنده وإلا كان جرحة في شهادته والمراد بالخليفة من أذن له في الأخذ والعطاء فيدخل القواد (1) وسائر العمال فيجوز الأكل عندهم والأخذ منهم وذلك ليس بجرحة وهذا كله في غير من يأخذ ذلك بوجه العلم وما معه كما سبق وإنما نبهت على هذه المسألة لكثرة الجهل من الطلبة فيها فمنهم من يبالغ بالإباحة وهو خطاء ومنهم من يبالغ من التحريم وهو خطاء ومنهم من يجعل الخلاف في كل الناس وهو غفلة وجهل أيضا ومنهم من يجعل الخلاف أيضا فيمن جهل أربابه أو لا وهو أيضا خطاء وإنما المغصوب إذا كان ربه معينا فيجب رده لربه ولا يجوز لأحد أخذه اتفاقا وإذا فوته عن صاحبه وترتبت في ذمته القيمة كذبحه مثلا فهل يجوز لأحد الانتفاع به بأي وجه من وجوه الانتفاع كالأكل وغيره إذ ترتبت القيمة في ذمته وهو ظاهر كلام خليل وكلام ابن ناجي أو يمنع وهو الذي صرح به غير واحد من الفقهاء وبالجملة فالمال المجهول أربابه يجوز للعالم ومن فيه وجه من وجوه الأخذ أخذه والانتفاع به. وأما غيرهم فإن كان من الخليفة لا العمال فيجوز أيضا وأما المعين ربه قبل فواته فيجب رده لربه ولا يجوز لأحد أخذه مطلقا من عالم وغيره وإما أن فات بيد غاصبه بمفوّت مع بقاء العين كطبخه فهل يجوز الانتفاع به أم لا فقد تقدم ما فيه وإما من كان كل ماله حراما أو جله أو أقله في غير ما ذكر من الولاة ففيه الخلاف الذي ذكره التنائي في كبيره وعليه نظمه فإذا أحطت بهذه المسألة علما فليس كل أن تعترض على أحد من العلماء العاملين المشتغلين بإعطاء العلم أو أخذه بأخذهم من ولاة زماننا ما جهل أربابه فنزل قدمك لما تقدم من نص المدخل والخطاب وكذا غيره من المال المختلف فيه فانه
__________________
(1) في نسختين القياد.
لا ينكر على العلماء والفقهاء وأهل السنة إلا ما كان مجمعا عليه فحينئذ علماء مصر في وقتنا هذا أعني المقتدى بهم وكذا شيخنا سيدي عبد الله السوسي وسيدي محمد الغرياني (1) بتونس وغيره من علماء الأمصار والقرى والبادية ممن عرف بالعلم والعمل به ممن يأخذ من الولاة ما يستعين به على نفسه وأهله فجائز لهم أخذه بلا شك كما تقدم النص عليه ومن أراد الإنصاف والانتصاف فقد نقلنا له ما يبني عليه في نفسه ويحمل عليه غيره من العلماء المقتدى بهم فلا يحتاج إلى التأويل (2) لأنه نص صريح في الإباحة وإلا أصابه ما أصاب المعترضين على أهل الله فيخاف عليه سوء الخامة والعياذ بالله وقد علمت عظم الوقيعة فيهم والاعتراض عليهم من غير قصد دواء لهم ولا الشفقة عليهم والرأفة بهم يرد من باب الله وإن كان محقا في اعتراضه قاله الشيخ زروق في قواعده.
انعطاف في الرجوع إلى المقصود من ذكر أحوالنا وإخواننا في طرابلس إذ قد اجتمعنا بعامته وخاصتهم إذ لهم مزيد في المحبة والاعتقاد في أهل الخير والتشبث بهم ولا شك أن هذه خصلة عظيمة شرعا لأن من أحب قوما كان منهم وحشر معم والتحبب لهم ومودتهم لقدر عظيم عند الله ولله رد القائل في قوله :
لي
سادة من عزهم |
|
أقدامهم
فوق الجباه |
إن
لم أكن منهم فلي |
|
في
حبهم عز وجاه |
والمعتقد والمحب كالمحسن إذا لم يقدر على الإحسان لقوله صلى الله عليه وسلم يبلغ المرء بنيته ما لا يبلغه بعمله وبيان هذا الحديث أن المؤمن لو كان يخلد في الدنيا لتمنى بقاء الإيمان معه على الدوام فجزاه الله بالخلود في الجنة وكذا الكافر لو كان
__________________
(1) في نسخة القرفاني وفي نسختين الغرباني.
(2) في نسخة الناس.
يخلد في الدنيا لتمنى بقاء الشرك والكفر معه فيجازى بالخلود في النار جزاء على نيته وأما المحسن فيجازى بالإحسان والله لا يضيع أجر المحسنين وقد قال تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) وقال أيضا (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) وأما المسيء فتكفيه إساءته إذ لا يخلو الإنسان من ضد ولو خاول العزلة في رأس جبل والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ولا بد لكل مؤمن من منافق في جواره يبغضه على إيمانه أو كما قال ذكره الخازن في تفسير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) وقال أيضا صلى الله عليه وسلم لو دخل المؤمن جحر ضب لسلط عليه من يؤذيه لكن أهل الأذية فالله يكفينا شرهم ونقول حسبنا الله ونعم الوكيل منهم وإما المحسنون فالله يشكر فضلهم (1) وعملهم ويجازيهم بأحسن ما صنعوا نعم لم أصل إلى ما اعتقدوه فينا ولا أدعيه إذ الدعوى قد تكون أكثر مما عند الإنسان في نفس الأمر فيكون ذلك قدحا بينه وبين محبوبه وإن أخذ بذلك الوصف كان غشا في دينه كما ذكره الشبراخيتي وغيره قال وإنما يجب أن يبين عند الإعطاء أن هذا الوصف الذي أعطيتني لأجله لم أنصف به في نفس الأمر فإن قال أعطيت لله لا لهذا الوصف فخذه فالله لا يؤاخذه (2) وهو يجازيه عن صنعه وإلا فيجب رده لصاحبه لأنه غش في الدين والنبي صلى الله عليه وسلم يقول من غشنا فليس منا.
وأما أهل الخير والصلاح فلا أستطيع عدهم لكثرتهم جدا لا سيما الساكنون بخارج المدينة وأما من في المدينة فالصادق الملاطف [من يؤثرنا على نفسه جعل الله البكرة فيه وفي ذريته إذ ما أنفقه علينا خير من نفسه](3) أعني الشيخ المفتي سيدي محمد بن مقيل وأصحابه كالفقيه المدرس سيدي عبد العزيز وأولاده وقد أخذوا من
__________________
(1) في نسخة بإسقاط فضلهم.
(2) في ثلاث نسخ يتغير.
(3) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
قلبي مجامعه ولنا ما لهم وعلينا ما عليهم حبا في الله ووالد الشيخ كان صديقا لنا في الحجة الأولى إذ هم محل الفضل والعلم من الزمان القديم نور الله محلهم بنور العلم إلى قيام الساعة وكذا الذكران من أصلابهم فقد أجادوا في احساننا كسوة وإطعاما وشراء ما نحتاجه من الحوائج كان الله لهم وليا ونصيرا أسأله سبحانه أن يدخله حضرته ويحفظه من كل حاسد مع بسط النعم عليه وعلى ذريته إلى غابر الدهر بمنه وكرمه.
ومن أحبابنا حقا صبغة الله العالم العامل الفاضل الفهامة محب السنة وأهلها صاحب اعتقاد في أهل السنة سيدي محمد العربي الفرجاني الشريف النوراني وأصحابه وأولاده على الإطلاق خصوصا العلامة الفاضل الفهامة الكامل سيدي محمد عوض ولدنا أصلح الله حاله وأظهر عليه فضله وكذال على إخوانه وقد سألت الله في غنى أبيهم وغناهم إلى قيام الساعة وتيقنا إن الله أجابنا كان الله في عونهم آمين.
وممن اجتمعت معه من الفقهاء القاضي ومقدم القاضي من الحنفية والفقيه الأجل سيدي عمر السوداني والشيخ الصكلاني وأصحابهما ومن هو أخونا في الله حقا وصدقا ، وكان لنا الود فيه حبا وشوقا ، ونية ورفقا ، صاحب الجد والاجتهاد في الأمور كلها على وفق السنة النبوية ، والحقيقة النورانية ، سيدي حسن السعداوي ، بلغه الله غاية الأماني ، وقد عقدت معه الأخوة بان الناجي يأخذ بيد أخيه رضي الله تعالى عنه ونفعنا به آمين فإنه يعلم الصبيان قلّ مثل في عصرنا من حبه الصدق وأهله ، وما أحسن نصحا وديانة وصدقا وزهدا ، ما كان فيه ، ظهر على فيه ، يعلوه نور ومع ذلك أنه ارئق ، في العلوم والدقائق ، بلغ الله أماله ، وتعلم حاله من كلامه ، وصدقه من جده واجتهاده ، رضي الله عنه وارضاه.
وكذا من أحبابنا الشيخ مصطفى الخطيب إذا رقم (1) أحسن ، وإذا تكلم بين وأعلن ، [ومن السعادة الغوث الحسن](2) ، وحاصله قد تعلق بنا ، جميع الفضلاء في المدينة من لم يحسن إلينا ، أحسن ظنه فينا ، اللهم قابل الجميع بالخير والفضل والرضى ، واغفر لنا ولهم ما سلف ومضى ، وأصلح حالنا استقبالا بما يرتضى ، بمنك وكرمك.
تتمة في الانعطاف إلى ما كان خارج المدينة منهم سويداء القلب وخلوص الود الذي هو أولى من نفسي ، أتذكره في كل نفسي ، أحيي باجتماعه ، وأموت بافتراقه ، وروحي روحه ، وجبحي جبحه (3) ، وهو أولى من نفسي ، تغمدني الله وإياه برحمته في رمسه ورمسي ، ذو الفتح الرباني ، والفهم الرحماني ، سيدي محمد الشريف النوارني ، جعل الله الفضل والعلم والولاية والغنى والزهد والكفاف والعفاف في ذريته وقرابته إلى غابر الدهر آمين وفضائله وأحواله الطبية وأعماله الحسنة ومقاصده الزكية لا تحصى ذو طب للقلوب ، بفتح من علام الغيوب ، جمع الله بيننا وبينه بالانتفاع ، ولا جعل ما وقع من الفراق آخر وداع ، بجاه من فضل بالاقتفاء والإتباع ، هذا وإن يدنا ويده في ماله سواء ، وأولادي وأولاده وعيال الجميع على حد الاستواء ، ومن تعلق بي وبه من قريب وحبيب وصديق وشيخ وأخ في الله وأحد رضي الله عنه وسدده ، وعلى الخير والطاعة أعانه وبالفتح والنصر أمده ، آمين ، قد أحسن الإحسان التام إلينا ، وأجرى ما لا عين رأت من الكرم لدينا ، ولكنه أحسن إلى نفسه إذ أنا نفسه وهو نفسي حاصله العبارة تقصر عما بيني وبينه من الحب والمودة فالإيجاز أولى ، والاختصار أعلى ، والتقصير أحلى ، إذ الإطناب ، بين الأحباب ، ضباب
__________________
(1) في نسخة إذ لم أر أحسن منه.
(2) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(3) في نسخة ومهجتي مهجته.
وسحاب ، وبالجملة فكل من يحبه يحبنا ، ومن قرب إليه بالدم قريب إلينا ، وصهره صهر لنا ، وأولاده كذلك فماله لنا ، وما عليه علينا ، رزق الله الجميع الصدق مع الحق ، ومع الخلق ، بمنه وكرمه وكذا أولاد الشيخ المعز سيدي محمد وسيدي أحمد وسيدي عبد الله وأحبابه وأصهاره وقرابته كلهم من النفس من أحباب الجميع وسيدي محمد ابن عزوز وإخوانه وسيدي إبراهيم وإخوانه وسيدي سلامة وأصحابه وسيدي أحمد بن إبراهيم ومن انتمى إليه وسيدي عبد الرحمان ومن تشبث به وسيدي عبد الله أمام الجمعة عندهم وأخوه سيدي أحمد الشريف وأولاده وسيدي محمد أخوه وسيدي أبو بكر وغيرهم من الشرفاء كأولاد عمه سيدي علي كلهم منا وإلينا ومن الفقهاء سيدي عبد النور فهو فقيه فاضل عالم نظم قصيدة في علم التوحيد لا بأس بها وأن يسر الله على اشرحها وأولاد الشيخ سيدي الصيد الولي الصالح والبدر الواضح وأولاده لا سيما من هو كبير السن عظيم الشأن سيدي عبد اللطيف وولده سيدي علي رحمه الله وسيدي الصيد وولد ولده سيدي أحمد وأولاد أعمامه جملة وتفصيلا إذ طبعت على حبهم وحب من يحبهم وأولاد الشيخ سيدي محمد بن سعيد وأولاد المرغني وأولاد الشيخ ابن جابر وكل من هو من أهل الفضل في الهنشير والساحل المنشية ولو زرناه مرة واحدة أو زارنا كذلك فهو منا سواء عينت اسمه أم لا وكذا أولاد الشيخ النعاس سيدي محمد وأولاد أخيه سيدي عبد الرحمان وسيدي إبراهيم وولده وطلبة محلهم على العموم من ذهب أو بقي ومن إخواننا حقا سيدي محمد بن عبد الخالق وأعمامه وقرابته فإنهم منا ونحن منهم وبالجملة فمن اجتمعنا معه ولو ساعة حبا في الله فهو له ما لنا وعليه ما علينا ولنا نصيب منه سواء سميناه أم لا إذ من تحقق بحالة لا يخلو الحاضرون منها نفعنا الله بهم وبإسلافهم بمنه وكرمه وبالجملة فأحبابنا كثيرون جعل الله الحب لأجله.
وأما الحجة الأولى فقد أدركنا فيها محقق الصلاح ، وصاحب النجاح ، نجم
الصباح ، ذا الأرباح ، صاحب الورع والعلم الصحيح ، والزهد والدواء لإخوانه ممن هو بالحب جريح ، العالم في كل المذاهب ، الذي طاعت وانقادتا له المواهب ، سيدي محمد المعزي (1) ومثله في الفقه سيدي محمد النعاس وكذا من البله سيدي عبد الخالق وكذا الذي هو تلميذ الشيخ سيدي محمد بن سعيد وهو الذي أعطى له كتابا مزبورا بالتركية وقال أقرأه فأخذه فقرأه وسمعت منه أنه قال لي من حينئذ أقرأ مكتوب التركي نفعنا الله بهم وبأمثالهم آمين وسيدي محمد المعزي (2) أظنه كل عرفة يحج من بيته رضي الله عنه وأرضاه وقد استفدنا منه إفادة عظيمة ولقد علمت أنه طيب الدين والدنيا لا يغادر شيئا إلا عرف سببه وطبه فمن جلس معه عرف أحكام الشريعة وأوصاف الحقيقة وما يخصه في أمر دينه ودنياه وحاله ووارده ومقامه حاصله يغترف من بحر الله فحدث عنه ولا حرج وكيف لا وشيخه الشيخ ابن سعيد إذ هو سلطان العارفين ، وملاك زمام السالكين ، ومربي المريدين ، والآخذ بيد المجذوبين ، إذ قيل عنه انه يسبغ في لمحة وأصحابه كلهم قد ظهر عليهم فضل الله لا سيما المعارف الإلهية ، والمواهب الربانية ، واللطائف الرحمانية ، وقد رأيت بعض كلامه في التوحيد الخاص وكذا تجريد التوحيد وتفريده يظاهي كلام الشيخ عبد القادر الجيلاني وكلام عبد الكريم منه أيضا وإنما يأتيه الكلام عند ورود الوجد عليه ، والحال لديه ، فيكتبه أصحابه نفعنا الله به وبأصحابه وأفاض علينا من بركاته آمين والحمد لله على زيارته وزيارة معاصرة الشيخ المرغني والشيخ الصيد والسيد ابن جابر بالنية والمحبة وكلهم متعاصرون أفاض الله علينا من بركاتهم آمين.
وكذا زرت من كان بالمدينة كسيدي عبد الوهاب وسيدي درغوث الذي اخذ المدينة من أيدي النصارى حاصله من ثبتت له عناية إلهية حيا أو ميتا فيها فقد زرناه
__________________
(1) في نسخة المعربي.
(2) في نسخة المعربي.
فعلا أو نية اللهم بجاه من دخلها من أول عمارتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين أن تجعلني وأولادي وأزواجي وإخواني وطلبتي وأحبائي محبوبين عندك ، وعند رسولك وأوليائك ، ومحبين من غير محنة ، ولا مشقة ولا فضيحة ، ولا تسلط علينا جبارا عنيدا ، ولا أحدا من عبادك ولا شيطانا مريدا ، ولا نفسا متعدية علينا ، يا أرحم الراحمين ، يا حي يا قيوم برحمتك استغيث آمين يا رب العالمين.
تنبيه إنما نذكر من ذكر من الإخوان والمحبين وبيان أوصافهم ليتحقق السامع بأحوالهم ويتصف بأوصافهم والأقل أن تحضر عنده بركاتهم وأما ذكر أوصاف الطريق وبيان المواضع فان فيه اعتبارا ودلالة على أثار قدرة الله تعالى وتسخير الأكوان لنا والتنقل من حالة لحالة ليترقى بذلك صاحب السلوك إذ هذه الطريق أشبه شيء بطريق الآخرة فمنها يعرف الترقي في مقامات الله تعالى حتى يتحقق بحضرته ويكون في دائرته وناهيك بشيء يكون سببا للوصول إلى مرضاته وفيه أيضا التصبر والتسلي والتأسي بهذه الأفاضل في طريقهم إلى الحج ولا شيء أعظم من هذه لأن من رأى أحوالهم في الطريق ومعاملتهم في البيع والشراء والهبة والصدقة والضيافة وزيارة الإخوان والقيام بحقوقهم ووضع الأمانة وتولي الشراء والبيع بنفسه أو بائعه منهم أو من غيرهم يتحقق به الناظر والسامع بذلك أيضا فيقوي نوره ويتسع مدده لأن أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم سارية في أحبابه وقائم مثلها فيهم وكما تخلفوا بخلفه صلى الله عليه وسلم انتدب الكلام عليهم إذ ذكر أوصافهم ذكر لأوصافه وقد علمت ما في ذكره صلى الله عليه وسلم من الثواب وذكره صلى الله عليه وسلم ذكر لله ولذكر الله أكبر وأما ذكر طريق الحج فهو كذكر الطريق الموصلة إلى الله قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني فلا يقال أن ذكر هذا ذكر لما لا يعني أولا فائدة فيه فنقول هذا ذكر الله تعالى كما سبق فإن قلت سلمنا ذكر ما ذكر فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وذكره ذكر الله تعالى فما أحسن
بيته وما أحسن ذكر الطريق الموصلة إليه كالطرق الموصلة إلى رب البيت [فاعلم هذا فانه لم يهمل على شيء](1) وشرف العلم بشرف معلومه ولم يكن شيء أعز من بيت الله تعالى ولا شيء أعظم منه ولا أعظم من الطريق الموصلة إليه وأما ذكر المدن والقرى وبيان أوصافها وذكر الفلوات والصحاري والأنهار والعيون وحسن بناء المدن والأسوار والحوانيت والأسواق والأزقة والمساجد واتقانها والصوامع وأوصاف ما ذكر وملاقاة الرفاق والرجال من عامة المؤمنين وبيع الحوائج وشرائها في خاصة نفسه إذ لا فائدة تعود إلى غيره إذ هذه الأمور خاصة بمؤلف الرحلة فلا نفع فيها يتعدى لغيره من العلم أو المصالح لتجتلب أو المضار لتجتنب فذكرها عبث وهؤلاء المؤلفون مصونون عن العبث إذ مقامهم يتحاشى عن ذلك ولأنهم مشرعون والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أحواله للتشريع إذ هو بشر لا كالبشر فذكر أحواله من بيع وشراء ونزول وصعود وهبوط وشرب من بئر فلان ودخول بيت لفلان وصفة مسجده وبيته ودابته ولباسه ومأكله ومشربه وغير ذلك علم يفيد مصلحة أي مصلحة وأما هؤلاء فليس كذلك قلت نعم الأمر كما ذكرت لكن اتفق أهل الرحلة على ذكر ذلك قديما وحديثا فحينئذ لا يخلو عن فائدة بينة أما ما كان في خاصة نفسه إن كان خيرا فكذا مثله أن وقع بك فتشكر الله تعالى ليزيدك المعونة والخير لقوله تعالى ولئن شكرتم لأزيدنكم وإن كان مصيبة وامتحانا واختبارا فتتسلى به وتصبر كما صبر أولو العزم من الرسل فيسهل عليك حمل أعباء المصائب والله يقول إن الله مع الصابرين ولقوله أيضا (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) الآية وأما ذكر أوصاف المدن والقرى فلا اعتبار وقد قال بعض العلماء إنما سكن الأكابر الأمصار لتذكر آيات الله والاعتبار وحينئذ فمن لم يرها حصل له ذلك بسماع أوصافها وقد علمت أن تفكر ساعة خير
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
من عبادة كذا وكذا سنة كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم وكفى بهذا شرفا وفضلا وأما ذكر بيع حاجة كقوله بعت جملاا ، ودعته وغير ذلك من الأخبار بما يخصه فلان تعلم أن الفضل والشرف ليس بترك الأسباب وإن التوكل لا ينافي ذلك لقوله تعالى (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) ولم يقل رجال لا يتجرون ولا يبيعون وأيضا الفاضل لا يقف عن خدمة نفسه ودابته وضيفه وشيخه وأهل الخير والصلاح بل الشرف ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتولى ذلك بنفسه فكيف بغيره فصاحب الرحلة حين أخبرك بأنه فعل كذا كأنه قال لك السنة في هذا الطرق فعله إذ التوكل في القلب وهو لا ينافي الأسباب بل فعلها يقويه ويؤيده لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم المتوكلين فانه يبيع ويشتري ويأخذ الزاد ويلاقي الرفاق ويصحب الرفقة وينزل على الماء ويتزود منه وأخبار صاحب الرحلة بأنه فعل ذلك ليقتدي به كما اقتدى هو به صلى الله عليه وسلم وقد قال الإمام الشافعي الشريف لا يأنف من ثلاث خدمته لنفسه ولدابته ولضيفه كما ذكره الشعراوي فإذا علمت هذا علمت أن ذكر ذلك ذكر لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وكفى بذلك فائدة وشرفا لهذا اللم فلا يحل لامرئ مسلم أن يقول تأليف هذا من العبث إذ هو الطريق وبيانها كبيان الطريق الموصلة إلى الله تعالى لأنها توصل إلى بيته بل توصل إلى رضاه وأي علم أشرف من هذا العلم وفائدته ظاهرة هذا وأن علم أمور الرحلة وبعض علم التاريخ يرجع إلى علم سيره صلى الله عليه وسلم فاعلم هذا فان فيه فضلا عظيما وأيضا النفس إذا علمت الطريق اشتاقت إلى الذهاب إلى بيت الله الحرام وأيضا معرفة الاستطاعة وعدمها إنما تكون ببيان المراحل وصعب الأماكن وسهلها وبيان المسافة بين المطاعن وبيان العذب منها وغيره ليعرف ما يتزود من الماء وقدر ما يعرفه من الأحمال وكل ذلك يحتاج فيه إلى تصور الطريق بالتفصيل ليعرف الإنسان حصول الاستطاعة لنفسه فيجب عليه أو عدمها فلا لأن الحكم
بالاستطاعة فرع التصور للطريق فاحتيج إلى بيان الرحلة فان قلت كتاب واحد يكفي قلت لأن الزمان والمكان يتغير فاحتيج إلى التعدد وأما بيان الأشجار ليستعد الإنسان إلى الشراء من وطنها لأن كثرته توجب كثرة الثمرة وكثرتها توجب رخاء الأسعار فينبغي للإنسان كثرة التزود منه ومثله القلة في الضد وأما غير الثمر فبيانه لاحتياج الدواب إليه فكل ذلك فيه إعانة للحاج والله يقول : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) الآية وبالجملة فهذا العلم شرف لشرف معلومه فالمنصف يظهر له الحق بأول إشارة والمعاند لو ملأت له الأرض حججا ما قبلها.
وإذا
البينات لم تغن شيئا |
|
فالتماس
الهدى بهن عناء |
تتمة وممن أقبل إلينا ووفق لمحبتنا الأجل الأعظم الحليم المشفق ذو الأخلاق الطيبة والطبائع السنية ودفع السيئة بالحسنة لقوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(1)(فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) وكذا كفاه الله مئونة أعدائه من غير حرب ولا عسكر ولما اجتمعت معه قلت له امتثل الخير ولو من عدوك ، ولا تقبل الشر لو من صديقك ، وقلت له أيضا المحسن يجازي الإحسان ، والمسيء تكفيه إساءته ، زاده الله عقلا وعلما وحلما وصبرا (2) وهداية ورعاية حسنة وأن يخلد الولاية في ذريته إلى قيام الساعة مع العدل والحلم حسبما فيه غيره من أهل العدل والإحسان والرحمة للأمة المحمدية وذلك سيدي علي باشا نجل الوالي محمد باشا نجل الوالي أحمد باشا وفي الحجة الأولى أدركت جده وفي الثانية أدركت أباه في الطلعة وفي الرجعة أدركته هو جعل الله عاقبته خيرا من أوله وأصلح حضرته لأن قلب الأمير على قلوب قواعده وصلاحه بصلاحهم وفساده بفسادهم لأنه لا يخرج عن دار الملك حتى يتبين له المحسن من المسيء والصديق من العدو والطائع من العاصي
__________________
(1) في نسخة أحسن السيئة.
(2) في نسخة وعلما وجبرا ونصرا.
وهلاك الخلق إنما هو بهم فكان حقا عليه أن لا يقبل الشر من أحد إلا إذا حصل له العلم بذلك وإلا كان كرة في أيديهم فيهلكون به من شاءوا من عباد الله من غير موجب شرعي نعم العاقل من عقل عن الله ما يفعل إذا علمت هذا علمت أن الأمور نسبية الأمثال فالأمثل وإلا فأن نظر إلى العصر الأول فتجد أهل الطاعة منا كأهل المعاصي منهم غير أنك إذا نسبت من كان من أهل الزمان الأول والزمان الأتي إلى زماننا هذا فتجده أولى من غيره والأمر اعتباري وإلا فالظلم قد عم والجهل قد انتشر والبدعة قد صارت سنة والسنة قد صارت بدعة والحكم لله الواحد القهار ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العلمين فيالله وتالله مثلي لا يصلح بهم ولا للاجتماع معهم إذ لا دين لنا نتحصن به وأما هذا الرجل ومثله في محل الرفعة والتعظيم أن تعلق بمثلنا فيربح قطعا إذ من خذل من الأمراء لا يلتفت إلى أهل الخير بل يعدونهم كالهباء المنثور الحمد له على مثله فالله يحفظنا وإياه من كل حسود وأذاقه ما أذاق أصفياءه لأنه على كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير ، يؤتي الملك من يشاء بالتصريف ، ويعز من يشاء بالتعريف ، ويذل من يشاء بالتسويف ، بيديه الخير من غير وجوب ولا إيجاب ولا تخويف.
تنبيه آخر قال شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر ما نصه فائدة قال الشيخ محمد بن علي شارخ الشقراطسية ناقلا عن البكري ويذكر أن تفسير طرابلس بالعجمية ثلاث مدن قال وعلى مدينة طرابلس سور ضخم جليل البناء وهو على شاطئ البحر وبها أسواق حافلة وحمامات كثيرة فاضلة وفيها رباطات كثيرة يأوي إليها الصالحون ومرساها مأمون من أكثر الرياح ومدينة طرابلس كثيرة الثمار والخيرات وبها بساتين جليلة في شرقيها ويتصل بالمدينة سبخة كبيرة يرفع منها الملح الكثير ومن طرابلس إلى جبل نفوسه ثلاثة أيام وذكر الليث ابن سعد قال غزا عمرو بن العاص مدينة طرابلس سنة ثلاث وعشرين حتى نزل القبة على الشرف من شرقيها فحاصرها
شهرا لا يقدر منهم على شيء فخرج رجل من بني مدلج ذات يوم من عسكر عمرو يتصيد في سبعة نفر فمضوا غربي المدينة فاشتد عليهم الحر فأخذوا راجعين على ضفة البحر وكان البحر لا صقا بالمدينة ولم يكن بين البحر والمدينة سور وكانت سفن البحر شارعة في مرساها إلى بيوتهم فنظر المدلجي وأصحابه فإذا البحر قد غاص من ناجية المدينة فدخلوا منه حتى أتوا من ناحية الكنيسة فكبروا فلم يكن للروم مفزع إلا إلى سفنهم وأقبل عمرو بجيوشه حتى دخل عليهم فلم يفلت الروم إلا بما خف عليهم في مراكبهم وغنم عمرو ما كان بالمدينة وسور المدينة مما يلي البحر غير أصل إنما بناه هرثمة بن أعين في حين ولايته القيروان وبعث عمرو بن العاص إلى ودان بشر بن أرطأة وهو محاصر طرابلس فافتتحها وذلك سنة ثلاث وعشرين وأكثر معيشة أهل ودان التمر ولهم زرع يسقونه بالنضح وافتتح عمرو بن العاص نفوسة وكانوا نصارى وأم قرى جبل نفوسة شروين مدينة كبيرة آهلة جليلة وبين طرابلس ومدينة شروين خمسة أيام وبينهما حصن لبدة من بنيان الأوائل بالأجر والحجر حوله آثار عجيبة وخرائبي كثيرة يسكن هذا الحصن قوم من المغرب حماتهم نحو الألف فارس وهم محاربون لجميع من يحاربهم من قبائل البربر أزيد من عشرين ألفا بين راجل وفارس وظاهرون عليهم وفي وسط جبل نفوسة النخيل والزيتون الكثير والفواكه ويجتمع فيما حوله من القبائل ستة عشر ألف رجل وطول جبل نفوسة من المشرق إلى المغرب ستة أيام اه ـ كلامه مع بعض اختصار وتغيير وفي رحلة أبي سالم العياشي وهي مدينة مساحتها صغيرة ، وخيراتها كثيرة ، ونكايتها للعدو شهيرة ، ومآثرها جليلة ، ومعائبها قليلة ، أنيقة البناء ، فسيحة الفناء ، عالية الأسوار ، متناسبة الأدوار ، واسعة طريقها ، سهل طروقها ، إلى ما جمع لأهلها من زكاء الأوصاف ، وجميل الإنصاف ، وسماحة على المعتاد زائدة ، وعلى المتعاقبين بأنواع المبرة عائدة ، لا تكاد تسمع من واحد من أهلها لغوا إلا سلاما ، ولو لمن استحق ملاما ، لا سيما مع
الحجاج الواردين ، ومن انتسب إلى الخير من الفقراء العابدين ، فإنهم يبالغون في إكرامهم ، ولا يألون جهدا في أفضالهم عليهم وأنعامهم ، ولهذه المدينة بابان باب إلى البر وباب إلى البحر لأن البحر يحيط بكثير من جهاتها والحصن الذي فيه الأمير متصل بالمدينة من ناحية باب البر بينه وبين البحر ولأمير هذه المدينة نكاية للعدو دمرهم الله ولو مراكب قل نظيرها معدة للجهاد في البحر فلما تسافر وترجع بلا غنيمة وفلما أسرت لهم سفينة إلا أن تكون من سفن التجارة لا من سفن الجهاد فجزاهم الله خيرا وأعانهم على ما أولاهم من ذلك وسائر بلاد المسلمين أجمعين.
قال وكان عادة الركب إذا نزل هذه المدينة لا سيما في الذهاب أن يقيموا بها نحوا من شهر يستعدون فيها لدخول المفازة التي قل نظيرها وهي مفازة برقة ومن هذه المدينة يشتري الحجاج ما يحتاجون من الإبل والقرب الخ ما حاصل معناه أن الركب كان يمشي مشيا رويدا لأن مقصودهم الحج والشوق لتك الأماكن ويشفقون على الضعيف فالآن والعياذ بالله صارت حالة الركب تجارة فمسيرة شهرين صارت أربعين يوما غبطة لحصول الحوايج الدنيوية حتى انقطعت الصعاليك عن المشي أنا لله وأنا إليه راجعون.
وأما الإبل فأبل هذه البلدة أجود من غيرها لأنها ألفت العمل والخدمة الكثيرة وأنهم يستعملونها في كبير الأعمال حتى الحراثة والدراسة والرحي فتمرنت بذلك على المشاق العظيمة مع طبيب هواء البلد وقد قيل إن هواء الدنيا كلها في هواء هذه البلدة مع صفاء مرعاها فيقل حينئذ فيها الغش وتندر أمراضها وقد قيل للحجاج عليكم بجمال طرابلسية وقربة مصرية لأن قرب هذا البلد ردية الدباغ وماؤها خبيث المساغ ومع ذلك لا تمسك الماء إلا كما يمسكه الغربال ومع ذلك يحتاج صاحبها إلى كثير منها بل قد تؤديه إلى العطب والتلف في بعض المفاوز لكونها تضيع الماء
برشحها كثيرا. ثم قال وهذه المدينة قد شاهد أهلها بركة الحجاج والمجاهدين في أمر معاشهم فربما اجتمع فيها من الركبان الذاهبين والائبين خمسة أو ستة ويصادف ذلك في كثير من الأحيان خروج عسكر البحر للجهاد ومع ذلك لا يزيد فيها السعر على ما كان في كل مطعوم بل ربما نقص في الغالب مع أن البلد في كثير أحواله معروف بغلاء الأسعار بالنسبة إلى أرياف النيل وسواحل المغرب وجباله إلى أن أهلها مستكفون بها غاية وراضون بها نهاية وهي جديرة بذلك إذا اجتمع الأركاب فيها كثير الزحام على الأراحي غاية فيلاقي الحجاج من ذلك مشقة ولو لا ما جبل عليها أهلها من السماحة وحسن الخلق لما تهيأ للحجاج اتخاذ الزاد منها لصغرها وكثرة الواردين لا سيما من لم تطل أقامته اه ـ قلت ركبنا لم تطل إقامته في هذه السنة وإنما أقمنا بها نحو العشرة أيام وذلك شأن الأركاب في هذا الزمان لأن الناس يستصحبون معهم الزاد فلا يحتاجون إلا إلى ما قل وقد ذكر شيخ شيوخنا المذكور أنه بعد استقرار المنزل به ذهب لزيارة شيخه الفاضل مفتي البلد سيدي محمد بن أحمد بن مساهل رضي الله تعالى عنه قد استعفى عن الفتوى في آخر عمره وتبتل للعبادة وتدريس العلم مع ملازمة كتب الوعظ والتذكير وله مشاركة في العلوم ملازم التدريس وله سيمة حسنة وحالة مرضية بأن قال ما رأينا سيمة حسنة أولى منه ولا أصدق قولا ولا فعلا منهم وله باع في المطالعة وانقال في المذهب وكان منقطعا عن الاشتغال والتكاليف بحيث لا يفتر عن إقراء العلم صباحا ومساء وصيفا وشتاء بمعنى أنه يديم القراءة وقد اشتغل بالفتوى نحو الأربعين سنة ومع ذلك حمدت سيرته وقد أخذ طريقته عن الولي بلا نزاع بين تلك البقاع سيدي محمد الصيد رضي الله عنه والصيد في لغتهم الأسد وسمي بذلك لكثرة ردعه للظلام وقهره للجبابرة وهو أخذ عن سيدي عيسى بن محمد التلمساني المشهور بأبي معزة وهو أخذ عن الولي الكبير والعلم الشهير سيدي أبي عمرو القسطلاني المراكشي وكان هذا الشيخ
رضي الله عنه لا يجترئ أحد على معارضته فيما أمر به ولا يتعرض لمن انتسب إليه وظهرت له كرامات وقد ظهر فضله بسبب شيخه سيدي عيسى المذكور ولذا لم يزل ولده سيدي عبد الحفيظ يبالغ في تعظيم أولاد سيدي أبي عمرو بل في تعظيم كل من انتمى إليهم بقرابة أو خدمة أو جوار أو غير ذلك وقال ولقد أخبرني من حضره ذات يوم وقد غسل سيدي محمد بن أبي القاسم من أولاد سيدي أبي القاسم يده صباحا ورأسه من حناء كان بها في إنائه فأخذ سيدي عبد الحفيظ ما اجتمع من الغسالة في ذلك الإناء وشربه نفعه الله بحسن اعتقاده ولهذا السيد مزيد اعتقاد في كل من ينتسب إلى الصلاح وقد نفعه الله بذلك فطار صيته وانتشر ذكره في البلاد أكثر من أبيه وهابه الولاة فمن دونهم كما قيل له دنيا عريضة من كل المال قد أتاه نعما وحرثا وغيرهما يطعم منهما الواردين ويواسي المحتاجين أعانه الله على ما به تولاه ورزقه الشكر على ما أولاه وتوفي أبوه سيدي الصيد سنة خمسين وألف (1050) وقال أيضا لقد أخبرني محمد بن مساهل المذكور بان قال منذ عرفت الشيخ سيدي الصيد ما تركت جمعة في مسجده نحو أربعين سنة آنية ضحى وأصلي الجمعة وأرجع إلى المدينة إلا لعذر ظاهر وأبقى في مسجده إلى أن أصلي العصر في محلي المسمى بالهنشير وبينه وبين المدينة ستة أميال.
لطيفة قال أخبرني أيضا شيخنا هذا أن شيخه المذكور قال أن لأهل الله مراغة كمراغة الإبل لا يمر بها أحد منهم إلا تمرغ بها وأني لأرجو أن يجعلك الله مراغة لأوليائه ولأجل دعوة هذا الشيخ لا يدخل أحد هذه المدينة ممن فيه انتساب لهذا الطريق المبارك إلا كان أيواؤه إلى هذا الشيخ أما بالنزول عنده أو بالتردد إليه وكان رضي الله عنه يقوم بحوائجهم قدر الإمكان ويواسيهم نفعه الله بقصده الجميل.
نادرة قال وأخبرني شيخنا ابن مساهل عن بعض مشائخه أنه قال إذا أذن خلف
مسافر فذلك أمان له حتى يرجع من سفره وروى لنا في ذلك حديثا وقد فعل لنا ذلك رضي الله عنه حين ودعنا خارج داره فرأينا بركته والحمد لله اه ـ.
أقول لطيفة وكذا إذا قرأ وراء المسافر قوله :
وحيث
اتجهت صادفتك عناية |
|
وينصرك
الرحمان من كل جانب |
رجع سالما بإذن الله تعالى وقائله هو جبريل عليه السلام إذ قرأه وراء النبي صلى الله عليه وسلم حكاه الخفاجي في شرح الشفاء قال ما قرئ وراء مسافر إلا رجع سالما.
ثم قال غربية أخبرني أيضا أن سيدي علي بن الخضر العمروسي ذكره في شرحه على المختصر أن الزباد المسمى في عرف غربنا بالغالية نجس وإن كان عرق حي لمروره بمحل البول قال وكان بعض الصالحين لا يتطيب به لذلك وأظنه الشيخ اللقاني قال شيخنا وكنت أتوهم ذلك إلى أن بعث بحضرة سيدي عبد الحفيظ إلى فطاط من الفطوط التي يستخرج منها الزباد وكان عند بعض الأتراك فلما أحضر أمرنا متولي استخراج الزباد منه باستخراجه بحضرتنا ففعل فشاهدنا محل اجتماع ذلك منه خارجا عن محل البول لا يمر به أصلا وإنما هو جليدة رقيقة عن يمين المحل أو يساره يجتمع فيه ذلك العرق وتشتد عليه وتنطوي حتى يؤخذ منها قال فحينئذ أطمأنت نفوسنا وأيقنا بطهارته.
قلت وفي شرح المختصر للشيخ بعد الباقي الزباد كالمسك لخروجه من غير
مخرج البول والروث ولا يصل إلى محل خروج بوله ولا روثه كما أخبرني به مسلم ثقة في ذلك كذا قال الأجهوري في كبيره ومن خطه نقلت فيكون طاهرا وبه أفتى الشيخ سالم بعد التوقف حتى أخبره من له به معرفة وكذا له كما للأجهوري وهو خلاف من هذه الأماكن بملعقة صغيرة أو بدرهم رقيق اه ـ واقتصر صاحب القاموس على ما نصه وغلط الفقهاء واللغويون في قولهم الزباد دابة يجلب منها الطيب وإنما الدابة السنور والزباد الطيب وهو رشح يجتمع تحت ذنبها على المخرج فتمسك الدابة وتمنع الاضطراب ويسلت ذلك الوسخ المجتمع هنا بليطة أو بخرقة انتهى كلام الزرقاني بزيادة.
قلت ويؤيد ما للرزقاني ما عاينه الشيخ ابن مساهل المذكور مع من معه فلا يرتاب في طهارته إذا لبعده عن محل النجاسة لانطواء تلك الجلدة واشتدادها عليه بعد اجتماعه حتى يؤخذ منها.
ثم قال غريبة أخبرني الشيخ سيدي محمد بن مساهل سنة أربع وستين في الرحلة التي قبل هذه أنهم سمعوا في سنة اثنتين وستين وألف (1062) صوتا هائلا في ناحية البحر كصوت المدافع الكبار من قرب الضحى إلى الليل قال وظنناه سفنا للمسلمين تلاقت مع بعض السفن للنصارى وكما سمعنا ذلك الصوت سمعه أهل هذا الساحل إلى مراتة وسمعه حتى أهل فزان والإسكندرية وسمعه من الناحية الغربية أهل جربة وسوسة وتونس وكل يظن أنه قريب منه وبعد شهر أو شهرين قدمت مراكب من بر الترك وأخبروا أن ذلك الصوت لأمر هائل وذلك أن جزيرة من الجزائر خرجت في بعض نواحيها حجارة تطلع من البحر حتى إذا ارتفعت على الماء وعلت في الهواء تصدعت فيخرج منها نار ويسمع لها ذلك الصوت فإذا خرجت
النار وقعت الحجارة على الماء خفيفة كهيئة الجفافة ودام ذلك إلى الليل وارتفع من ذلك الجو دخان كثير فيه رائحة الكبريت وأعجب من هذا انهم قالوا أنه أصبح في ذلك البلد كل ما عندهم من الفضة نحاسا في تلك الليلة والله أعلم بغيبه قال وهذه المدينة معروفة بأهل الصدق في الأحوال من المجاذيب وقد أدركنا بها رجلين أو ثلاثة من المجاذيب تؤثر عليهم كرامات وحكايات غريبة تدل على صدقهم في مواجدهم وكانت فيما مضى فيها مزارات كثيرة لكثير من أكابر الصالحين ولا يعرف منهم الآن إلا القليل كسيدي سالم المشاط صاحب المسجد الجامع الذي بأقصى المدينة وقبره يزار.
قال وسبب خفاء كثير من قبور الصالحين المدفونين أن البلد تداولته أيدي المسلمين والنصارى مرارا عديدة فقد ذكر ابن بطوطة في رحلته أن النصارى استولوا عليها في أيام السلطان أبي عنان وافتداها منهم بخمسة قناطير من الذهب العين فعد ذلك من مآثرة انتهى قال وقد استولى عليها النصارى أيضا في القرن العاشر.
قلت وفي رحلتنا للحرمين الشريفين سنة ست وتسعين وألف (1096) حاصرها الكفار دمرهم الله تدميرا وذلك أن يوم نزولنا بها بمنزل الركب بسق البحر إذا بسفن ثلاث ظهرت على متن البحر ثم تتابعت الفك في اليوم نفسه إلى أن كملت اثنتين وعشرين سفينة فأقاموا عليها دمرهم الله بقية الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة وأهل المدينة في تلك المدة في هول عظيم ونكد جسيم وعناء شديد وليس فيهم مدبر ولا ذو رأي حميد أو نظر سديد بل أخذوا في نقل أمتعتهم من المدينة لخارجها وحريمهم إلى سوانيهم بالمنشية ولما رأينا ذلك تكلمنا مع وجوههم على فعلهم الغير اللائق فيما يبدو لنا من إظهار الجزع والجبن لأعداء الله الكفرة اللآم الفجرة وقلنا لهم إن هذا الصنع الذميم مما يغريهم عليكم فاصبروا ولا تظهروا لهم
الوهن والجبن فقالوا هذا والله منها ليس بجبن وإنما حملنا على ما رأيتم ما أتوا به مما لا طاقة لنا به من البنبة يضربون بها ولا تقع على شيء كائن من كان إلا وهدمته ودكته والمسلمون في هذه الليالي كلها لا ينامون بل يحرسون على البحر ويطوفون حوله ونحن وركبنا معهم في ذلك مستهلون بالشهادة رافعون أصواتنا بالتبكير وملعنون بالصلاة على البشير النذير عليه أفضل الصلوات وأزكى التحيات من الملك القدير وعلى آله وصحابته ذوي المنهاج الواضح المنير فلما كان بعد صلاة العشاء ليلة السبت ضربت الكفرة دمرهم الله بمدافعهم فرأينا من ذلك ما لم نره قط ولا سمعنا به ترى البارود حين يخرج من بخش المدفع فإذا بكرة محماة تحكي الشهب خرجت منه صعدت ثم يرمون بأخرى وترتفع أكثر من الأولى ثم تتدلى هابطة فإذا وقعت بالأرض سمع لها صوت هائل تصمنه الأذان فتصدع في الموضع الذي وقعت فيه وتتفرق ولا تقع على بناء إلا هدمته ولا على بسيط مستو إلا وحفرته ولا على علية أو أسطوانة إلا وهدمتها ولا على شجرة إلا وأحرقتها أو قلعتها فتمكث في أعماق الأرض سويعة فتتكسر فيسمع لها صوت هائل أعظم من الأول ونحن في ذلك كله رافعو الأكف بالذلة والافتقار والخضوع والتضرع إلى الله تعالى الليل كله ولا نكتحل بنوم قط وما خرج مدفع من مدافعهم إلا وظننا أنه يقع علينا فتارة تقع حذاءنا وتارة تمر علينا وأكثر ما تقع بالمدينة أو البحر أو قرب المدينة خارجا وفي بعض الليالي وهي من الليالي الهائلة أخذوا في الضرب الليل كله إلى الصباح بل إلى الضحى لا يفترون عنه ساعة وضربوا فيما أخبرني به بعض فقهاء البلد بأزيد من تسعمائة كرة فلما رأينا هو لهم العظيم ومعنا النساء والصبيان وفيهن الحوامل خشينا عليهن أن يقذفن ما في أرحامهن مما يعاينّ فتحولنا لبعض البساتين المسورة فنزل الركب بها وأدخلنا حريمنا لبعض الديار ثم امسكوا عن الضرب إلى أن صلينا العشاء فضربوا أيضا دفعة واحدة فهاجت عليهم أرياح عاصفة وأفسدت كراهم
بإخماد ما تعلق بها من نار وعند الفيء عادوا للرمي إلى الضحى فلما قرب الزوال زحفوا إلى المرسى فعافهم من بالبرجين اللذين على البحر من المرابطين بهما البائعين أنفسهم من الله وقد لا يخلوان من حارس في السلم والحرب وردوهم على أعقابهم بما قذفوهم به من الكرى والمدافع حتى كسروا لهم صندلا صغيرا فنكصوا على أعقابهم وولوا أدبارهم ، وعانقوا أدبارهم ، والحمد لله رب العالمين فكثر اللغط والعويل بالبلد ، فجاء أهل الإسلام من كل وجهة مشاة وركبانا بعدد وعدد ، كل بحسب وسعه ، فاكفهرت وجوه الأبطال ، وكلحت شفاه الرجال ، وشمروا للنزال ، وتهيئوا للدفاع والقتال ، واحمرت الحدق ، فكسا الكفرة الفرق ، فارتحلوا إلى أبعد مكان فأبعدهم الله وأسحقهم ، وأذلهم وأقلقهم ، فكاد الإسلام يقتحم بأهله البحر إليهم وأشد الناس حنقا عليهم الحجيج فعملوا على النجاز ، والنصال والبراز ، ولو لا البحر لأراهم الله من أهل الإسلام ما يسوءهم فكتب كل وصيته وأعد الشهادة مغنما ، وفواتها مغرما ، كل يرجو أن تخرج الكفرة للبر واجتمعت آلاف مؤلفة من أهل الإسلام الأبطال من أهل الدفاع والقتال وما رد الكفرة من الخروج إلا ما رأوا من شدة الحزم وقوة العزم ، وأبلغ الغيظ من أهل الكفر والظلم ، حتى قالوا يكون بيننا وبينهم صلح على أن يدفع لهم المسلمون جميع ما عددهم من أسراهم وشرط عليهم المسلمون مثل ذلك والكفار على المسلمين يردوا لهم ما أخذوا منهم قبل ذلك الزمان في البحر في هدنة بينهم وقبل المسلمون لهم ذلك وقدره والله أعلم مائتا ألف ريال فرملية فحينئذ دخل الكفرة المدينة للتسوق وربما أغلظوا على بعض المسلمين في القول لتوعد أمير البلد من العثماني على من أساء على كافر ولو بكلمة بعقاب شديد وهو علج فأغرى ذلك الكفار على المسلمين فصبر أهل المدينة لذلك وأما المغاربة وجميع الحجيج فاغلظوا على الكفرة فاخشنوا لهم في القول وربما ضربوهم ولا ألقوا إليهم بالا إعزازا لدين الله وإعلاء لكلمة الله فرفع الكفرة ذلك لأمير البلد العلج
المذكور فقال إن المغاربة شداد على النصارى فاتركوهم لئلا يقع فيكم القتل ولا يد لي عليهم فدعوهم عنكم وتحملوا منهم ما واجهوكم به فأخذوا في دفع ما شرط عليهم الأمير وصاروا يدفعون لهم الخيل والزرع والإبل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وكلمنا علماءهم المالكية فقالوا إن هذا والله هو الصغار بعينه ولا قدرة لنا على ما فعله هؤلاء الأتراك وخرجوا تلك الأيام خارج المدينة مخافة حضور هذا الفعل الذميم.
تنبيه من جملة الدواهي المعضلات أننا دخلنا المدينة للجمعة فجلسنا نتظر الإمام فإذا برجال من أهل الدولتلي أرسلهم بالنداء لا تصلى الجمعة فقام لهم صاحبنا الفقيه سيدي أحمد بن محمد الهشتوكي فقال لهم أن هذا والله حرام لا يجوز كيف تترك الجمعة من غير عذر بيّن وأكثر من ذلك فقام فقيه منهم فقال هذا جائز عندنا فخرجنا من مسجدهم فأتينا مسجدا آخر تصلي به الجمعة المالكية فإذا برسول الدولتلي أتى ينادي بما نادى به أولا فأبى الإمام المالكي فصلاها رضي الله عنه قائلا والله حتى أصليها ولو تنفذ سالفتي فصليناها معه جزاه الله خيرا ووقانا وإياه ضيرا ثم أجلى الله الكفرة عن المدينة يوم الخميس بعد تمام المهادنة وإمضاء شروطها وفرح المسلمون بانتقالهم عنهم وإقلاعهم عن البحر غاية الفرح أخرى الله الكفرة وأذلهم وأعز أهل الإسلام وأحاطهم.
نكتة أخبرني بعض من يوثق به أن هذه الآلة التي يرمي بها الكفرة كانت تصنع من نحاس وحديد وذهب وفضة وأنواع أخرى من المعادن ويفرغونها على قدر القدر المتوسطة المسماة في عرف أهل بلدنا بالمقلاة ولها يدان مثلها وبابها ضيق قدر ما يدخل فيه الإنسان ثلاثة أصابع أو أربعة ويأخذون عود الكلخ ويثقبون وسطه طولا ويجعلون فيه فتيلة تخرج من فوقه وأسفله ويملئونها بارودا ومسامير وقطع الحديد
وعقاقير ويجعلون هذا العود في فمها ويسدون عليه بحلقة الحديد ويجعلونها في مدفع على هيئة المهراس بعد ما يجعلون فيه البارود ويرفعون فم هذا المدفع نحو السماء فإذا مس بنار خرجت النار مشتعلة في الفتيلة وهي طالعة في الجو والريح تنفخها والنار في الفتيلة وعود الكلخ يزيد اشتعالا بما يصيبه من الريح وترى في الجو على هيئة النجم فلا تصل النار إليها حتى تسقط حيث تسقط اه ـ.
تتمة هذه المدينة وأن نقصت حسا لأنها الآن لم يوجد فيها إلا حمامان وكذا الرباط فيها ومثلها الأسواق غير أنها لم تنقص معنى فإن خيرها كثير ونورها جدير نعم قد وجدنا فيها فرقا من أهل الخير والدين من طلبة العلم وغيرهم وبالجملة فمن يذوق أحوالهم ، وألقي السمع إليهم ، يرى بنور الله أفاضل أجلة ، وذوي المعرفة كالأهلة ، فليس لك أن تقول قل الخير وأهله ، وإنما قل على المحجوب والمعلول أفعاله ، وإلا فحضرة هؤلاء كاملة الأنوار ساطعة الأسرار ، لا تخلوا مواطنهم من المقربين والأبرار ، فيحق السعي إليهم ، مع خدمتهم ومودتهم والتحبب إليهم ، ليستمد منهم ويستفيد من أحوالهم ، ويقتبس من أنوارهم ، ليدخل في حضرتهم ، ويشرب من كأس قربهم ، وحينئذ يتخلق بخلق النبي صلى الله عليه وسلم فتسري فيه روحه الكريمة بل تسري فيه معاني أسماء الله وصفاته وينكشف له بالذوق عن كنه ذاته فترد عليه شطحات إلهية ، ومواهب صمدانية ، وأنوار فردانية ، فيغيب عن الأكوان بقدرة المكون حتى لا يراها إلا فتنة وبلوى إذ تقول بلسان حالها إنما نحن فتنة فلا تكفر فلا يسير حينئذ سيرة المهل غير أنه لو لا سلطان التمكين لطاش عقله لفجاءة البعث (1) فيقويه الله تبارك وتعالى في مقام الشهود وإلا اضمحلت نفسه (2) لمشاهدة الذات وكذا وصفه لمشاهدة وصفه وفعله لمشاهدة فعله فلا يرى السائر إلا
__________________
(1) في نسخة البغت.
(2) في نسخة لاضمحلال نفسه.
ذات المحبوب وصفاته وأفعاله فيصحبه في ذلك الوقت بعض المحو فيقول الجاهل تكدر وقته ، وعظمت محنته ، وعالت مصيبته ، والمعترض صاحب الحرمان ، وغلبت عليه النفس والشيطان ، وإلا لسلم لمن هذا وصفه إذ هو في تجليات المحبوب ، والغيب عن المربوب ، فجدير أن يؤيد في ذلك المقام وإلا فلا يستطيع أن يحمل ما للباقي إذ الفاني لا قدرة له على ذلك ، ولا يتحمل ما هنالك ، فيجول قلبه في معارف الله تعالى وإذا تليت عليه آيات القرآن زادته إيمانا وعلى ربه يتوكل فإذا تقوى عليه الله الشهود وسار في الأرواح ذهب سر الأسرار في قائمة عروس التجلي فلا ينعكس أصلا فذلك إسراء الأرواح لربهم فيحليها بما حلى به المقربين من عباده وحينئذ تكون له شطحات يشطح بما حلي به أما بسر الذات أو بمعنى الصفات أو بشذاء الأسماء فإذا تغذى بها ظهر ذلك على الأجباح ولذا قال بعض العارفين إذ نزل الوجد على الرأس حركه وعلى العين أدمعها وعلى اللسان انطقه بما به شطح وعلى اليد بطش بها وعلى الرجل رقصت فحينئذ يغيب الناس بسر اللهوت فينادي لسان الحقيقة بما يشبه الاتحاد فيقول مثلا أنا هو فإذا دام شربه ظهرت أنوار الحق عليه لأن ما فيك ، ظهر على فيك ، كل إناء بما فيه يرشح ، هذا وإن وسع التجلي لا يعرف قدره إلا صاحب التأييد من العزيز المقتدر هيهات من هو دون مقامه ، أن يشم رائحة أنعامه ، ولا أن يكون في قسمة من أقسامه ، نعم لا يفهم كلام الأخرس إلا أمه ، وفي ذلك الغيب وجمع الجمع يصير ملتقطا لدرر التوحيد ، وغرر التجريد ، لتجلي بها في منصة التوحيد ، فلا يعلم ما هو عليه إلا من شرب من مشربه ، وشرابه يرقيه إلى محبوبه ، وإن إلى ربك المنتهى ، فيصير هو سمعا له وبصرا ونطقا ، وإلى هذا المعنى أشار ابن مالك بقوله «وذو ارتفاع وانفصال أنا هو» أي الضمير بسر اللهوت المنفصل عن الخلق ، المتصل بالحق ، فإذا غاب بمحبوبه ، يقول في حال غيبه ومحوه ، إذ لا يرى إلا ذات المحبوب وأوصافها فلم يبق له سواه ينظر إليه ولذا يقولون الوجود واحد إذ لو
تعدد لهلكت العوام وأما من غلب عليه سطوة التجلي تلاشى كل شيء سواه وقال أنا هو غير أنه ممزوج بكدر الاتحاد ولذا لا تسمح الشريعة في مثل هذا القول نعم صاحب الحال محمول لا حامل فإذا رجع إلى صحوه قال أنت أذلو قال أنا هو مع الصحو لكفر بإجماع لأن الله تبارك وتعالى قسم أهل الحق قسمين متلونا ومتمكنا فصاحب التلوين ملكه الحال وهو أول مقامات النبي صلى الله عليه وسلم وبدايته بدليل قوله زملوني زملوني الحديث إذ التكاليف والتصاريف (1) لا يستطيع البشر حملها ولذا طلب المعونة بالتغطية والضم ليتيسر حمل أعبائها فلما تمكن يأتيه الملك ولا يتغير ودليل التلوين قوله تعالى : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية وأما التمكين (2) فقوله تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ولقوله أيضا : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) الآية فلما تحقق بعض الفقراء من زماننا بهذا وظهرت عليه آثار الغيب والمحو لما صاحبهم من الشهود بملاحظة المعبود تحركت همتهم بالشطحات السالفة من أنواع الواردات المختلفة فمن رزق الإنابة سلم لهم أحوالهم ، ووكل أمرهم إلى مولاهم ، ومن حرم والعياذ بالله كفاه الحرمان وهو أصل كل شقاوة نازعهم في تواجدهم وأحوالهم وصار يبطلها بأدلة وهمية ، وتخيلات واهية ، ونزغات (3) شيطانية ، عله أن يسقطهم في عين الخلق ومن كان في عين الحق لا يسقطه عن الخلق والله يقول : (تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7)) والذين كفروا بمشاهدة الحق وتحلية القلوب بالحق فتعسا لهم لما تحملوه من الحجاب العظيم غير أن هذا لا يكون إلا من الفقيه الفحّ الذي سولت له نفسه الحمقاء أن يقول ما يوجب الرجوع عن باب الله
__________________
(1) في نسخة التعاريف.
(2) في نسختين المتمكن.
(3) في نسخة ترّهات.
تعالى إذ تبت (1) يده أن تصل إلى هذه الأنوار ، وانكشفت شمسه عن هذه الأسرار ، فحرم الوصول إلى هذه الدار ، فخاب سعيه ، وطاش عقله ، فضل وأضل أن الله تولاهم ، ولم يتركهم لسواهم.
انعطاف إلى ما كنا بصدده وهو أن بعض المنتسبين والفقراء المتجردين قد برز في صورة ما ذكر من الأحوال والواردات والمواجد فقام بعض الفقهاء ينزح البحر بلسانه هيهات أن يصل إلى بعض معانيه وقد قال أبو يزيد البسطامي أعلى الولاية التصديق بأحوال الله أهل الله وأدناها التسليم لهم ولذلك نبهنا على أمر هؤلاء فإن فيهم من فتح له في باب [المعرفة أشراب على الخط السابق](2) من ورود الشهود على قلوبهم فأوردوها ورود الاتحاد لغيبتهم عن الأكوان بمشاهدة المكون فنطق الكل بحسب شهوده ، وتحرك على قدر وجده وصعوده ، فلما حلاهم الله في بواطنهم بتلك الحقائق ، وعظم أمرهم بتلك الدقائق ، وزين ظواهرهم بالإشراق فسقاهم من كأس حبه ، وكساه بحلة قبوله ، فكانت تنادي بلسان حالها إن هذا مقبول عندنا ، ومفتاح لدينا ، فمن أحسن إليه أحسن إلينا ، ومن أساء عليه فقد أساء علينا ، فمن أخذ بيده قلبناه ، ومن تشفع به شفعناه ، ومن أحبه أسعدناه ، ومن اعترض عليه رددناه ، فصار خليفة في أرضه ، ونائبا عن أحكامه وإبرامه ، فمن تعلق به دخل ، ومن قصده بلغ الأمل ، وبالجملة فأسواق الحق عامرة ، وأهلها مشهورة ، فأهل وروده مذكورة ، فإن سعيت إليهم بحسن اعتقاد قضيت مآربك منهم ، لأن الله يستحي أن يردهم ، وكذا يقصم بالهلاك من يبغضهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم من عادى لي وليا فقد آذنته بالمحاربة ومن حارب الله ورسوله هلك وإنما ذكرت هذا لعلمي بهؤلاء في هذه المدينة غير أن بعضهم يدعي ما لم يصل إليه وبعضهم يعترف بأقل ما لنفسه وبعضهم
__________________
(1) في نسخة شلت.
(2) ما بين القوسين ساقط في نسخة وفي أخرى اسرأب فليحرز.
ينكر مما لله عليه خوفا من طغيان النفس الأمارة بالسوء حتى يتعجب فيسقط من عين الله وإن جحد فحلية الله أظهرته ، وكرامة الله شهرته ، ولو أغلق الباب عليه لكسروه ، وكذا لو اختفى في جحر ضب لأظهروه.
وقال الشيخ زروق ما خامر القلوب فعلى الوجه يلوح وآثار الأسرة تدل على السريرة وقال ذلك الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم لما رأيته عرفته أنه ليس بوجه كذاب وقال تعالى في حق الصديقين (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) وفي حق المنافقين ولتعرفنهم في لحن القول ، الناس حوانيت مغلقة فإذا تكلم الرجلان تبين العطار من البيطار لأن الكلام صفة المتكلم ، ما كان فيك ظهر على فيك ، ويعرف صدق المرء بثلاث عند مغاضبته أن لزم الحق واتصف بالصدق وسامح الخلق فهو ذاك وإلا فليس هناك.
فإذا تمهد هذا فأعلم أن مدينة طرابلس خصها الله بالصالحين ومحبة أهل الخير حتى أنهم لا يصبرون عليهم فإذا شموا رائحة المعرفة في أحد سعوا إليه بالإحسان جزاهم الله أحسن الجزاء وذلك عام في عمالة طرابلس لا سيما الزاوية الغربية فإن فيها من الصالحين الموتى ما لا يستطيع أحد أن يعدهم وأما الأحياء فبحسب زماننا هم أكثر من غيرهم وقد قيل إنها تنبت الصالحين كما تبنت الأرض العشب هذا وإن أولاد (1) قد بالغوا في حبنا وصفوا في مودتنا حتى أنهم تمنوا أن يكون ما عندهم قد بذلوه لنا وجعلوه قرى لأصحابنا خصوصا سيدي محمد وسيدي بو بكر وسيدي علي حاصله تعلقوا بنا صغيرا وكبيرا ظنا أن لنا فيضة إن فاضت عمهم وأبلها نعم من لم يصبه من المحسنين وابل منا فطل بجاهه صلى الله عليه وسلم الذي تعلقنا به وذهبنا وتعبنا من أجله وإلا فو الله علمنا أنفسنا وأيقنا أنها مفلسة قال بعض
__________________
(1) بياض في جميع النسخ.
العارفين ويل لمن ترك يقين نفسه لظن غيره والويل واد في جهنم تستعيذ منه جهنم في كل يوم سبعين مرة وبالجملة ففيها أفاضل لا سيما سيدي ناصر الذي أعتزل بأهله وسكن بيت اخصاص إذ هو وزوجه عجوزة خفيف الحال أي لا مال له ولا أهل وقد تجرد للعبادة وأطعم لنا بسيسة من كديده رضي الله عنه وأرضاه بمنه وكرمه وأما سيدي محمد [فانه] أتى إلينا بحمل جمل شعيرا وضيافة من لحم وغيره نعم أولاد سيدي البشت وأولاد القمود كلهم في الزاوية الغربية على خير.
فإذا تمهد هذا العلم فاعلم أن في الزاوية الغربية الصالحين وأهل الخير لا نظير لهم فيما علمت غير أن أهل الجزائر يعني من سكن المدينة وكذا أهل وطننا فإنهم أعظم منهم لا سيما جبال زواوة فإنهم أكرم شيء في الوجود إذ يأكلون الردي ويطعمون الضيف الطيب ووطنهم في غاية الضيق من المعيشة إذ هم خلق كثير لم يكن وطن أكثر منه وقد سمعت ممن يوثق به ممن علم أرض مصر وجبال زواوة فقال هم أكثر من مصر فأضعاف وقد استنشقت بعض الأدلة على وجود الطائفة التي على الحق ولا يضرهم من خالفهم إلى قيام الساعة أن الكثير منها في عمالة طرابلس وعمالة زواوة من عمالة الجزائر فلا يشك من خالطهم وثابنهم (1) أفاض الله علينا من بركاتهم وجعلنا في زمرتهم.
تنبيه مخالطة المتمكن في طريق من طرق الحق تفيد صاحبها ذلك إذ من تحقق بحالة لا يخلو الحاضرون منها لأن المرء على دين خليله وكل خير وكل شرفي الخلطة واللقمة وكل ما شئت فمثله تفعل وصاحب من شئت فأنت على دينه انظر قواعد الشيخ زروق وقد منحت بعض الفتح منهم ومن غيرهم من الذين رأيناهم في مكة والمدينة ومصر وغيرها نعم من اعتقد فيهم وأحسن إليهم وسلم لهم وصدقهم رزق
__________________
(1) كذا في نسختين وفي واحدة من خالطهم وثابنهم وفي أخرى من خالطهم في ذلك.
عطفهم فلم يبق إلا التعلق بهم فلا يقال قد انعدم هؤلاء الآن وقد قل وجودهم أو على تقدير وجودهم قد ستروا بظلمة الزور والبهتان ودعاوي الزنادقة أو أنهم في الفلوات من الأرض أو ظهر بعضهم فقد منع الناس منهم الطعن فيهم لا سيما الفقهاء فإنهم قد طبعوا على القدح في جانبهم والخدش فيهم نعم لا تجد فيهم منورا من أجل ذلك إذ الفقهاء إن أحبوك مدحوك بما ليس فيك وإن بغضوك ذموك بما لم تتصف به وقبله العامة منهم وبالجملة فإن وجدت من فيه رائحة الذوق وظهرت علامة المعرفة فشد يدك عليه ولا تصبك غفلة وتفريط حتى تندم عليه لأنه أكسير زمانك فلا تهمل أمرك من هذا وألق السمع لما نبهناك عليه إذ هم الكعبة للزوار ولا تغمضهم (1) بعين الأزدراء وسوء الاعتقاد فتصير محروما مخذولا ممنوعا خصوصا إن أصابتك الواقعة (2) فيهم فيخاف عليك سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى هذا وإن من أحسن ظنه فيهم وجد في طلبهم مع الصدق وجدهم أقرب إليه من ريقه لفيه في محل لا يظنهم فيه فيحصل له سلم يرقى به إلى حضرة الله تعالى يعلم ذلك باليقين وإنما يجدهم مستورين بالقدح والخدش من هو مثل من يتعاطى الفقه والتطلب إذ خبرة خال عن الخميرة فهم الأسد ، في اجام الحسد ، وغيضة الاعتراض ، وغابة الانتقاض ، وقد علمت ما قالوا في الزباد من كونه نجسا لقربه من محل النجاسة ومعلوم كما سبق انه يحصل من غيره بمعاينة صدوره من قطعة من المبرزين في العدالة إذ عاينوه كذلك فهؤلاء أعظم منه نفعنا الله بهم.
تتمة فق لقي شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر من فضلاء طرابلس سيدي أحمد بن عبد الواحد بن يوسف الزنزوري ثم الفزاني وهو ساكن بزاوية زنزور وأنشد له لنفسه حين وداع الشيخ :
__________________
(1) في نسخة لا تنظرهم.
(2) كذا في جميع النسخ ولعل الواقعة بدل الوقيعة.
أيا
سيدي خفق باني عبيدكم |
|
ذليل
حقير بين قوم أراذل |
ونفس
له شيطانية قد بلي بها |
|
هواه
وإبليس ودنيا العلائل |
أفيضوا
عليه سيدي من نوالكم |
|
عسى
وعسى يعلو على كل كاهل |
ويفهم
مولاي علوما دقيقة |
|
ويمشي
خلي القلب من كل شاغل |
ومن جملة أهل وده هناك من الأئمة الأعلام أبو عبد الله سيدي محمد بن مقيل وصهر الأجل سيدي أحمد بن محمد المكني تقبل الله عملهم وأصلح فعلهم إذ أحسنا إلينا غاية الإحسان وفي تلك السنة لحقه الشيخ أحمد بن محمد الهشتوكي أخ له في الله وفي تلك الأيام قرأ هو وأصحابه على شيخه أبي العباس سيدي أحمد القصري تآليف على الربع المجيب نفعنا الله بهم.
نكتة تقدم لنا أن ترجمة لفظة طرابلس ثلاث مدن والأشهر في ضبطها فتح الطاء وضم الباء واللام وبعضهم يزيد ألفا ويسكن الطاء وقال التجاني في رحلته وكذلك رأيت الأجدابي يكتبها حيثها وقعت في خطه وعلى ذلك قول أحمد بن يحيى من قديم شعرائها في قصيدة له وهي :
لقد
طال شوقي إلى فتية |
|
حسان
الوجوه باطرابلس |
وقد
عيل صبري فما مسعدي (1)
|
|
على
الشوق إلا دموعي الحبس |
قال بعضهم المختار أن تكتب بزيادة ألف فرقا بينها وبين طرابلس الشام فإنها بغير ألف وبخارج البلد محارس قديمة ومساجد كثيرة مشهورة الفضل والبركة وأثنى البكري على المسجد المعروف منها بمسجد الشعاب إذ قال إنه أعمرها وأشهرها في ذلك الزمان وأما الآن فهو خال لا عمارة به وأما زماننا هذا
__________________
(1) في نسخة وما نالني ... إلا دموع الحبس وفي أخرى إلا أدمعي البجس.
فلم أسمع له ذكرا وفيه فيما مضى جملة وافرة من أكابر الصالحين والعلماء العاملين ومزارات مشهورة من جملتهم أبو محمد عبد الله الشعاب [أحد الصلحاء والفضلاء من أهل طرابلس وكان نجارا فحضرت له نية في إتمام هذا المسجد الذي نسب إليه وكان بعض الناس قبله ابتدأ بناءه ثم عجز عنه فرمى الشعاب الآلة من يده](1) وتوجه لإتمامه فأتمه وسكن به ويذكر أن الخضر كان يزوره ويحادثه وإنهما رئيا مجتمعين في المسجد المذكور وسمع يوما بكاء امرأة عند باب المسجد فسألها ما السبب فأخبرت أن لها ولدا أسره العدو وسألته الدعاء فدعا لها وأمنت على دعائه ثم انصرفت لبيتها فأصبح ولدها في السكك يسأل عن دار أمه فسئل فأخبر بفراره في البحر وسلامته ووصوله عن عهد قريب فتوجهت أمه إلى الشيخ تشكره وتعرفه بوصول ولدها وان ذلك إنما كان بدعائه فهنأها بسلامته وقال لها إنما نجاه الله بدعائك لما علم اضطرارك وكانت وفاته ورحمه الله سنة ثلاث وأربعين ومائتين ومنهم الشيخ حطاب البرقي الرجل الصالح يكنى أبا نزار وكان ذا كرامات وخصوصا في باب المرائي ظهرت له في ذلك عجائب وكان يخاطب في النوم بجميع ما يكون في اليقظة قبل وجوده والتقى بالخضر عليه السلام وذكر أنه عارضه سبع فقال له أبا الحارث إن كنت قد أمرت فينا بشيء فدونك وإلا فالطريق قال فقرب مني ووقف هنيئة ثم انصرف وحكي أنه قال بينما أنا في البرية إذ رأيت شخصا فاستغربت وجوده هناك وقصدته فوجدته مفرج بن بياضة فقلت له أبا عبد السلام هاهنا فقال نعم يا أبا نزار فاستغربت معرفته بي مع انه مكفوف البصر وكان مفرج هذا رجلا صالحا من أهل جزيرة تونس المعروفة بجزيرة باش وكان يخرج وحده من بلده إلى مكة فيحج ثم يعود قال فبتنا جميعا وتآنست به وسألته كيف يتهيأ له الحج مفردا فقال يا أبا نزار أني إذا خرجت من موضعي أسمع قائلا يقول لي يمينك
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في أربع نسخ.
شمالك أمامك خلفك حتى أصل إلى مكة أو كما قال ومنه أبو عثمان سعيد بن خلفون الحساني المعروف بالمستجاب وأصله من قرية حسان من قرى طرابلس كان زاهدا فاضلا منقطعا إلى الله سبحانه وظهرت بركته غاية فعرف بالمستجاب وقد قال الشيخ أبو عبد الله الخشاب القاضي رحمه الله خرجت مع أبي الحسن ابن النمر من طرابلس لزيارة الفقيه ابن أبي زيد رحمه الله تعالى وسماع العلم عليه فبينما نحن عنده يوما إذ تحدث أبو الحسن فقال أراد الشيخ أبو عثمان الحساني الحج مرة فاتفق مع جماعة من إخوانه أهل الدين والفضل وكنت معهم فخرجنا على الوحدة فقطعنا صدرا من الطريق وأقمنا ثلاثة لم نطعم فأنى الشيخ أبو عثمان إلى ربوة فمسح بوجهها بيده وجعل يأخذ من ترابها ويجعل في إناء كان معه ثم ثراه بشيء من ماء فقرأ عليه أو سمى وقال لنا سموا وكلوا قال فجعلنا نأكل ونتطعم منه طعم السويق قال فطرق الشيخ أبو محمد بن أبي زيد ساعة ثم رفع رأسه وقال هذا داخل في الإمكان لا سيما وقد ذكرتم أنكم أقمتم ثلاثا لم تطعموا وقرأ قوله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ).
ولما رجع المؤدب محرز بن خلف من الحج قيل له من رأيت في طريقك من الصالحين قال رأيت بطرابلس رجلا وامرأة فأما الرجل فأبو عثمان الحساني وأما المرأة فسمدونة وكانت عجوزا صالحة تسكن مسجد الشعاب المذكور وكان أبو نزار حطاب الرجل الصالح المذكور يزورها ويعتقد بركتها وهذا كما يحكى أن سحنون بن سعيد لما رجع من الحج قيل له من رأيت من الصالحين فقال لقد رأيت بطرابلس رجالا ما الفضيل بن عياض بأفضل منهم.
ومنهم أبو الحسن علي بن أحمد الخطيب الطرابلسي أقام ساكنا بمسجد المجاز بها فيما يقال أربعين سنة وكان فقيها صالحا عالما زاهدا وله في الفقه والفرائض والشروط
تأليف مفيدة وأقام أربعين سنة لم يضحك ونحو خمسين سنة لم يحلف بالله يمينا وقال له ابن أخيه عند ما أملى وصيته أنسيت الكفارة فقال لو لا أني في الموت ما أخبرتك ما حلفت بالله منذ كذا وكذا محقا ولا مبطلا وما علمت أن علي يمينا أكفرها.
ومنهم الشيخ الصالح أبو محمد عبد الوهاب القيسي رحمه الله وقبره خارج المدينة بين شرق وشمال يزار وأهل البلد يعظمونه كثيرا وحكى لي جماعة منهم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام نحوا من أربعمائة مرة وانه كان يشاور النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر أموره فلا يفعل ما يفعل إلا بإشارته قالوا ولم يسمع منه هذا في حياته ولكنه وجد بعد موته مكتوبا عنده بتواريخه يذكر كل ليلة وما رأى فيها ثم أوقفني بعد ذلك بعض أهل البلد على جزء من هذه المرائي وذكر أنه نقلها من خطه فرأيت فيها غرائب من سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عما يفعله في جميع ما يعرض له من أموره وإشارة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بما يراه ودوام ذلك واستمراره في كل جزئية من جزئياته.
ومنهم الفقيه الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل بن أحمد بن عبد الله الأجذابي اللواتي الطرابلسي وقبره معظم يكثر الناس من زيارته والدعاء عنده وكان من أعلم زمانه بجميع العلوم كلاما وفقها ونحوا ولغة وعروضا ونظما ونثرا وله تآليف جليلة وأسئلة مفيدة في الفقه وغيره من جملة تآليفه كتابه المتداول المسمى بكفاية المتحفظ وكتابه في العروض وناهيك به حسنا وتهذيبا وهو نسختان كبرى وصغرى وكتابه في الرد على أبي حفص بن مكي في تثقيف اللسان وكتابه في شرح ما آخره ياء مشددة من الأسماء وبيان اعتلال هذه الياء استوفى فيه جميع أحكام هذه الياء على اختلاف أحوالها من تصغير وتكسير وغير ذلك ولما استوفى فيه ذلك استيفاء جمليا تعرض لشرح مقاطع الآي الواقعة في سورة مريم لاشتمالها على كثير
من تلك الأحكام فجاء هذا التأليف في غاية الإفادة والتحقيق وكتابه المختصر في علم الأنساب وله تأليف مختصر في الأنواء على مذهب العرب ورسالته المعروفة برسالة الحول تعرب عن أدب كثير وحفظ غزير وكان الفقيه أبو إسحاق هذا أحول وسبب تأليفه لها أنه حضر يوما طرابلس عند القاضي بها أبي عبد الله محمد بن محمد بن إبراهيم بن هانش (1) الطرابلسي فحكم أبو محمد بحكم أخطأ فيه فرد عليه أبو إسحاق فقال له أسكت يا أحول فما استدعيت ولا استفتيت فألف تلك الرسالة وأكثر هذه التآليف ملكتها بخطه وكان رحمه الله من أحسن الناس خطا وأخبرت أن الأمير أبا زكرياء رحمه الله كان شديد البحث على خطه وسمع أن كتاب الفصيح بيع بخطه بطرابلس [فأبرد بريدا إليه في البحث عليه ووجه به إليه](2) وأنه سمع أن بها من كتاب أمثلة الغريب (3) لأبي الحسن علي بن الحسين الهنائي المعروف بالكراع بخط الفقيه أبي إسحاق في ملك بعض بني النقاد من أعيان طرابلس فوجه إليه فيها فوجه النقادي بها إليه وملكت بخطه أيضا تأليفه الذي اختصر في كتاب أنساب قريش تأليف أبي عبد الله الزبير بن أبي بكر بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام رحمه الله تعالى وحسبك بهذا التأليف الجليل علما وفائدة وهو كما كان الشيخ أبو الحسن بن مغيث رحمه الله يقول هذا كتاب العجب لا كتاب النسب ورأيت الفقيه أبا الحسن (4) قد أدخل من حفظه في نفس هذا المختصر زوائد تشتمل على فوائد نبّه عليها وكفى بهذا الرجل المعظم الغرد لهذا القطر ولم تكن له رحلة عن بلد طرابلس إلى غيرها وقد سئل أنّى لك هذا العلم ولم ترتحل فقال اكتسبته من بابي هوارة وزناتة وهما بابان من أبواب البلد نسبا إلى من نزل بهما أول الزمان يشير إلى أنه
__________________
(1) هكذا في جميع النسخ وفي الرحلة الناصرية أبي محمد عبد الله بن محمد إلخ.
(2) ما بين القوسين ساقط من جميع النسخ.
(3) في جميع النسخ العرب وفي الرحلة الناصرية الغريب كما في كشف الظنون.
(4) هكذا في الرحلة الناصرية وفي جميع النسخ إسحاق.
إنما استفاد من العلم بلقاء من يفد على طرابلس ويدخل (1) من هذين البابين من المشرقين والمغربيين (2) وكان له اعتناء بلقاء الوفود وقيام بضيافتهم (3) وأخبرني بعض الطلبة أن خط أبي إسحاق باق إلى الآن في بعض جدر داره من طرابلس وهي في وسط البلد بمقربة من الجامع الأعظم وعلى مسافة يسيرة منها من جهة غريبها دار الفقيه أبي الحسن علي بن محمد بن النمر (4) الطرابلسي [الفرضي المشهور بفضله وعلمه ورئاسته وهي مواجهة لمسجد يعرف بمسجد ابن فرج أضيف إلى الفقيه أبي مسلم موسى بن فرج الهواري الطرابلسي لا قرائه به وتوفي أبو مسلم هذا سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة](5) وكان مولد أبي الحسن بطرابلس قديما سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة وله تآليف في الحساب والأزمنة وغير ذلك سوى كتابه المشهور المسمى بالكافي في الفرائض وقد لقي الشيخ أبا محمد بن أبي زيد وقرأ عليه وارتحل إلى مكة سنة تسع وثمانين فلقي بها أحمد بن زريق (6) البغدادي وروى عن أبي القاسم عبد الرحمن (7) بن عبد الله الجوهري ثم عاد لطرابلس فلم يزل بها إلى سنة ثلاثين وأربعمائة فخرج منها لمحنة جرت عليه فتوجه إلى موضع يعرف بغنيمة (8) بالغين المعجمة والنون قرية من قرى مسلانة فسكن بها إلى أن توفي هنالك سنة اثنتين وثلاثين وقبره الآن على الطريق بها والناس إلى الآن يزورون قبره ويتوسلون إلى الله عنده ويذكر
__________________
(1) كذا في جميع النسخ وفي الرحلة الناصرية يرحل.
(2) كذا في الرحلة الناصرية وفي جميع النسخ المشرق والمغرب.
(3) كذا في جميع النسخ وفي الرحلة الناصرية أضافتهم.
(4) في كتاب المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب لأحمد بك الأنصاري الطرابلسي المطبوع بدار الخلافة سنة 1317 المنمر.
(5) ما بين القوسين ساقط في ثلاث نسخ.
(6) في الرحلة الناصرية رزين.
(7) في الرحلة الناصرية القاسم بن عبد الرحمن.
(8) في جميع النسخ بغانيمة وفي الرحلة الناصرية بغانينة.
أهل تلك الجهة إن كل رفقة استصحبت شيئا من تراب ذلك القبر فإنها لا يتعدى عليها أحد فيهم لا يزالون ينقلون ترابه فيجدده من يقصد الأجر من أهل تلك الجهة أو من المجتازين عليه وهو أول من أظهر السنة بطرابلس لما كانت في أفريقية الوقعة المعروفة بوقعة الشارقة سنة سبع وأربعمائة قتل فيها الشيعة واتباعهم وعلى يد الفقيه أبي الحسن قتل بطرابلس من قتل منهم وأول من قطع من الآذان حي على خير العمل وأذن في ذلك اليوم أذان أهل السنة بنفسه وقد قتل بنو عبيد بشرا كثيرا أسقطوا هذه اللفظة من آذانهم تعمدا أو نسيانا وأول من أقام للناس بطرابلس صلاة القيام وقد كان رسم هذه الصلاة انمحى من أفريقية قال الشيخ أبو الحسن القابسي رحمه الله تعالى لما دخل بنو عبيد القيروان أرادوا أن يمنعوا الناس من هذه الصلاة قال وليس شيء أشد على بني عبيد من هذه الصلاة فقيل لهم أنكم توغرون بهذا الفعل قلوب العامة فإنهم يقولون منعونا من الصلاة فأمروا الأئمة أن يختموا كل ليلة ختمة كاملة وإن لا ينقصون شيئا منها فصلى الناس من أول ليلة بوفره فلما كانت الليلة الثانية نقصوا ولم يزالوا ينقصون لثقل ما كلفوا به حتى خلت المساجد منهم كما أرادوا وأسقط الناس القيام بهذه الصلاة فكان الشيخ أبو الحسن ابن النمر أول من أحيى رسمها بطرابلس وقدم أبا مسلم موسى بن فرج فصلاها بالجامع الأعظم ولم تكن قبل ذلك صليت به لأنه من بناء بني عبيد وأول من أطلق للناس صلاة الضحى جهارا ولم يكن أحد في مدة بني عبيد يصليها إلا مستخفيا بها فإن ظهروا عليه قتلوه ومر بعض عمالهم برجل على شاطئ البحر يصلي وقت الضحى فسأله عن صلاته فذكر انه كان جنبا فلما مر بالبحر نزل واغتسل وقضى صلاة الصبح فلم يقبل ذلك منه وأمر به فألقي في البحر إلى أن مات انتهى كلامه (1).
__________________
(1) من السطر التاسع من الصحيفة 166 إلى هنا بياض كثير في نسختين وقد اعتمدنا هنا على الرحلة الناصرية وعلى نسخة واحدة.
نكتة وهذه المزارات كلها خفية مندرسة غير جلية وكذلك غيرها مع ما احتوت عليه المدينة من المزارات الكثيرة وذوي المكانة المشهورة تأوي إليه الجهابذة من الزهاد [والأئمة الأفراد](1) لقصد الرباط وحراسة الإسلام لكونها ثغرا من الثغور العظام ولما تداولتها أيدي الكفرة خفيت مراسمها واندثرت معالمها وذكروا أن الاستيلاء الأخير [الذي استولى الكفرة دمرهم الله](2) عليها كان سنة ست عشرة وتسعمائة يوم ستة عشر من المحرم وافتكت منهم عام ثمانية وخمسين وتسعمائة (958) قال أبو سالم العياشي في رحلته وتاريخه فقط قولك جاء الترك بسن (3) وافتكها منهم درغوت باشا وكان بجربة ومراد باشا في مسلانة وبقي بها درغوت إلى أن توفي بها وقبره الآن بها يزار وعليه بناء عظيم وسبب أخذها من العدو أن مراكب المسلمين جاءت من أصطنبول مددا للعمارة المحاصرة لحلق الوادي بتونس فمرت بساحل طرابلس فكلمهم أهل السواحل في أعانتهم على النصارى فقالوا أنا لم نؤمر بذلك من السلطان فقال لهم الباشا مراد أعينوني في هذا الأمر فإن كانت عقوبة من السلطان فأنا المؤاخذ بها دونكم فحاصروها برا وبحرا إلى أن أخذوها فذهب معهم مراد باشا إلى السلطان فقال له إن كانت عقوبة فأنا المؤاخذ بها دون هؤلاء الأمراء فرضي عنه وعنهم وأكرمهم.
وأما أخذ النصارى لها فذكروا لذلك قضية غريبة وهي أن أهل هذه المدينة فيما مضى كانوا أهل دنيا عريضة فبينما يقال وليس فيهم غناء ولا لهم بالحرب خبرة فبينما هم كذلك إذ قدمت عليهم سفن النصارى تجارا بسلع كثيرة فنزلت بالمرسى فخرج
__________________
(1) لا يوجد ما بين القوسين إلا في الرحلة الناصرية.
(2) لا يوجد ما بين القوسين إلا في الرحلة الناصرية.
(3) هكذا في رحلة العياشي وفي الرحلة الناصرية جاء الترك بلس وفي نسخة نقطة بحسب الجمل وفي غيرها بياض.
إليهم رجل من التجار فاشترى منهم جميع ما بأيديهم من السلع ونقد لهم ثمنها ثم استضافهم رجل آخر فصنع لهم طعاما فاخرا فلما أخرج لهم الطعام أخذا ياقوتة ثمينة فدقها دقا ناعما وذرها على طعامهم فبهتوا من ذلك فلما فرغوا قدم لهم دلاعا فطلبوا سكينا لقطعها فلم توجد في داره سكين ولا عند جاره إلى أن خرجوا إلى السوق فأتوا بسكين فلما رجعوا إلى بلدهم سأله ملكهم عن حال البلد الذي قدموا منه فقولوا ما رأينا بلادا أكثر منها مالا وأقل سلاحا وأعجز أهلها عن مدافعة عدو فحكوا له الحكايتين فتأهب ملكهم لدخولها في مراكب في البحر فدخلا في ليلة واحدة بلا كثير مشقة واستولى عليها ولم ينج من أهلها إلا من تسور ليلا وانحاز المسلمون إلى تاجوراء وجبال غريان ومسلاتة فصارت المدينة للنصارى إلى أن كان من أمرها ما كان في التاريخ المذكور انتهى أدامها الله للإسلام وحاطها بالنبي عليه السلام.
ومن جملة أصحاب سيدي أحمد بن ناصر سيدي محمد المكني كان من أعلم أهل هذا الساحل فقيها لوذعيا خير خلف عن خير سلف تولى الفتوى ببلده مرارا واشتغل بالتدريس وله مشاركة حسنة في فنون العلم مات قريبا من عام ستة وخمسين وألف وله ولد اسمه محمد (1) اشتغل بالقراءة على سيدي محمد بن مساهل وعلى غيره وكان له ذكاء عقل وزيارة نبل فتمهر في كل فن وتولى القضاء (2) بعد عزل شيخه فحمدت سيرته وظهرت نجابته وسدده في فتواه.
ومن أحبابه أيضا سيدي محمد بن مقيل جد أخينا في الله وأصدق الإخلاء سيدي محمد المفتي الآن والسيد عبد السلام بن عثمان وممن أكرمه في رحلته هذه
__________________
(1) في الرحلة الناصرية أحمد.
(2) في الرحلة الناصرية الفتوى.
سيدي محمد المكني وسيدي محمد بن مقيل وأولاد ابن غلبون وأهل سيدي علي النجار وسيدي أحمد بن جابر وصهره سيدي عبد الظاهر وسيدي محمد بن عبد الله بن فرج الله وغيرهم وسيدي عبد الله بن يحيى وسيدي حامد بن محمد التواتي وابن عمه سيدي عبد اللطيف بن عبد القادر وكثير من الفضلاء ممن لقيه فالله ينظمنا وإياهم جميعا في سلك أهل ولايته المحفوفين بعنايته المحفوظين منه برعايته آمين انتهى كلامه باختصار بعضه باللفظ وبعضه بالمعنى.
انعطاف إلى ما نحن بصدده فأنا أقمنا بها ثمانية أيام أولها يوم جمعة وآخرها مثله غير أن بعض الركب خرج يوم الخميس إلى تاجوراء ونحن قد تخلفنا مع بعض أفاضل أصحابنا إلى صبيحة يوم السبت مشتغلين بأمر الزاد المبعوث في السفينة ومن يركب فيها من أصحابنا فل ننفصل عنهم حتى خفف الركب أثقالهم بوضعه في السفينة معتمدين علينا إذ عادة السفن في تلك المدينة تتأخر إلى آخر رمضان فربما عاقهم ذلك عن الحج فلما علمنا ذلك حضضا الأمر من صاحب الولاية محبنا في الله ومعتقدنا الأجل محب الصالحين سيدي علي باشا [بانفصالها](1) من غير تراخ بعد ذهابنا وأخذنا العهد منه على ذلك وقد أحسن إلينا هو وأصحابه بأن ركبوا فيها الفقراء والصعاليك بغير عوض وإنما ذلك لوجه الله ثم لوجهنا نحو الخمسين رجلا أو ما يقرب منها وقد ركب فيها من إخواننا الفضلاء ولد الأخ سيدي أحمد الطيب سيدي محمد (2) والفقيه الفاضل سيدي أحمد بن أبي القاسم ومثله في الفضل سيدي عبد الكريم ونظير الجميع سيدي محمد اليعلاوي والشريف الفاضل الأجل محب الخير وأهله أمير زواوة سيدي محمد بن بوختوش (3) رحمه الله إذ مات بعد رجوعنا
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(2) كذا في جميع النسخ.
(3) في نسخة اخشوش وفي أخرى بخثوش وبخشوش.
من المدينة وسيدي محمد المحفوظ وغيرهم وأما العامة فنحو الثلاثمائة والحمد لله لم يمكثوا في البحر إلا اثني عشر يوما ونزلوا الإسكندرية عند الحاج أبي القاسم القراوي صاحب ولاية طرابلس إذ زبر له الأمير كتاب على ذلك فأكرمهم وأحسن إليهم جازاه الله أحسن الجزاء آمين وبالجملة فكان الإحسان من الأمير وعماله لنا ولأخواننا في الركب وللفقراء فكل ما سألناه وطلبناه لهم منهم إلا وجد بحب وكرامة رغبة في صالح الدعاء له ولذريته حتى انفصلنا عنها على أحسن حال وأكثر فرحي بهذا الأمير لما قام بحق الفقراء نعم أقام جماعة من بلد المنشية مع عامله القائد يحرسون الركب ليلا من السراق إلى أن ظعنا من عندهم وما فعله قط بركب من الأركاب إلا لنا حبا فينا ورغبة فيما لدينا شكر الله سعيه ولا خيب قصده وأدام الستر عليه وعلى أولاده إلى قيام الساعة مع عدم الضد ووجود الهداية والشفقة والعدل والرحمة لأنفسهم وللمؤمنين كان الله لنا ولهم وليا ونصير وقد أحسن إلينا جميع المحبين كل الإحسان بحيث أن من لم يصدر منه ضيافة تمنى أن يضيفنا أحسن الله إليهم لا سيما سيدي محمد بن مقيل وأصحابه وأما العارف بالله الذي علمه الله العلم اللدني فانه يفهم الدقائق من الحقائق والمعاريف (1) إذا لهم لطلب كل داء في الدين فلا يغفل طرفة عين عما يصلح به وبأحبائه حتى يكونوا على المحجة البيضاء يعلم ذلك من ثافنه وخالطه وأني صاحبت كثيرا من الناس غربا وشرقا وجوفا وقبلة ما رأيت من يفهم عن الله مثله فانه له ملكة عظيمة يفهم بها المعاريف (2) الإلهية حاصله قد فتح الله له في التعرف ما لم يكن لغيره ومع ذلك ليس قاصرا في العلم الظاهر فترى معاملته ومخالطته ليس إلا على الشريعة المحمدية ومع هذا لا يغفل عن المواساة لمن يعرفه ومن لا يعرفه خصوصا المحتاج فإنه أزيد رحمة وأقوى شفقة وأحسن رفقة وما
__________________
(1) كذا في جميع النسخ.
(2) كذا في جميع النسخ.
أشده صبرا وتحملا لإذاية الإخوان والأحباب خصوصا في السفر وهو الذي يؤدي حقوق الأخوة فيشاطر بالمال غير ما مرة إخوانه أولى من نفسه وهو معي بأزيد من هذا بحيث لا يملك لجانبا شيئا ومن كان معنا في الرفقة كان في داره ذهابا وإيابا وكذا ما معنا من العيال والدواب كل ذلك في عياله وأوصافه تقصر العبارة عنها لكن التلويح يغني عن التصريح نعم الكل شمل واحد وأمر الجميع متحد ومهما عزمت على شيء ووصلت إليه ذهب من غير موادعة ولا كلام منه إلى ولا مني إليه في جميع ما حتجت إليه فحزمت وجزمت وجزم أن قرابتي وقرابته أيد الله الجميع بالتمكين وحلى جميعنا بحلية المتقين وودعنا من في المدينة من العلماء والصلحاء لا أحصيهم عددا إذ كثير من يحبنا لا أعرف أسماءهم وأما في المنشية فأكثر من أن يحصى هذا وإن أهل الصلاح بالمنشية والساحل والهنشير وأفرون بحيث من فيه قوة الشم يعلمهم بنفس رؤيتهم إلا من أصابه زكام المعاصي وتراكمت عليه الحجب فلا يظهر له أحد وقد قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه المرء مخبوء تحت لسانه إن تكلم فمن حينه وإن سكت فمن يومه اه ـ أي إذا تكلم عرف حاله من كلامه إذ ما كان فيك ظهر على فيك كل إناء بما فيه يرشح إن عسلا فعسل وإن خمرا فخمر وإن سكت فمن يومه أعرفه من أفعاله كحركاته وسكناته إذ كل ذلك لا بد وأن يكون موافقا للسنة المحمدية إذ لا يجوز للإنسان أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه ولا شك أن كل حركة وسكون يصدر منك إلا وأنت مسئول عنه لم تحركت ولم سكنت وبالجملة فأهل هذا الوطن خيرهم ظاهر وحملهم بيّن وحبهم لأهل الله قوي.
ولما خرجنا من دار أخينا في الله والود من أجله سيدي محمد الشريف اجتمعت الشرفاء صغيرا وكبيرا وكذا جيرانهم وغيرهم من أهل الخير كالسوق وأعظم محبة في الله ورغبة فيما عنده [فكنا في التوديع من صبيحة ذلك اليوم حتى ارتفعت الشمس
ارتفاعا ظاهرا جليا ثم كذلك](1) في التوديع إلى أن وصلنا إلى قرب الهنشير خرج لتوديعنا أولاد الشيخ سيدي الصيد كأولاد سيدي أبي بكر نجل الشيخ سيدي عبد الحفيظ وأولاد سيدي عبد اللطيف فودعونا أيضا مع أصحابهم وهم من المحسنين إلينا ثم ذهبنا بعد ذلك مع التوديع إلى أن وصلنا أطراف تاجوراء فدخلنا لزيارة الفاضل الكامل الصالح الكبير السن عظيم الشأن واضح النجاح ظاهر الصلاح سيدي عبد اللطيف أنا وجماعة من طرابلس سيدي الشيخ المفتي سيدي محمد بن مقيل وعوض ولدنا سيدي محمد نجل الفاضل العالم محبنا سيدي محمد بن محمد العربي وجماعتهما فدعا لنا بالخير وقد رغب فينا رغبة عظيمة إذ كان محبا لنا فيما مضى ومحسنا إلينا غاية الإحسان فقد كان أصدق الناس لدينا غير أنه كان قبل ذلك يسمع ويبصر فالآن ثقل سمعه وضعف بصره فلا بد من مسمع والمسمع له ولد بنته إذ هو الذي يخبره أن هذا فلان وفلان ولما علم بنا شد يدي شدا وثيقا رغبة وحبا وشوقا وعشقا فينا وقد سر بنا سرورا عظيما أظنه والله أعلم انه من قوم لا يشقى بهم جليسهم حقق الله له ذلك بمنه وكرمه آمين فلما خرجنا من عنده لقينا جماعة من فضلاء تاجوراء كطلبة الشيخ سيدي محمد بن النعاس وبعض أولاده وأولاد أخيه وكذا أهل الفضل من تلك القرية من الفقراء والمرابطين والعلماء والصلحاء ومن فيه نسبة من النسب المعظمة شرعا إلا أتى إلينا رغبة في الدعاء من جانبنا ونحن كذلك بل أشد رغبة والفقير المضطر الخائف من ذنبه الوجل من عذاب ربه زابر هذا الكتاب فانه متعلق بهم ومريض بحبهم فليس مقصدي ومنيتي إلا السكنى في أرضهم لكثرة خصب أهل المحبة بحيث لا يصيبك ضيق ووحشة فإن حي ليلى عندهم عامر بما في القلب مشغوف إلا أن الموانع الشرعية منعتني من الإقامة هناك وقد كثر عيالي أعني بناتي وأولادي ومحاجري الذين قدّمت عليهم ونيّبت عنهم ولم
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة وفيها فكلنا في التوديع إلى أن وصلنا إلخ.
تكن لي رغبة بعد المجاورة عنده صلى الله عليه وسلم إلا في هذا المحل وإن كان وطننا كذلك في الحب وأهله غير انه كثرت فيه العوائق والعلائق حاصله كلت العبارة عن النزر القليل من أوصافهم الحسنة غير أن ما ذكرناه فيه الكفاية لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد.
[وتاجوراء هذه قرية طيبة فيها أشجار وفيها فاكهة ونخل ورمان نعم](1) رمانها لا نظير له فيما رأيت إلا في مواضع قليلة وقد وجد في قرية عندنا تسمى بقرية أمالو فإن رمانها أولى من هذا وأحلى منه وفيها مدرسة كان يقرأ فيها الشيخ النعاس وبعد ذلك قرابته وقد علمت أن محل العلم محل عظيم عند الله يجب علينا تعظيمه شرعا فإنهم قوم لا يشقى بهم جليسهم نعم صليت الظهر فيها وذهبنا منها.
تتمة أقول قال شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر ف رحلته ما نصه أقول تاجورة بوزن باكورة قال التجاني وهي قرية عامرة وبها قصر متسع يجتمع على دور كثيرة وفي وسط هذا القصر حصن أقدم منه بناء يقال أن حميد بن جازية (2) ابتناه وشارك فيه في العمل بنفسه ليحصن أهل الموضع على إتمامه وهو الذي عمر هذه القرية ونقل إليها أهلها من أرض هنالك تعرف بأرض عبد ربه (3) وكان ابتداء عمارتها عام خمسين وخمسمائة (550) وهم يدعون أنهم من العرب ويتنسبون إلى تميم ويذكرون أنهم سكنوا الأرض المعروفة فأرض عبد ربه من حين الفتح الإسلامي ثم نقله منها حميد إلى هذه القرية قال وبتاجورة السفرجل الذي لا يوجد في بقاع الأرض مثله قال وليس يقرب منه إلا السفرجل الموجود في نفزاوة انتهى.
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(2) في نسخة جارية.
(3) في نسختين عبد رب وفي أخرى عبده.
قلت والذي نعرفه في ضبط هذه البلدة تاجوراء كعاشوراء انتهى.
تتمة أننا نزلنا في وادي المسيد (1) فوق المسجد وهو واد متسع والركب سبقنا ونزل في وادي الرمل وهو واد متسع ماؤه لا ينقطع في جميع الأزمنة الأربعة وذلك بأواخر شعبان ومعنا جماعة من المحبين ذهبوا معنا لتوديعنا كالود الصدوق الشيخ المفتي سيدي محمد وخواص أصحابه وصاحب معه طعاما ولحما وليما وغير ذلك من أنواع الأطعمة ومعنا أصحاب سيدي محمد الشريف سيدي محمد بن عبد الخالق محب الجميع وبعض الأشراف وولد المحب في الله وهو أخ لنا وعوض ولدنا سيدي محمد نجل الشيخ الولي الصالح سيدي محمد ابن سيدي محمد المعزي (2) ثم رجع الجميع عنا وودعنا في يد الله تعالى أقول قال شيخ شيوخنا المذكور ما نصه ونزلنا غافقا بعد العصر قال التجاني وهو قصر خرب خال من العمارة انتهى وبه الآن بئر غزيرة الماء ينزل إليها بادرج وماؤها لا بأس به.
ثمر ارتحلنا منه ومررنا بواد يقال له وادي الرمل وهو واد متسع عذب الماء لا ينقطع ماؤه كما ذكرنا ومبدؤه من الجبل قاطعا إلى البحر لا بد لكل مشرق يجعل الجبل يمينه ومغرب يسرته وهو واد مخصب من أعلاه فيه مزارع تخرج إليه ماشية أهل طرابلس وسواحلها أيام الربيع وربما أخرج الحجاج إليه إبلهم مع رعاتها أيام أقامتهم بطرابلس واصل مائه من عيون تنبع في أثنائه تبتدئ من مسافة قريبة من الجبل إلخ ثم قال وقال التجاني وفي عالية عند سفح الجبل قصر يعرف بصيبان (3) بكسر الصاد المهملة تليها ياء معتلة ثم باء مفردة وهو معمور قال وبقرب البحر في
__________________
(1) في جميع النسخ المسيل.
(2) انظر ما قيل في الصحيفة 140 والسطر 1.
(3) في نسخة صيبار.
أسفل هذا الوادي بئر تعرف ببئر طشاتة (1) بضم الطاء المهملة وتشديد الشين المعجمة بإزاء قبر يعرف هذا الموضع به فصار القبر علما له وهو لرجل من العرب ثم من ذباب ثم من بني عيسى منهم واسمه شهران (2) بن عيسى بن عامر بن جابر بن فائد ابن رافع بن ذباب وكان هذا الرجل ذا رئاسة في قومه وصيت بعيد واشتهر بالكرم فلم يذكر منه في وقته غيره وفيه يقول شاعر العرب :
حمى
الأرض شهران بن عيسى بن عامر |
|
وعرض
الفتى أن ضيع المجد تالف |
والأعراب الآن نزلوا هناك ولم يكن لهم زاد أقاموا على قبره فنادوه يا شهران بن عيسى أقر ضيافك فيذكرون أنهم لم يبيتوا قط دون عشاء أما بصيد يباح لهم أو فضالة (3) يلقونها أو بغير ذلك قال وهذا الأمر حدثنا به جماعة منهم وهو مشابه لما يذكره المؤرخون على حاتم الطائي أنهم كانا ينزلون بقبره فيقريهم وفي ذلك يقول الشاعر يمدح عدي ابن حاتم :
أبوك
أبو سباقة (4)
الخير لم يزل
|
|
لدن
شب حتى شاب في الخير راغبا |
قرى
قبره الأضياف إذ نزلوا به |
|
ولم
يقر قبر قبله الدهر راكبا |
وحكى أبو عبيدة قال نزل أبو الخيبريّ في نفر من قومه بقبر حاتم فجعل يناديه يا أبا عدي أقر ضيافك وقال له أصحابه كيف تنادي رمة بالية فقال أن طيئا تزعم انه لم ينزل به أحد قط إلا قراه فناموا فانتبه أبو الخيبري مذعورا ينادي واراحلتاه
__________________
(1) في نسختين طشانة.
(2) في نسختين شهوان.
(3) في نسخة بضالة.
(4) هكذا في جميع النسخ وفي الرحلة الناصرية والمشهور سفانة وهو اسم بنت حاتم كما في ديوانه وفي كتاب الأغاني ج 16 وص 97 وكتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة وغير ذلك من الكتب.
فاستفهمه أصحابه على أمره فقال خرج حاتم بالسيف وأنا أنظر إليه حتى نحر راحلتي فنظروا إلى راحلته تتشحط في دمها فقالوا له قد والله قراك وأخذوا يأكلون من لحمها ما شاءوا ثم ارتحلوا صباحا فنظروا إلى الركب يقود بعيرا وهو يسأل عن أبي الخيبري فقالوا له من أنت فقال أنا عدي بن حاتم وإن حاتما أتاني الليلة فذكر ما تقدم من ذبح بعيره وأتى له حينئذ بعوضه ولذا قال الشاعر (1) :
أبا
الخيبريّ وأنت امرؤ |
|
ولوم
العشيرة شتامها |
أتيت
بصحبك تبغي القرى |
|
لدى
حفرة صرمت هامها |
أتبغي
لي الذم عند المبيت |
|
وحولي
طي وانعامها |
وأنا
نشبع أضيافنا |
|
ونأتي
المطي ونعتامها |
وقد أمرني أن أحملك على بعير مكان راحلتك فدونكه اه ـ.
ومررنا بعد بوادي المسيد وهو كالذي قبله أو أخصب منه وماؤه غزير لا ينقطع على الدوام أيضا ويكثر في أوقات السيل لأنه يجتمع إليه ماء جبال مسلاتة من أعلاها إلى أن قال وبهذه المراحل شجر العشر كصرد القاموس فيه حرّاق كسرد ولم يقتدح الناس في أجود منه ويحشى في المخادّ ويخرج من زهره وعشبه سكر معروف وفيه مرارة قال التجاني وهو شجر ناعم النبات شديد الخضرة إلى السواد مائل هو ينبت صعدا وله أوراق عظيمة ونور مشرق حسن المنظر كنورة الدفلي وتمر أخضر تملأ الواحدة يد حاملها وهي مملوءة بشيء يشبه القطن تسميه العرب الخربع بضم الخاء المعجمة وسكون الراء وضم الباء وربما حشيت منه المرافق والوسائد.
قال وأخبرني من يوثق به أنه رأى ثيابا صنعت منه ولا يأكله حيوان وهو شجر
__________________
(1) في هذه الأبيات روايات أخرى في الكتب المذكورة آنفا في الصحيفة 174 وعدد 5.
كثير اللبن وليس شيء من اللبن على اختلاف أنواعه أكثر لبنا منه ويجنى منه مغافير واحدها مغفور بضم الميم وهو صمغ حلو كريه الرائحة يقال له سكر العشر وفي الحديث أكلت مغافير وهو من هذا ولا تكون المغافير إلا فيه وفي العرفط والرمث والثمام أكثرها مغافير وليس في كلام العرب مفعول بضم الميم إلا مغفور هذا ومغرود بالغين المعجمة لضرب من الكمأة ومنخور لغة في المنخر ومنابت الشعر القيعان وبطون الأودية وقد ينبت بالرمل.
قال ابن البيطار في أدويته ولم أر منه شيئا بالأندلس وأول ما وفقت عليه بظاهر طرابلس الغرب بالجهة الشرقية منها يشير إلى هذا الموضع ثم قال بعد ذلك بديار مصر بظاهر القاهرة إلى أن قال ثم قال التجاني وكانت العرب تستجلب المطر إذا احتبس عنهم بشجر العشر وشجر السلع بفتح اللام والسين قلت وفي القاموس السلع محركة شجر مر أو سم أو ضرب من الصبر بفتح الصاد وكسر الباء وبقلة خبيثة الطعم قال يعمدون إليها فيأخذون منها أغصانا فيجعلونها في أذناب البقر ويشعلون النار فيها ثم يصعدونها إلى الجبل فيزعمون أنهم يمطرون في وقتهم وهو قول أمية ابن أبي الصلت :
سنة
أزمة تخيل بالناس م |
|
ترى
للعضاه منها صريرا |
لا على
كوكب يلوح ولا ريح م |
|
جنوب
ولا ترى طخرورا |
ويسوقون
باقر السهل للطود م |
|
مهازيل
أوشكت أن تبورا |
عاقدين
النيران في ثكن الأذناب م |
|
منها
لكي تهيج البحورا |
سلعا
ما ومثله عشرا ما |
|
عائلا
ما وعالت البيقورا |
تخيل بالناس أي تطعمهم في المطر والطخرور القطعة من السحاب بالخاء المعجمة وبالحاء المهملة والبيقور جماعة البقر وهو ضرب من السحر ولله در القائل
يعيب عليهم فعلهم هذا :
لا
دردر رجال خاب سعيهم |
|
مستجلبون
نزل الغيث بالعشر |
أجاعل
أنت بيقورا مسلعة |
|
وسيلة
لك بين الله والمطر |
قلت وهذا من جهل العرب وهو كثيرا إلى أن قال وفي تورغت بئر عذب ماؤها حفرها الأخ في الله سيدي عبد السلام بن عثمان وغرس عليها شجرة من شجر التوت لقصد ابن السبيل فيشرب من ماء البئر ويستظل بظل الشجرة تقبل الله منه وشكر سعيه وقد صدق في ذلك لكون المحال معطشة في زمان القيظ.
غريبة وذكر شيخنا العياشي في رحلته قال أخبرني الشيخ الأجل قاضي مدينة المقدس محمد النفاتي التونسي أيام لقائي له بالقدس الشريف أنه حج في صغره مع أخيه أبي الحسن النفاني أمير الركب فمروا بهذا المكان في زمان القيظ فالجأهم العطش إلى بئر في وادي ينّوت إلى أن قال يعني أن الركب اضطرهم العطش إذ قليل ما يسقون منه فنزلوا عليها قائلة ووافقتهم هنالك فقول قدمت من فزان حاجتهم مثل حاجتهم فمن قائل يقول نرتحل هذا الوقت لندرك الماء قبل حلول الهلاك ومن قائل نؤخر إلى آخر النهار قال لي الشيخ فدخلت على أخي فأخبرته بذلك وقلت له أن الناس قد اشرفوا على الهلاك واضطرب أمرهم في الرحيل فأمرهم بالرحيل لئلا يهلكوا قال فاغتم لذلك واستند في خبائه كالنائم فلما أفاق قال لي ناد في الناس بالإقامة وقل لهم يذهبوا لسقي الماء فقلت له أبك جنون أنا أخبرك أنه لا قطرة فيها والناس قد اشرفوا على الهلاك فقال لي أفعل ما أمرتك به فقلت له لست بأحمق أنادي بالإقامة على غير ماء فلما أبيت نادى خديمه الغلام وقال له ناد في الناس بالإقامة والذهاب لسقي الماء فلما سمعت ذلك استحييت وتغيبت فأقام الناس وذهبوا إلى البئر فوجدوها قد امتلأت بالماء حتى كاد أن يفيض من جوانبها فاستقى الحجاج
وجميع القوافل والماء كما هو.
وقال لي الشيخ فلما رأيت ذلك ذهبت إليه وقصصت عليه الخبر فقال لي لما أغفيت عند ما أخبرتني بخبر الناس رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي مر الناس بالإقامة فعلمت أن الله سيجعل لهم من أمرهم فرجا قلت ولا يستعبد هذا في حق وفد الله وزوار نبيه صلى الله عليه وسلم فإن لله بهم عناية ولهم منه أعظم وقاية.
ولقد أخبرني عن أخيه هذا بأمور من جنس هذا في سفرته تلك وفيها توفي بقرية الينبوع التي ينزلها الحاج وقبره إلى الآن ظاهر عليه بناء خفيف على تل مشرف بحري منزل الركب المغربي وكنا نزور قبل ذلك المحل ولا نعلم من دفن فيه حتى أعلمني القاضي المذكور والله يغمرنا وإياه رحمته آمين اه ـ.
انعطاف إلى ما كنا بصدده وهو انه لما ودعنا أحباؤنا المذكورون توديع ذي كآبة عند الافتراق مررنا مسرعين لنلتحق الركب إذ سبقنا بساعات فعند الاصفرار لحقنا به فوجدناه في سفح الجبل أي قبل ابتداء محل الوعر فنزلنا عليه ففرح الركب بلحوقنا ونزولنا عليهم فلما أصبح الله بخير الصباح ظعنا منه ومررنا على تلك الأوعار ثم كذلك إلى وقت العصر فنزلنا ساحل حامد وفي تلك الأوعار كان أولاد الشيخ بو عصيدة الذين كانت عادتهم يضعون مائدة من العصيدة للركب بلحم وفي الحجة الأولى لقيت من أولاده الفاضلين الأخوين الشيخين ضل عني أسماؤهما لطول العهد فقال لي أحدهما عند الافتراق أنت تجاور مصر في شأن العلم وكنت قد عزمت على ذلك فأخبرني بما في قلبي وقال له الآخر فإنك لم تر شيئا وإنما هو إذا حج فيرجع فان فلانا قد مات أعني صاحب الوهب الرباني والجذب الصمداني وهو أمي لا يقرأ سيدي عبد الرحمان المجذوب الخلادي الملقب أقطال من جبال بجاية من
عمالة الجزائر نفعنا الله به آمين وقد مات ذلك العام قبل وصولنا مصر وقبره هناك بقرب من قبري (1) الشيخ الخرشي والشيخ عبد الباقي والشيخ خليل المالكي في القرافة الصغرى فيتولى هذا أمره وينتفع به أهل بلده فسكت الآخر وسلم له نفعنا الله بهما وبأسلافهما.
ثم إن ساحل حامد بلدة طيبة ذات زيتون ونخل وعمارة يبدو حسنها للرائي وهي في رأي العين لا نظير لها لكثرة مائها واتساع أرضها مع استوائها وجودة ترابها فبساتينها روضة من الرياض مجدولة جداويل (2) مع استواء بيوتها وتحسين أضلاعها فإن المرء إذا وصلها زال عليهم الهم والنكد لأن رؤية الخضرة والبحر والوجه الحسن تزيل الهم عن القلب وتفرج الغم عن الصدر وفي هذا الساحل أفاضل أحياء وأموات.
منهم أولاد الشيخ الفاضل ذي الفضائل والفواضل العلامة الكامل والفهامة الناقل ذي التآليف الحسنة والتصانيف المتقنة وقد رأيت بعضا منها كشرحه لابن عاشر فانه قد أجاد فيه وكذا كتابا في التنبيه على المحدثات في هذا الزمان من رقص الفقراء وتواجدهم ومعاملتهم فيما بينهم وادعائهم ما لم يصلوا إليه وعصيانهم وعدم امتثالهم ما يقتضيه الشرع وعدم اتعاظهم وسماعهم لذلك وبعدهم عن العلم وأهله وأنهم ظنوا أن الفتح على أيديهم وليس لغيرهم فيه نضيب غاية ما وصل إليه علماء زمانهم العلم الظاهر والسكون تحت النقول وذلك طريق العامة والمعتبر في زعمهم طريقهم إذ يعتقدون التنافي بين الشريعة والحقيقة والحق خلافه فإن الحقيقة لب الشريعة وغير ذلك من البدع.
__________________
(1) كذا في جميع النسخ.
(2) كذا في جميع النسخ.
وقد سلك في هذا التأليف مسلك أبي عبد الله ابن الحاج صاحب المدخل وابن أبي جمرة في شرحه لمختصر البخاري والشيخ عبد الكريم الزواوي في شرحه للوغليسية والشيخ الأخضري في قصيدته القدسية والشيخ زروق في عمدة المريد وكتاب البدع وغيرهم ممن بين أصل البدع وحوادث الأوقات وله أيضا كتاب في الطب وسمعت أيضا أن له شرحا على قصيدة البهلولي في أحكام العزية وقد استعرناه من ولده العلامة الفاضل والفهامة الكامل المحب الود في الله ومن أجله سيدي أحمد بن عبد الصادق من تونس لأنه قد سكن فيها وهو مدرس في المدرسة الباشية وغير ذلك من تآليفه رضي الله عنه وذلك السيد علي بن الصادق وقد زرنا قبره وأولاد وأصحابه وجيرانه وكل على خير وفضل وكرم وجود وحلم وعلم ومهما زرنا الشيخ إلا أحسن إلينا غاية الإحسان في الضيافة أغناهم الله غناء لا يتبعه فقر آمين بل ربما زادوا علف الدواب زادهم الله شرفا نعم بركة الشيخ ظاهرة عليهم ولا شك أن الشيخ قد أصابه وابل من أشياخه نسأل الله تعالى أن يمن عليهم بالوسع والتوفيق إذ فيهم غاية السخاء والتكلف بما لا يستطيعونه ولذا كان أخونا في الله طيب (1) الدين سيدي محمد (2) الشريف البلغيثي ثم النوفلي يستثقل زيارة الشيخ لما يعلم من وقوع أولاده في كلفة عظيمة فترك الزيارة حينئذ بهذه النية الحسنة زيارة ونحو اعتبرنا الظاهر فكان الحق معه علما منا بضعفهم وقلة ذات يدهم غير أن المعطي حي غني.
وقد ورد في الشرع المنع من أمور مطلوب فعلها لمشاهدة المحظورات كحضور الولائم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال من دعي إلى وليمة ولم يجب فقد عصى أبا القاسم غير أنها إذا كان فيها محرمات كاختلاط النساء والرجال أو آلة محرمة يحرم
__________________
(1) في نسختين طبيب.
(2) في نسخة أحمد.
اتفاقا كالتماثيل وصور لا يجوز مشاهدتها إن كانت مستقلة ولها ظل وفي الجبل الذي غرب الساحل يمنة الماشي في الطلعة بلاد مسلاتة ذات زيتون كثير وزيته كاد أن لا تفرق بينه وبين السمن لا سيما الذي يضربونه في الماء وقد بين صفته الأخ السابق سيدي محمد الشريف وله أملاك هناك زاده الله فيها حتى يكون مشطرا لأهلها مع نفض اليد من الدنيا رأسا حتى تكون من الله وإليه وعلى هذه الحالة علمته الآن نعم مكنه الله من الزهد الحقيقي إذ الزهد على ثلاث مراتب زهد العامة في الدنيا فإنهم لا يفرحون إذا أتت ولا يحزنون إذا ذهبت وهذا الزهد أوجبه الله على كل مسلم وزهد الخاصة فإنهم يفرحون إذا ذهبت لأنها سم ويحزنون إذا أتت وأما الخاصة فلا يشاهدونها ذهابا واتيانا (1) لأنك إذا فرحت بذهاب أحد فليس ذلك إلا لكونه عظيما عندك وهذا معلوم في الشاهد وأخونا هذا غيبه الله عن الأكوان بمشاهدة المكون حقق الله لنا معه ذلك بمنه وكرمه أقول قال شيخ شيوخنا المذكور ما نصه عند ذكر ذلك الجبل الذي هو غرب ساحل حامد وفيه مسلاتة وغيرهم.
قال أبو سالم في رحلته وهو آخر الجبل الذي لا نظير له في الدنيا طولا وعرضا وخصبا وماء وقرى متصلة وعمرانا متراكبا وقبائل وافرة غالبها البربر وأوله من البحر المحيط أطراف السوس الأقصى ثم يمتد كذلك إلى أن يمر قبلي مراكش وهو المسمى جبل درن ثم يمتد كذلك إلى بلادنا ثم إلى أن يقارب البحر قرب تلمسان ثم لم يزل يساير البحر وإن كان يبعد عنه في بعض المواضع ويسمى في كل بلد باسم وربما تعددت أطرافه فيسمى كل طرف باسم إلى أن ينتهي هنا بأطراف برقة وقال صاحب تقويم البلدان أنه يمتد من أطراف السوس الأقصى من البحر المحيط إلى أن يبقى بينه وبين الإسكندرية خمس مراحل.
__________________
(1) في نسخة إيابا.
قلت وكأنه جعل بلاد برقة كلها والجبل الأخضر منه لأن ارض برقة مرتفعة على ما يجاورها من بلاد فزان ونواحيها والبحر من الناحية الأخرى إلى العقبة الصغيرة وبينها وبين الإسكندرية خمس مراحل والظاهر ما ذكرنها أولا وهو الذي اقتصر عليه غيره فغرب هذا الجبل في كل البلاد بلاد مخصبة ذات أنهار وعيون وأشجار وقبلته صحراء ذات نخيل ورمال في البحر المحيط من أطراف السوس الأقصى إلى آخر برقة انتهى إلى أن قال وفي سفح هذا الجبل الذي يلي ساحل حامد مدينة عظيمة يقال لها مدينة لبدة قد خلت في العصور الأوائل وبقيت آثارها ورسومها قد أكل البحر كثيرا منها وفيها مبان عظيمة ، وهياكل جسيمة ، وأبراج مبنية بالحجر المنحوت في غاية الإتقان قد هرم الدهر وما هرمت ، وتعاقبت عليها الأزمنة وما ثملت ، فترى الأبنية مائلة متقابلة على رؤوس الجبال مد البصر بحيث يحكم الحدس إن كل ما كان داخلها كان مدينة واحدة إلى البحر وترى أعمدة الرخام وغيره واقفة في وسط البحر قد أحاط بها الماء بحيث لا يرتاب أن البحر قد أكل كثيرا منها. ومن هذه المدينة ينقل كثير من أعمدة الرخام إلى طرابلس وإلى مصر وإلى غيرهما من البلدان ويقال أن بانيها الملك دقيوس وبعد وفاته تملكتها امرأة اسمها رومية وبعضهم ذكر أن (دمشق ابن) النمرود لما بنى دمشق بقي ثلاث سنين وبعث ولده وأمره أن يبني مدينة بالمغرب فبنى هذه المدينة وجلب إليها الماء من وادي كعام في بناء متقن يحار الناظر فيه وأثر البناء وممر الماء باق إلى اليوم متصل من جوف (1) الوادي إلى أطراف المدينة إلا أن ماء هذا الوادي إلا قليل آجن ويزعم أهل البلد أن ماء هذا الوادي كان حلوا غزيرا أيام عمارة المدينة وكان مما يؤثر عند أهلها أنه إذا بدأت الملوحة في ماء الوادي فذلك علامة خرابها فلما بدت فيه الملوحة أخذ أهلها في الانتقال منها والله أعلم أنى ذلك كان.
__________________
(1) في نسخة حرف.
وقد ذكر العبدري في رحلته هذه المدينة وذكر انه وجدها خالية والذي يظهر أنها خلت قبل الإسلام إذ لم يذكرها أحد ممن ذكر فتوح أفريقية والله اعلم بغيبه.
غريبة أخبرني بعض أهل تلك البلاد أن الملك الذي بنى هذه المدينة وقع موتان في عسكره حتى تفانوا ولم يدر ما سببه فأمر بشق بطن واحد منهم وشق قلبه فوجد فيه دودة فعلم أن ذلك سبب موتهم فأمر بصب جميع الأودية عليها واحدا فواحدا فلم تمت حتى أخرج زيتا كان عنده في قارورة جاء بها من أرض الشام فصب عليها قطرة منه فماتت فعلم أن دواء ذلك المرض أكل لزيت فبعث إلى الشام وجاءه غرس الزيتون فأمر بغرسه في تلك الأوطان كلها من مصر (1) إلى سوسة وتونس وأعمالهما ومن تلك الساعة بقي الزيتون في هذه البلاد والله اعلم انتهى كلامه.
قال (ابن ناصر) وفي غير هذه الحجة رأيناها ورأينا فيها العجب العجاب ، وموعظة وذكرى لأولي الألباب ، ولله در القائل (2) :
لدوا
للموت وأبنوا للخراب |
|
فكلكم
يصير إلى ذهاب |
ثم قال ونخل هذا الساحل ردي التمر كله لا يدخر ولا ييبس إلا بعد إزالة النوى منه فيبقى كقطع الجلدة لا قوة فيه ولا حلاوة ولا طعم قال الإمام أبو سالم لا تكاد تفرق بينه وبين لحاء الشجر.
قلت وفيه تمر جيد يجعلونه بمساليخ (3) وأما جل ما يتقوتون (4) به فكما قال قال
__________________
(1) كذا في جميع النسخ وفي الرحلة العياشية مسلاتة وفي الرحلة الناصرية مسراتة.
(2) هذا البيت أول بيت من قصيدة لأبي العتاهية كما في ديوانه وفي كتاب الأغاني ج 3 وص 161 والشطر الأول منسوب للإمام علي كما في ديوانه ص 8 وهو عجز قوله «له ملك ينادي كل يوم».
(3) في جميع النسخ لأنفسهم وقد تبعنا هنا الرحلة الناصرية.
(4) في جميع النسخ يستوقون إلا الرحلة الناصرية.
وبهذه البلدة قبر الولي الصالح ذي الكرامات الكثيرة ، والمآثر الشهيرة ، سيدي مفتاح وهو على تل مرتفع بساحل البحر بينه وبين البلد في مكان يعلوه البهاء ، ويتفجر منه السناء ، تسكن النفوس إذا حلت به ، وتطمئن به القلوب إذا نزلت بقربه ، وهذا السيد ممن تؤثر عنه الكرامات الكثيرة وجربت إجابة الدعاء عند قبره فلا ينبغي لمن مر بذلك البلد أن يهمل زيارته وقد قيل أن قبره كان مختفيا وأظهره سيدي عبد السلام الأسمر وكان قد أظهر قبورا كثيرة للأولياء بذلك الساحل وأظهرت فرسه أيضا آخرين وذلك انه إذا ركب على فرسه ربما تمر بمكان فتبحث برجلها في الأرض فيقول لهم الشيخ احفروا فإن هنا قبر ولي فيجدونه فظهرت بذلك مزارات كثيرة وفقراء الساحل إلى الآن يعرفونها ويقولون هذا من الذين أظهرهم فرس الشيخ ولا بدع في ذلك فإن الكرامة في ذلك لراكب الفرس لا للفرس فقد بركت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم في مكان مسجده وعند ما دخلت الحرم يوم الحديبية وإذا كانت بركة النسبة للأنبياء عليهم السلام وللأولياء رضوان الله عليهم يظهر أثرها في العجماوات فما بالك في الآدمي الذي هو أشرف المخلوقات فلا تقصروا أخواني من خدمة الصالحين وزياراتهم وملاقاتهم وحبهم وحسن الاعتقاد فيهم فإن لذلك أثرا عجيبا في تليين القلوب وتسخير النفوس والله تبارك وتعالى يجعلنا من المحبين لأهل ولايته ويحشرنا مع حزبهم وفريقهم في دنياهم وآخرتهم.
وبازاء روضة هذا السيد بئر عذبة الماء باردة ثم قال ومررنا على أثار ساقية فيها قنوات تحمل الماء إلى المدينة المذكورة من عين هناك يقال لها عين كعام وفيها صنعة عجيبة وأبنية غريبة بحجارة منحوتة عظيمة تحار فيها العقول منها أحجار من أربعة أذرع فأكثر منقورة في وسطها نقرا متقنا والحجر في غاية الضلابة قريب من حجر الصوان.
قال شيخنا العياشي والحاصل أن من رأى ذلك استغرب أن تكون قدرة البشر واصلة إلى ذلك المقدار وعلم أن دهرا أفنى أولائك الأقوام جدير بأن يستأصل شأفة الأنام قال وفي هذا البلد تلقانا الشيخ الأخ في الله سيدي علي بن عبد الصادق في جماعة من طلبته وشيعنا وبات معنا وبالغ في القرى وأحضر تمرا وشعيرا وخبزا ودجاجا ولحما جيدا ودلاعا كثر الله خيره وهذه البلدة مثل التي قبلها انتهى بالمعنى وأكثره باللفظ مع زيادة من عندي ونقصان بما يناسب كل مقام.
تنبيه ما ذكره سيدي أحمد بن ناصر شيخ شيوخنا من أن سيدي علي بن عبد الصادق من بلدة زليتن فيه نظر أو أنه سبق قلم أو نسيان أو أنه أتى إليه ولقيه في ذلك الوطن وظن انه منه وأما احتمال أنه انتقل الشيخ من وطنه الذي هو ساحل حامد فأني قد سألت عنه وفحصت عن هذا الخبر فقال لي من يوثق بخبره أنه لم ينتقل من ساحل حامد أصلا غير انه يحتمل فاللائق الذي يعتمد لعيه هو الأول وإلا فالشيخ لا طيش معه لأنه في غاية التمكين رضي الله عنه ونفعنا به آمين.
تتمة بلدة زيلتن هذه الآن عامرة أكثر من ساحل حامد بزيادة عظيمة وشجرها أكثر منها وكذا كل نوع إلا أكثر ففيها الآن الخير العظيم دينا ودنيا.
وفي هذه البلدة فضلاء وصلحاء وعلماء وفي الرجعة اجتمعنا مع علماء الوقت كالفاضل الكامل الأديب الفقيه سيدي سالم وإخوانه وطلبته وقد عمر أوقاته بتدريس العلم نحوا وفقها وله فهم جيد.
وهذا سيدي سالم الفطيسي فانه أجاد في إكرامنا نهارا وعزم بنا إلى بيته تبركا بنا أحسن الله إليه إحسانا كليا وأتم عليه ما هو به وعلى ذريته وإخوانه إلى قيام الساعة فقد أقرى لنا لحما وكسكسا وتمرا ورمانا بحيث عدد علينا أنواع القرى والقرى
القوي هو الفرح والرغبة في العلم وأهله وكذا اجتمعنا مع فضلاء تلك البلدة كالمشارك في العلوم سيدي إبراهيم نجل الشيخ سيدي سالم فإن له اشتغالا بالتدريس نفعه الله ونفع به آمين وكذا جماعة من أهل الخير لا أعرف أسماءهم إلا أن الخير والفضل لائح على وجهوهم إذ أنوار الله لا تخفى على من له شم لرائحة الحقيقة وكذا لقينا إلى طريق الحاج محمدا رجل خير فاضل محب لصديقنا سيدي محمد الشريف البلغيثي وأتى إلينا بالرطب والخبز واللحم وجميع من مر من الركب أكل منه كثر الله خيره وبسط عليه رزقه.
هذا وأنا زرنا الولي الصالح والقطب الواضح سيدي عبد السلام الأسمر في الطلعة والرجعة أفاض الله علينا من بركاته وجعلنا في زمرته بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وآله وآل البخاري ورجاله وبالجملة فكراماته مشهورة ومآثره كثيرة ومعاليه بينة عند الخاصة والعامة فلم يبق إلا التعلق به وبأمثاله لتجبر قلوبنا وتشفى أسقامنا لا سيما أسقام الدين فإنها قد عمت ظواهرنا وبواطننا مع أعظم المفسدات له وهو ادعاء النفس ما لم تصل إليه غير أن بعضهم لا يدعي ذلك قولا وإنما يدعيه حالا بحيث إذا ذم وحط عن ما تدعيه نفسه من المقامات العالية تغير وتكدر أمره غايته إن كان من أهل العلم سكت عن قول السوء ويحمل نفسه على الصبر ولو لا ادعاؤه ذلك ما تغير إذ غاية ما قيل فيه أنه كذلك في الواقع وأما الجاهل فلا يصبر بل يبادر للسوء ويغلظ القول عليه بل ربما آل أمرهم إلى الضرب مع الشتم بل إلى القتال كما عينا ذلك من كثير من فتنة المرابطين في وطننا وقتالهم فإن أهل ذلك كله هو رعونة الدعوى وتمكنا منه اللهم بجاهه عندك وبجاه أمثاله أن تمن علينا بالبرء من الدين وشفاء أسقامه واحفظنا من كل بلاء دينا ودنيا بمنك وكرمك.
نعم هو رجل كما قال أبو سالم في رحلته من أهل المائة العاشرة كثير الكرامات
عالي المقامات من أجل تلامذة سيدي أحمد بن عروس نزيل تونس والغالب عليه الجذب في أول أمره وآخره وله تصرف قوي ويؤثر عند أهل البلد من تصرفاته آثار كثيرة يطول استقصاؤها وأخباره في قهر الجبابرة وفك الأسارى من أيدي الفرنج في حياته وبعد مماته شهيرة وهو من بلدة يقال لها الفواتر وأمه مغربية درعية (1) ولم تزل هذه البلدة التي هو منها مأوى الصالحين ووكر العابدين من قديم الزمان تواتر عند أهل البلد أنها لا تخلو من سبعة من أكابر الصالحين قالوا وهم ظاهرون بها حتى الآن وليس عليهم سمة متفقرة الوقت بل هم على هيئة العوام في ملابسهم ومساكنهم وحرفهم إلا أنهم قائمون على منهاج الشريعة وكل من رام أهل هذه البلدة بسوء يقصمه الله ولا يدخلها أحد بتجبر وتكبر إلا أذله الله ويذكر عن أهلها كرامات كثيرة.
قال وقد ذكر لي بعض الإخوان أن سيدي عبد الحفيظ قدم لزيارة أهل هذه البلدة ومعه بشر كثير كما هو شأنه إذا خرج فلما قرب من البلد نزل عن فرسه ومشى راجلا متواضعا إلى أن زار وخرج فقيل له في ذلك فقال لو دخلتها على الحالة التي كنت عليها خارجا من الركوب كهيئة المتبوع تخشيت على نفسي أو كلاما هذا معناها وبلدة الفواتر هذه بإزاء زاوية سيدي عبد السلام قريب منها بنحو من فرسخين (2) وفيها مزارات كثيرة للأحياء والأموات.
لطيفة أخبر الإمام العياشي في رحلته أنه أخبره أخوه في الله المجذوب السالك سيدي أحمد بن محمد بو نجيب (3) انه لما حدج بقي أمام النبي صلى الله عليه وسلم
__________________
(1) في الرحلة العياشية دراوية.
(2) كذا في جميع النسخ وفي الرحلتين العياشية والناصرية فرسخ.
(3) كذا في الرحلة الناصرية وجميع النسخ وفي الرحلة العياشية مجيب.
فقال في نفسه أني لا أذهب لزيارة حمزة ولا لغيره هذا يكفيني قال فأخذتني سنة فرأيته صلى الله عليه وسلم فقال لي يا أحمد يا حبيبي عم الرجل عوض أبيه قال فقمت في الحين وذهبت لزيارة سيدنا حمزة وحدي وكان وقت خوف ولقيت هناك ثلاثة رجال أحدهم الخضر عليه السلام.
ونقل عنه عن اللقاني أن الوزغ يتغذى بعينيه وانه أي اللقاني كان ذات يوم يأكل ووزغ ينظر إليه من السقف فأمر من قلته قال وشقوا بطنه فوجدوا فيه من الخضرة التي كان الشيخ يأكل منها انتهى.
وممن لقيه هذا الشيخ في هذه البلدة سيدي محمد بن سالم الزليتني وكان متبعا للسنة كثيرا وآثار الصلاح على وجهه تلوح وعرف الفلاح من بشره يتضوع ويفوح وكان من أهل الكشف نفعنا الله به ثم قال.
نادرة كان سيدي عبد السلام الأسمر الشيخ الأكبر يستعمل السماع بالدف إلا أنه كان رضي الله عنه ذا حال صادقة لا يقتدي به في ذلك وأراد خلفه والمنتسبون إليه اقتفاء أثره في ذلك فحقهم إتباع السنة واجتناب مواقع الظنة وليست الأحوال مما يورث ولا مما يصح فيه التقليد لأنها واردات من الحق تستعمل العبد بمقتضى وقته استعمالا جبريا فليس لغيره أتباعه في ذلك إن لم تظهر له موافقته المشروع.
ومما يحكى من ذلك عن الشيخ سيدي عبد السلام انه سمع ذات يوم بالدف فلما نقره سمعه كل من حضره يقول الله الله بحيث لا يمترون في ذلك قاله في رحلته شيخنا أبو سالم قال وهذا شاهد صدق في صحة سماعه وصدق حاله مع الله ومثل هذا له أن يسمع بأي شيء أراد من دف ومزمار لانقلاب سمة الملاهي في حقه ترياقا فعادت المخالفة للمشروع بانعكاس الثمرة وفاقا فسبحان من يخرج من بين فرث
ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ومن بين الدف والمزمار أحوالا سنية للمقربين.
وكان حج مع شيخنا الوالد رضي الله عنه وأرضاه بعض أهل زاويته وكان يسمع بالدف على عادتهم فبعث إليه الشيخ فقال له أن أردت مرافقتنا فأترك هذا السماع وإلا فاعتزلنا فاعتذر بان ذلك من عادة أسلافه فلم يقبل منه الشيخ ذلك ولم يزل به حتى ترك السماع.
قلت وقد عمت البلوى والعياذ بالله بانكباب أبناء الطوائف على السماع بالدفوف والمزامير وسائر الآلات والأشعار والألحان واتخذوا ذلك صراطا مستقيما ، وأتبعوا فيه شيطانا رجيما ، ونبذوا السنة وراء ظهورهم ، وزالت هيئة الشريعة من صدورهم ، وكان لهم ذلك ديدنا في سائر الأزمان ، فصاروا مسخرة للشيطان ، وفي الرسالة لأبي إسحاق الاولاسي قال رأيت إبليس في المنام على بعض سطوح الأولاس وأنا على سطح وعلى يمينه جماعة وعلى يساره جماعة وعليهم ثياب لطاف فقال لطائفة منهم قولوا فقالوا وغنوا فاستفزعني صيته (1) وهممت أن أطرح نفسي من السطح ثم قال ارقصوا فرقصوا أطيب ما يكون قال لي يا أبا الحارث ما أصبت شيئا أدخل به عليكم إلا هذا انتهى.
ولعمري كيف تسلم ديانة من يتعاطى السماع بالأغاني وإنشاد الألحان والأشعار إذ هو معشش الدسائس وأحق بالنزاع ومغرس التخليط والتلبيس وأدخل في الابتداع إلا من عصمه الله وقليل ما هم فلذلك كان إنكار السماع من كثير من العلماء وتحذيرهم منه لا سيما في حق العوام الباقية نفوسهم القائمة حظوظهم وكثير استعماله لكثرة الغرور وطفوح الجهل حتى ربما رأوه من أركان الطريق وربما
__________________
(1) في الرحلة الناصرية استفرغتني طيبة.
توغلوا فيه حتى تعاطوه بالآلات الملهية والأصوات الحسنة من الأحداث الملاح حتى كأنهم محاضر المنادمة وما أبعد هذا عن الدين وأهله وقد يكون الفتى من أهل البطالة والغواية واللهو والشرب ثم انه يتوب على أيديهم فيحضرونه في أمثال هذه المجالس وهذا الغناء وهذا اللهو فلا تزداد نفسه إلا قوة وجموحا ، ولا شهوته إلا كلبا وطفوحا ، نعم كان قبل التوبة منكسر القلب معترفا على نفسه بالإساءة متمنيا للخير والصلاح واللحاق بأهله والخير كله في هذا الوصف وفي الحديث القدسي أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ثم الحالة الأولى إلى الثانية وهذا العجب والاغترار هو العيب كله والشيطان يكتفي منه بذلك فلا يوسوس له أن يتعاطى تلك المعاصي السابقة لأن هذا العجب والاغترار أعجب إليه إذ لا يتمنى الانتقال والتوبة عن هذه الحالة أصلا وعدم الوسوسة بذلك تزيده اغترارا وإعجابا فيكون في مرضاة إبليس ما دام على تلك الحال وفي سخط الكبير المتعال نسأله العافية.
ولهذا قال أمام الطريقة الجنيد رضي الله عنه إذا رأيت المريد يحب السماع فاعلم أن فيه بقية من البطالة.
وقال الشيخ الإمام القدوة الهمام أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه سألت أستاذي رضي الله عنه عن السماع فأجابني بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ).
وقال أيضا رضي الله عنه رأيت في النوم كأن بين يدي كتاب الفقيه ابن عبد السلام وأوراقا فيها شعر مرجز وإذا بأستاذي رحمه الله واقف فتناول كتاب الفقيه بيمينه وتناول الأوراق بشماله فقال كالمنتهر أتعدلون عن العلوم العزية الزكية وأشار بيده إلى كتاب الفقيه إلى الأشعار ذوات الأهواء المردية وأشار بيده إلى أوراق الشعر ثم رمى بها الأرض ومن أكثر من هذه فهو عبد مركوز لهواه ، أسير شهوته ومناه ،
يسترقون به قلوب الغفلة والنسوان ، ولا إرادة لهم في الخير واكتساب العرفان ، يتمايلون عند سماعها تمايل اليهود ، ولم يحظ أحد منهم بما حظي به أهل الشهود ، لئن لم ينته الظالم ليقلبن أرضه سماء ، فأخذني حال وجد وبكاء ، وأنا أقول إلا أن النفس أرضية ، والروح سماوية ، فقال بلى إذا كانت الروح بأمطار العلوم دارة ، والنفس بأعمال الصالحات نباتة ، فقد ثبت الخير كله ، وإذا كانت النفس غالبة ، والروح مغلوبة ، فقد وقع القحط والجدب وانقلب الأمر وجلب الشر كله فعليك بكتاب الله الهادي ، وكلام رسوله الشافي ، ولم تزل بخير ما لزمتهما ، وقد أصاب الشر من عدل عنهما ، وأهل الحق إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وإذا سمعوا الحق أقبلوا عليه ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا انتهى.
وقال الإمام أبو العباس زروق وقد اتفقوا على منعه لما حدث فيه وبه من المفاسد حتى قال الشيخ محيى الدين رحمه الله السماع في هذا الزمان لا يقول به مسلم ولا يقتدى بشيخ يعمله أو يقول به.
وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه في قوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) نزلت في اليهود ومن كان من فقراء هذا الزمان مؤثرا للسماع بهواه آكلا مما حرمه مولاه فهي نزعة يهودية لأن القوال يذكر العشق وما هو بعاشق ويذكر المحبة وما هو بمحب والوجد وما هو بمتواجد فالقول يقول الكذب والمستمع سماع له ومن أكل من الفقراء طعام الظلمة حين يدعى إلى السماع يصدق عليه قوله تعالى : (لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ) الآية.
قال وعبر بعض الصحابة على بعض اليهود فسمعهم يقرأون التوراة فتخشعوا فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عليه جبريل عليه السلام فقال أقرأ قال وما أقرأ قال أقرأ (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ)
فعوتبوا إذ تخشعوا من غيره وهم إنما تخشعوا من التوراة وهي كلام الله فما ظنك بهذا أتعرض عن كتاب الله وتخشع بالملاهي والغناء انتهى كلامه.
وقال الإمام محيى الدين وكل ما سمع من الخشوع فهو على أحد أمرين أما قبل أو تحصل له مرتبة التمكين فالسماع عندنا حرام في ذلك الوقت أو سمع بعد التمكين بشروطه المعروفة التي قد ذكرناها في غير هذا الموضع فيعلم من هذا انه قد نزل من المقام الأعلى إلى مقام هو أسفل وأدنى لحظ نفسه ثم ذكر السماع وانه نزول كله وإن من لم يجد حاله إلا في السماع ويفقده إذا فقده فقد مكر به واستدرج فليبك على نفسه وليبحث على ما جنته يده فيجد ذنبا ضرورة لا بد من ذلك ثم قال والله يلبسنا وإياكم رداء التقوى والعافية ، ويحلنا وإياكم المراتب السامية ، ولا يجعلنا وإياكم ممن له إلى السماع أذن واعية ، فيكون من أهل القلوب الملهية انتهى.
وله في التدبيرات الإلهية السامعون شخصان شخص يسمع بنفسه وشخص يسمع بعقله وليس من سامع آخر ومن قال أنه يسمع بربه فهو نهاية درج سمع العقل لكن للعقل سمعان سمع من حيث فطرته وسمع من حيث الوضع فالذي له من حيث الوضع هو الذي قيل عنه أنه يسمع بربه وقوفا عند قوله عليه السلام عن ربه كنت سمعه الذي يسمع به فالذي يسمع بعقله يسمع في كل شيء ومن كل شيء وعلى كل شيء لا يتقيد وعلامته في ذلك البهت وخمود البشرية والذي يسمع بنفسه لا بعقله لا يسمع إلا في النغمات والأصوات العذبة الشهية وعلامته أن يتحرك عند السماع بحالة فنائه عن الإحساس ومهما أحس المتحرك في السماع فانه مسخرة للشيطان وإن لم يحس وفني عن كل شيء فهو صاحب نفس وتحت سلطانها وحاله صحيح الفناء ولا يأتي بعلم أبدا عقب هذا الفناء والحركة في السماع فان ادعى انه أتى بعلم فلم يكن فانيا ولم يكن سمع بعقله فانه تحرك ولم يبق له إلا أن يكون كاذبا
فإن سماع النفس لا يأتي بعلم البتة وسماع العقل لا تكون معه حركة فمن جمع بين الحركة والعلم فهو كاذب جاهل بالحقائق انتهى الغرض منه فقس هذا الكلام على أهل زمانك تر العجب العجاب والله يلهمنا الصواب ويعصمنا من الزلل ويوفقنا لصالح القول والعمل.
قال الشيخ أبو القاسم القشيري سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله تعالى يقول السماع حرام على العوم لبقاء نفوسهم مباح للزهاد لحصول مجاهدتهم مستحب لأصحابنا لحياة قلوبهم انتهى.
قلت وإلى هذا الكلام والله اعلم يشير صاحب نظم المباحث الأصلية حيث يقول :
وإنما
أبيح للزهاد |
|
وندبه
إلى الشيوخ باد |
فهو على
العوام كالحرام |
|
عند
الشيوخ الأجلة الأعلام |
قال الإمام زروق أما أباحته للزهاد الذين لا أرب لهم في الشهوات المستلذات ولم يبلغوا مرتبة التحقيق والذوق فانه لا يضرهم فيمنع ولا ينفعهم فيندب وأما الشيوخ فانه يثير منهم الحقائق فتنتشر في عوالم الأجسام ثم تتسع في ميادين الحضرة فيكون للحضار منها نصيب لأن من تحقق بحالة لا يخلو حاضروه منها وكل ما أفضى إلى الكمال فهو كمال وأما تحريمه على العوام فمن جهة انه يثير نفوسهم ويحرك شهواتهم وغيرها من الطبائع والعوائد الردية وهذا فيما يحتمل وصوّر له وفيما يوافق الحق بمعناه من حيث الطباع لأن الشعر من محامد النفس فهو يقويها ما لم تكن ميتة.
وفي ذلك قالوا أن الغناء مرقاة الزنى وانه ينبت النفاق في القلب انتهى قلت وكلام أبي علي الدقاق هذا هو فصل الخطاب والتوسط بين الخطاء والصواب.
ونحوه قول الشبلي وقد سئل عن السماع قال ظاهره فتنة وباطنه عبرة فمن عرف الإشارة حل له استماع العبرة وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرض للبلية وقال بعضهم لا يصح السماع إلا لمن كانت له نفس ميتة وقلبه حي فنفسه ذبحت بسيوف المجاهدة وقلبه حي بنور الموافقة.
واتفقوا انه لا بد للسماع من زمان ومكان وإخوان ولذلك قيل للجنيد رضي الله عنه ما لك لا تسمع فقال ممن قيل من الله فقال ومع من وقولوا السماع على قسمين سماع بشرط العلم والصحو فمن شرط صاحبه معرفة الأسامي والصفات وإلا وقع في الكفر المحض وسماع بشرط الحال فمن شرط سامعه الفناء عن أحوال البشرية والتنقي عن آثار الحظوظ بظهور أحكام الحقيقة وهذا والله اعلم هو في سماع الأشعار المشتملة على الأوصاف الصالحة لأهل النفوس ولأهل الأرواح قد علم كل أناس مشربهم كسماع أبي الحسن في الطريق قول القائل :
رأى
المجنون في البيداء كلبا |
|
ـ الأبيات
والقصة |
وأما الأشعار الوعظية المشتملة على التذكير بالله تعالى والترغيب فيما عنده والتنفير عن الدنيا والتحضيض على التقوى فهي سليمة الجناب تصلح للعوام والعباد والزهاد وبالجملة فالسماع ورطة لأهل النفوس والشهوات وروضة لأهل الفهم عن الله تعالى وهؤلاء يسمعون من كل شيء ولا يتوقف سماعهم على طيب النغم كما تقدم عن صاحب التدبيرات ويشهد له حكاية يا ستعر بري وما فهم منه كل من الثلاثة المذكورين في حكاية أنظرها في لطائف المنن انتهى.
أقول وحاصل معناه أن شخصا نادى آخر يبيع السعتر البري فالمريد فهم أسع تر بري والسالك فهم الساعة ترى بري والواصل فهم ما أوسع بري فكل قد فهم بحسب مقامه وشربه قد علم كل أناس مشربهم فالمريد مأمور بالعمل ليرى
الإحسان من الله والبرور والسالك ينظر الفتح ولذلك فهم الساعة ترى بري والواصل في حال شهوده وتجلي المحبوب على قلب ففهم في حال شهوده من هذا اللفظ ما أوسع بري.
هذا معنى قوله يسمع من كل شيء ولا شك أن في كل شيء آية تدل على الله في الجملة وعند أهل الحق لهم خطاب منهما يخصهم بحسب مقامهم من الحب وغيره.
وقد قال بعض العارفين مكثت أربعين سنة أخاطب الخلق بخطاب الحق وذلك لغلبة الشهود عليه والحضور لديه فلم يصح تصور الغفلة عليه ولا النسيان منه ولذلك كان به ومنه وإليه فكان الله سمعه وبصره كما هو في الحديث القدسي فليس عند هذا في الوجود إلا الحق أن سمع سمع به والباطل منعدم البتة في حقه فلا تقسيم فيه وإنما التقسيم فيمن يغيب عن نفسه تارة بمشاهدة محبوبه ويشاهدها أخرى فإن كان يسمع بالله ومن الله فسماعه حق لا يقول مسلم بحرمته وإنما هو آثار عليه حال الشهود وإنما الكلام في غيره والتفصيل فيه بين الزهاد وغيرهم وأهل التمكين وسواهم فاعلمه فانه مما يجب التفطن إليه وقد أشار إليه قبل غير أنه لا يفهم ما قاله كل قاصر في هذا العلم والمتبصر يعلم الحقائق على حالها.
وبالجملة فالبحث بالإباحة والتحريم والندب إنما هو فيمن يلتبس عنا قصده وحاله ففيه التفصيل السابق والكلام حينئذ على أسلوبه والجري على نمطه نعم قرائن الأحوال تميز أحوال السامعين فمن علم انه قصد أمرا مذموما في الشرع منع باتفاق ومن علم أن قصده صحيح لا علة فيه شرعا كالزهاد والعباد جاز قطعا من غير خلاف لكونه ترياقا مجربا أقل ما فيه من الدواء استراحة النفس مما حصل لها من التعب في حال المجاهدات وكذا أهل التمكين من الشيوخ فإنما سماعهم من الحق ولا شك أنه مطلوب منهم لتتسع دائرة علومهم وتتقوى أنوار معارفهم وهذا إذا سلم
الموضع من الفتن الدينية كحضور الشبان الناعمة من النساء لا سيما إذا كانت مكشوفة العورة فإن ذلك حرام من غير خلاف إلا إذا كان صاحب الوجد زال عنه عقل التكليف وحركه الحق فلا أثم عليه لأنه ليس بمكلف إذ هو مضطر مقلوب ولا يقتدي به فلا بأس عليه من النساء وغيرهن وإنما الكلام مع من بقي معه التكليف.
حاصله أمر السماع في زماننا وغيره مع القصد الصحيح بشروطه وانتفاء الموانع كخلو المكان ممن يفتتن به من النساء والشبان ممن لا قصد له قصدا خبيثا فهو على التقسيم المتقدم بين الإباحة والندب وإما مع القصد الفاسد فلا يجوز اتفاقا.
لطيفة وتنبيه مما يجب التنبه (1) إليه اجتماع النساء والرجال في بلدنا في الظاهر على طريق الخير والصلاح والتشبه بالقوم الأول وفي الواقع ما اتخذوا ذلك إلا للتوصل للزنى ومقدماته يشهد لذلك من رآه بالعيان لأنهم فساق فلما تعذر عليهم الوصول إلى الشر من بابه اتخذوا سلما يرقون به وهو السماع ليتوصلوا لأغراضهم الفاسدة ويتجردون للزنى نحو اليومين والثلاثة ليتمكن لهم الاختلاء (2) وقد قال صلى الله عليه وسلم ما اختلى (3) رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما وقال أيضا باعدوا بين أنفاس النساء وأنفاس الرجال وقال أيضا لو كان عرق الرجل في المشرق وعرق المرأة في المغرب أو بالعكس لتحانا أو كلاما هذا معناه فإذا كان الأمر كذلك فكيف يحل لمسلم يرى ذلك منهم أن يترك حريمه أي زوجته أو أخته أو ابنته أو ابنه معهم حاصله أي قريب كان ذكرا أو أنثى فلا يتركه أن يحضر ذلك السماع المعلوم بهذه
__________________
(1) في نسخة التفطن.
(2) في أربع نسخ الاختيال.
(3) في ثلاث نسخ اختال.
المفاسد بل يمنعه منعا مؤزرا أن قدر عليه بنفسه وإلا طلب المعين أن يعينه فيه من جماعة المسلمين إن لم يكن حاكم إن كان فيهم إيمان وإن كان فيهم حاكم بلغ إليه الأمر فيجب على من ولاه الله أمور المسلمين أن يرفع (1) ذلك بالسيف من كل وطن من أوطاننا لا سيما وطن عامر وبني دراج وطننا أي بني ورثيلان وكذا ما يصير في بجاية آخر رمضان ومسجد البلوط في بني يعلى وكذا محل الأولياء في كل مكان كقبر جدنا سيدي أحمد الشريف وسيدي يحيى العيدلي وسيدي علي بن شداد وسيدي علي بن موسى وسيدي عبد الرحمان الثعالبي في الجزائر وسيدي سعيد السفري (2) في قسنطينة وجبل المثقوب في بني ورثلان وغيرهم.
نعم الذي ذكرناه إنما هو في حق المخذول الذي لم يخف الله ونبذ وراء ظهره حجاب الهيبة ففعل ما بدا له وإلا فمن غلبه الحال والوارد والشوق من وطننا أو غيره رجلا أو امرأة مع الرجال أو النساء أم لا فلا كلام لي معه إذ هو مقهور وبحب الله مغلوب مضطر فحشاه أن أمس جانبه أو أشير إليه وكذا غيري ممن نبه عليه ممن ذم السماع وحرمه إذ مقصودهم ومقصودنا سد الذرائع وسد الباب على مثل المجوزين ذلك مطلقا لا سيما المفتونين المخذولين المتحيلين للوصول إلى الأغراض الفاسدة أو يعتقد من له توجه صدق ورغبة في الخيران ما هم عليه هو الدين القويم والصراط المستقيم فيدخل في زمرتهم ويجعل نفسه منهم فإن أصابه بعض الفتن والبلاء من الشغف بحب النساء ممن يحضر ذلك الموضع فيتشتت أمره ويتكدر عليه وقته حتى يغلبه حال الشيطان فيقع في مهواة الضلال وربما سقط من عين الله إلا أن يتداركه الله بفضله بان لا يجد سبيلا (3) لمراده إذ من العصمة أن لا تجد موقعا في
__________________
(1) في نسخة يدفع.
(2) في نسخة الصفراوي.
(3) في نسخة سبا.
فساد (1) وندم على ذلك وانكسر قلبه من أجله فيأخذ الله بيده لما علمه من قلبه فذل بسبب ذلك فتكون معصيته أولى من طاعة غيره لأن المعصية مع الذل والاحتقار أولى من الطاعة مع العز والاستكبار لأن المقصود من العبودية التذلل والخضوع والاحتقار فلما كانت المعصية بذلك صارت خيرا من الطاعة التي مع العلو والاستكبار.
أقول قال الشيخ زروق الولي ولي وأن أتى حدا أي ما يستوجب الحد لأنه ليس بمعصوم إلا إذا أصر على ذلك فينتفي عنه الحكم بالولاية وبالجملة فالحذر مطلوب والسلامة في الفرار من تلك الجموع أولى والديانة في عدم زيارة النساء ولا حضور سماعهن وأما السماع الخالي عنهن وعن الأحداث غير انه بذكر الغناء بالخدود والقدود مع الأصفياء الأتقياء ففيه الكلام بالإباحة وضدها لا سيما مع آلة اللهو فمنهم من رغب فيه لما يزيد ذا الشوق شوقا وذا المعرفة معرفة ومنهم من ذمه نظرا لما يقتضيه اللفظ من المعاني المعلومة شرعا (2).
وبالجملة فالذي فيه الخلاف إنما هو ما كان بآلة اللهو والغناء بالأشعار التي فيها ذكر الخدود والقدود وتسمية المحبوبة من النساء المرغوب فيها الفساد غير انه سالم من النساء التي يدعن من فتن وأهله أنقياء أنقياء وليس لهم غرض إلا سماع ما يدل على الحب والشوق هذا الذي فيه كلام مع أهل العلم فمنهم من يستدل على مدحه (3) شرعا ومنهم من يستدل على ذمه (4) كذلك وأما إذا كان فيه النساء الأجانب التي فيهن الفتنة لا سيما مع الشبان فيحرم اتفاقا وفيه سخط الله قطعا إلا إذا كان الحاضر
__________________
(1) في نسخة مفاسد.
(2) في نسخة شرا.
(3) في نسخة منعه.
(4) في نسخة إباحته.
له مغلوبا مقهورا بالوارد والحال فلا حكم في حقه إذ هو مكره غير انه لا يقتدى به في ذلك لأنه مريض لما علمت من الفقه إذا تيمم المريض وإن كان ممالكا أو أبا حنيفة أو الشافعي أو أحمد فلا يأتي الصحيح ويتيمم اقتداء بهؤلاء الأئمة إذ هم مرضى وهو صحيح فالمغلوب لا حرج عليه دينا.
وأما السماع الذي فيه الوعظ والذكر ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم فلا خلاف في ندبه ومطلوبيته وأما للزهاد (1) والعباد الذي فيه الخلاف فمباح لهم من غير شك فافهمه وهذا حاصل ما فيه كلامهم ولو لا الإطالة لأتيت على كل قولة بدليل.
فأقول قال شيخ شيوخنا المذكور ما نصه وهذا كله مع شروطه المقررة وقد عدمت الآن فتعرض لمتعاطيه عند تعاطيه تر ما ذكرت لك عيانا نسأل الله تعالى السلامة والعافية ويتعاطون ذلك بآلات ملهيات وكيفيات منكرات وأما التصفيق وهز الرأس والرقص والتحرك فإن كان بغلبة فالمغلوب معذور وإن كان بغير غلبة وهو للإيهام فهو حرام لما دخله من الرياء والتصنع والتظاهر بما ليس له حقيقة عنده وإن كان مع بيان الحال بحيث يعلم الحاضرون أنه غير مغلوب وإنما أراد إراحة نفسه فهو للباطل أقرب وليس من الحق في شيء ولذلك لما سئل بعض العلماء عمن يفعل ذلك ضحك حتى بدت أنيابه ثم قال أمجانين هم وأما الدفوف والطنابير والمزامير والمزاهر والطرور فكان الوالد يضرب فيها بالعصا والنعال ويجلي فيها وينفي متعاطيه ويغري عليهم ويبحث في نفيهم ويبالغ في زجرهم ولا يسكت عنهم بحال إلا أنه يخفف في رفع أصواتهم بالأذكار عند الاجتماع المجرد عن الزعفات والهاعات وصرب الأكف وغير ذلك من الآلات وإن طرأ شيء من ذلك سمعه بالغ في الزجر بل المرضى عنده ترك كل شيء من ذلك واختلاء المرء بسره والإخفاء
__________________
(1) في نسخة الزهاد.
لذكره وكان الفقراء ذات يوم مجتمعين بالزاوية على الكيفية التي ذكرنا انه يخففها ويسكت عنها وجلس وراءهم خفية عنه وظفر به بعض أصحابه فقال له يا سيدي ما أجلسك هذا المجلس فقال أطلب الله في هؤلاء وادعو لهم وفي المباحث الأصلية.
ولا
يجوز عنده التكلم |
|
ولا
التلاهي لا ولا التبسم |
قلت وإن كان ولا بد فمن أسلم الهيآت وأحسنها وأبعدها من الظنة (1) وذكر الإمام الساحلي رضي الله عنه وهو أن الفقير إذا اشتغل بالإرادة فحقه أن يقطع العلائق كلها وينبذ اللذات والراحات ويهجر المألوفات ويستعمل العزلة والخلوة وذلك أمر شاق على النفس في الابتداء فإنها شديدة الحنين إلى ما تألفه من البطالة والأنس بالخلق ويخشى عليها من هجم عليها بقطع جميع ذلك على الدوام أن تنفر فوجب ترويحها حينا بعد حين بالاجتماع ليكون ذلك استجماعا (2) ولا يكون ذلك على الدوام لئلا ترجع إلى طبعها من الألفة بل يكون ذلك بحسب الحاجة ثم يجب أن لا يكون الاجتماع بالبطالة وترك ما هو عليه فانه لا بد من مواصلة الأوراد والدوام على العمل بلا فترة فلزم أن يكون الاجتماع على الذكر الذي كان يستعمله المريد في خلوته بنفسه حتى كأنه لم يخرج عن خلوته ولم ينتقل عن حالته غير أن ما كان يعمله وحده عمله مع إخوانه ليفيد النفس تأنيسا بهم وصفة الاجتماع أن يعقدوا الميعاد ليوم معلوم فيحضرون ويجمعون من الطعام ما تيسر مع غاية البعد عن التكلف والرياء والتباهي إلى أن قال وصفة الذكر أن يجلسوا حلقة ثم يرفعوا أصواتهم بذكر واحد من الأذكار التي عندهم كالهيللة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم خافضين رءوسهم غاضين أبصارهم على غاية الوقار والسكينة والخشوع من غير اضطراب ولا حركة إلى أن ينزل على أحد حالة غالبة تزعجه من غير اختيار وليس
__________________
(1) في الرحلة الناصرية الضنة.
(2) وفيها أيضا استجماما.
لأحد أن يتمنى نزول ذلك ولا إن يتعاطاه بل يستعيذ بالله من شر الوسواس والخواطر الشيطانية.
وأما السماع بالأغاني وإنشاد الأشعار فهو أدخل في الابتداع وأحق بالنزاع وهو معشش الوساويس ومغرس التخليط والتلبيس إلا من عصمه الله وقليل ما هم أنظر تمامه انتهى.
انعطاف وقد ظعنا من الساحل ونزلنا قرب السبخة ثم بعد ذلك ظعنا بعد ملاقاة الأفاضل وزيارة الشيخ الولي الكبير القطب الشهير سيدي عبد السلام كما تقدم لنا ونزلنا قرب مسراتة ثم بعد ذلك ارتحلنا ونزلنا أبعد من قبر (1) الشيخ الولي الصالح ، البدر الواضح ، ذي التصانيف المفيدة ، والتآليف العديدة ، ذي الترياق والدواء المجرب أبي العباس سيدي أحمد زروق البرنسي ثم الفاسي فبعد نزولنا هنيئة توجهنا لزيارته والتبرك بضريحه قدس الله روحه فانه لا شك أنه حي في قبره يستشعر ذلك من له ذوق سليم ، وطبع مستقيم ، فأن الحواس الباطنية تشهد بذلك وتتخيل روحانية الداخل روحانية المزار فإنها تتلاقى بغير حجاب في حضرة الشهود ، في مرقى الصعود بتأييد الرب المعبود ، فتستفيد النفس الزيارة من الروح المزارة من الأمداد الإلهية والأنوار الصمدانية واللطائف الرحمانية والعلوم اللدنية ما كتب لها فتستعد بذلك للدخول في زمرة النبئين والصديقين ، والشهداء والصالحين ، فترجع ذات أنوار وأسرار تظهر بسبب المحقق العلامة المدقق العارف بالله قطب مغربنا ، وشمس سرائرنا ، وإمام أئمتنا ، وحضرة ودنا ، وعروة اعتصامنا ، ومحل اعتقادنا ، شيخ الطريقة ، وأمام الحقيقة ، سلطان العارفين ، والمحققين ، قوي الله فيه محبتنا ، وحقق إليه نسبتنا ، الشيخ المذكور فانه من قوم لا يشقى بهم جليسهم ، ولا شك أن
__________________
(1) في نسخة ونزلنا قرب قبر.
زائرهم ، ومحبهم ، وخديمهم ، ومتشبثهم ، هو منهم ، فإن هذا الولي قد ظهر أمره في الأفاق ، واشتهر سره في الأقطار والرفاق ، وتقوى نوره في عصره إلى زماننا هذا بل علمه وأسراره قد عمت مشارق الأرض ومغاربها فصار مغيثا ومعينا لكل من التجأ إليه نعم إليه يهرع المنكسرون على انه حصن للضعفاء والمساكين لأنه يأخذ بيد الجميع ولم تر في الناس من رفيق ، أولى منه في إصابة الحق وبيان الطريق ، ولا أدخل في أتباعها بل أجد في بيان البدع المضلة ، ودسائس اللعين المعلة ، حتى جمع بين الشريعة والحقيقة جمعا متواطئا فالملازم لتآليفه بصدق التوجه وخلوص الاعتقاد يشرح الله نوره للإسلام فحينئذ يكون على نور من ربه وبالجملة هو طبيب نبوي ، وترياق رباني ، يعلم ذلك من شمر أزاره لمطالعة أحواله وأسراره وتوجهاته وكلامه في سائر تأليفه لأن تآليفه تكاد أن تكون معجزة إذ لا يقدر ولا يستطيع أحد أن ينقل كلامه ولا يسلمه إلا من طبع على قلبه إذ هو لسان الحق وعين التحقيق فلم يبق لمن كانت بصيرته نافذة إلا سلوك طريقه لتستنير سريرته وتعلو همته ويظهر أمره عند الأكوان فيكون شمسا لها وغيثا لقلوبها ودواء لعللها فيرحم الله به أمة ضعيفة ويسقي به قلوبا ضمآنة من لم يصبها وابل فطل ويغني أشخاصا فقيرة ويعز أناسا ذليلة ويجبر أفئدة كسيرة (1) فإن الشيخ المستمد منه بحر المعارف وسلطان العوارف إذ هو حجة الله في أرضه فمن يصل إليه ويستعن به يعن به (2) على أموره الظاهرة والباطنة وينتصر على أعدائه وذلك مجرب عند العباد كلهم بل قد أرتفع صيته عند العامة والخاصة فهو كعبة الزوار ، وحرم الأنوار ، ومعدن الأسرار ، جعله الله لنا ولذريتنا ولطلبتنا ، وكل من تعلق بنا ذخرا في دنيانا وذخرا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
__________________
(1) في نسخة منكسرة.
(2) في نسخة بإسقاط يعن به.
وها أنا أتوجه إلى الله وأسأله بجاه وعلومه وإتباعه ومحبته أن يشفي الله أسقامنا الظاهرة والباطنة وبمنه وكرمه وأن لا يجعل في رأينا ما يكون هلاكا في ديننا ودنيانا وأن يرزقنا بجاه سره ما فيه رضاه مع العافية التامة والنعمة الشاملة والمغفرة الواسعة والرحمة القوية لنا ولمن تشبث بنا مع الغنى عن الناس والإياس مما في أيديهم وحسن الخاتمة آمين يا رب العالمين.
أقول قال شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر ما نصه لما نان بروضة الشيخ حجة تسع وتسعين وألف خطر لنا ما سبب سكنى هذا الإمام الأعظم ، والشيخ المكرم ، في هذه البلدة البعيدة عن المدن والحواضر فنطق أخونا في الله سيدي عبد الله بن غلبون كأنه مطلع على ما في ضمائرنا والله عليم بذات الصدور فقال سئل الشيخ رضي الله عنه عن سكناه بهذه البلدة فقال أما ما ذكرت من استيطاننا في هذه البلدة فأمر خارج عن قياس النظر غير مصحوب بالحزم ولا معقود لشيء نعلمه بل اتفاقي ظهر وجوده فلزم موجوده إلى ما يقتضيه الحق.
وما
أنا بالباغي بسلمى (1)
بديلة |
|
بليلى
ولكن للضرورة أحكام |
قلت ولعل فائدة استيطانه هذه البلدة والله اعلم استيناس الأركاب بزيارته واستمدادهم من معونته وتقويتهم على ما هم بصدده بمطالعة حضرته.
وقد شاع عند الحجاج أن من مر بقبره وأودع عنده نفسه وماله لا يصيبه مكروه حتى يرجع ويفعلون ذلك إذا مروا به في البر أو حاذوه في البحر فيجدون بركته ولا بدع في ذلك ولا غرابة فإن الله تعالى حفيظ لا يضيع ودائع والأولياء أبواب الله فمن أودع الله شيئا عند باب من أبوابه كيف لا يحفظه فيه والله خير حفظا وهو أرحم
__________________
(1) في الرحلة الناصرية سليمى بدل بسلمى.
الراحمين.
واطلعنا أصحابنا هنالك على نسخة من شرحه على الرسالة بخط يده الكريمة وعلى وصيته على أولاده لما حضرته الوفاة نفعنا الله به آمين.
فائدة قال أبو سالم في رحلته وجدت ورقة فيها زمام تركة الشيخ وعدة أولاده ونسائه ومن خلفه من بعده وعدد متخلفه من كتبه وأمتعته ولننقلها هنا بحروفها لما اشتملت عليه من الفوائد منها استفادة عدد أولاده وأين استوطنوا بعده فأني لم أجد ذلك بعد الفحص الشديد عنه ومنها التأسي به في قلة ما خلفه من الدنيا مع كونه ذا أولاد ونساء في بلد يشق فيه العيش ولا يعوزه ما يخلفه لهم لو شاء لانتشار صيته وخدمة الدنيا وأهلها له ومع ذلك لم يخلف منها إلا ما ستراه.
ونصه بعد الافتتاح بعد أن توفي إلى عفو الله الشيخ الفقيه العالم العلامة الصالح العارف المحقق القدوة المتبرك به أبو الفضل أحمد بن الشيخ المقدس المرحوم أبي العباس بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي الشهير بزروق غفر الله له ولوالديه انحصر أرثه في زوجته أمة الله الجليل ابنة أحمد المكرم أبي العباس أحمد بن الفقيه العدل أبي زكرياء الغلياني (1) المسراتي وأولاده منهما أحمد أبي الفضل وأحمد أبي الفتح وعائشة وزوجته فاطمة ابنة أبي عبد الله محمد الزلاعية الفاسية وولده منها الفقيه الشاب الطالب الأسعد أبي العباس أحمد الأصغر وابنه الشيخ الفقيه القدوة المدرس أبي العباس أحمد الأكابر لا غيرهم في علم شهوده.
ثم توفي أحمد أبو الفتح المذكور وانحصر أرثه في والدته أمة الجليل وشقيقه أبي
__________________
(1) كذا في الرحلة العياشية وفي الناصرية الغلباني وفي بعض النسخ العلباني وفي أخرى بن علبان.
الفل وعائشة المذكورين وأخيه لأمه أحمد بن الشيخ الفقيه الأجل الأسعد الصالح أبي علي منصور ابن أحمد بن محمد البجائي لا غيرهم في علم شهوده.
ثم توفيت عائشة المذكورة وانحصر أرثها في أمها أمة الجليل المذكورة وشقيقها أبي الفضل وأخيها لأمها أحمد بن الشيخ منصور المذكور ثم توفي أبو الفضل المذكور وانحصر أرثه في والدته امة الجليلة وأخيه لأمه أحمد بن الشيخ منصور المذكورين وأخويه لأبيه أحمد الأكبر وأحمد الأصغر المذكورين لا غيرهم في علم شهوده وكان من مخلف الشيخ أحمد المذكور نصف الفرس الشهباء كبيرة السن شركة بينه وبين الحاج عبد الله ابن عزازة التكيراني المسراتي بالنصف الثاني مع برنس أبيض وجبة صوف بزرّ مختم مع ثوب بالغزل وسبحة فقل كان أخذها الشيخ أحمد المذكور من الشيخ سيدي أحمد بن عقبة الحضرمي اليمني نفعنا الله به آمين مع أربعة عشر سفرا وكناش فمن الكتب في الفقه من مختصر ابن عرفة رحمه الله وأسفار في الكبير مع حاشية الوانوغي والمشد إلي على المدونة مع سفر فيه مختصر الشيخ خليل والشامل للشيخ بهرام رحمهما الله مع شرح ابن عسكر في الفقه للشيخ أحمد المذكور ألفه ومن غير الفقه الديباج المذهب في التعريف برجال المذهب لابن فرحون رحمه الله ومعه تأليف للشيخ أحمد المذكور القواعد في علم التصوف ومعه شيء من علم الطب مع سفر فيه قواعد الوانشريسي والمذكور شيء من علم الطب مع سفر فيه الزركشي والسبكي في أصول الفقه وبلوغ المرام لابن حجر والبلالي اختصار الأحياء مع سفر فيه شرح التفتازاني في أصول الدين والحكم لابن عطاء الله والمنهل الروي في علم الحديث وغيره مع سفر من ملتم (1) الحديث بخط الشيخ أحمد المذكور وتأليف الشيخ سيدي عبد الرحمان الثعالبي مع إجازة له وشيء من ابن حجر في علم اللغة رحمهم
__________________
(1) كذا في الرحلة الناصرية وفي بعض النسخ وفي نسخة بإسقاط ملتم وفي الرحلة العياشية منصى منبها عليه بقوله يكتب هكذا مصحفا لأنه اعتذر عن التصحيف أخيرا.
الله وسفر فيه تفسير القرآن وكناشه محتو على وطائفه وغير ذلك.
وقد كان استوطن الشيخ أحمد الأكبر بعد موت أبيه ببلاد المغرب واستقر آخر ذلك بمدينة قسنطينة حرسها الله وأرسل مراسيل للإتيان بالمخلف المذكور بخط يده وثبت منها بالعدالة حسبما بيانه كما أذن بأن يوجه له ذلك مع من أمكن وكان جميع ذلك تحت يد الشيخ منصور المذكور وامتنع من ذلك لعدم الأمن والأمين حتى وصل الفقيه الطالب أبو العباس أحمد الأصغر المذكور في عام تاريخه لمدينة طرابلس حرسها الله تعالى ولم يأت بموجب يقتضي له قبض ذلك لأخيه فتوقف أصحاب الشيخ المذكور فطلب الشاب أحمد المذكوران يعطي ذلك في زمامه يطلب نصيبه ونصيب والدته فاطمة المذكورة لكونه وراثها ونصيب أخيه أحمد الأكبر المذكور فوافقوه على ذلك بعد ثبوت الأذن المذكور بان يعطي ذلك لأخي حضر إلي شهيديه الفقيه أحمد المذكور الأصغر نائبا عن نفسه وعن أحمد الأكبر وأشهد أنه قبض جميع المخلف المذكور عدا نصف الفرس فانه قبض ثمن ذلك وهو ثمانية دنانير ذهبنا منجزة (1) من الشيخ منصور المذكور قبضا تاما وأبراه بتاريخ أوائل ذي الحجة الحرام متم عام ثلاثة عشر وتسعمائة انتهى وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله نقلت الرسم المذكور بحروفه من غير زيادة ولا نقصان مع وجود بعض التصحيف به ولم أغير شيئا بل تركته كما وجدته ولم أكتب من الرسم الأصلي بل من رسم نقل منه والله أعلم انتهى.
لطيفة أقول في مدحه والاستغاثة به لتزول عنا حجب الغفلة وكدرات النفس وغطاء البشريات ولعلي أرقى إلى مراتب التجليات وأشرب من عين اليقين وأتحلى
__________________
(1) كذا في جميع النسخ وفي الرحلتين مشحرّة.
بحلية المعارف ولذلك قلت وعلى الله اعتمدت (1) :
ألا
أيها القطب الهمام تعلقت |
|
مجامع
قلبي (2)
بالسعيد المنور |
شغفت
بحبه لأنه مذبدا |
|
يقوم
بأوراد ويسعى باجدر (3) |
فقد
دنفت نفسي بأوصاف ما به |
|
تحلى
أمامنا من كل مصور |
من
الذي أبدع الإله في رسمه |
|
من
أحسن زينة وأحلى تذكر |
فطبعه
قد أسبى (4)
من الناس أفكارا |
|
ولفظه
قد أعمى بصائر بالسحر |
ولكنه
سحر من الحق قد أتى |
|
ليجذب
أقواما تأيّدوا (5)
بالنصر |
على
عدو لسنا نراه تحققا |
|
وإنما
يختفي ليقطع بالفكر (6) |
فصده
قد بدا عن كل كريمة (7)
|
|
ولعنته
حق من الله للغدر |
فمكره
بيّن لكل من الملا |
|
وغايته
العصيان منهم إلى الكفر |
ونفسنا
قد جرت علينا بوصفها |
|
وأخمدت
أنوار لبعدها عن ذكر |
فصحصحت
في نجوى الضلال (8)
نايئة |
|
عن
الحق والتحقيق بل هي بالنكر |
فاودعت
سموما فليس لنا تخفى (9)
|
|
فقد
مزجت بكل حلو مع الضر |
وفي
كل رتبة تلوح بفكرها |
|
وأنها
تثبط العباد عن الظفر |
__________________
(1) تنبيه يوجد في هذه القصيدة خلل كثير تعذر إصلاحه.
(2) في نسخة نحو الجسم.
(3) في نسخة بأسطر.
(4) في نسخة أبلى.
(5) في أربع نسخ تؤيد.
(6) في نسخة وإنما يخفى ليقطع بالكفر.
(7) كذا في أربع نسخ وفي نسخة فقد بدا قصده عن كل كريهة.
(8) في نسخة فأصبحت في بحر الظلام.
(9) في نسخة فليس منا تخفى.
فكيدها
قوي وليس له دواء |
|
إلا
عصمة من الله لي بالنصر |
ودنياك
عدو لترمي بحبلها (1)
|
|
بسجن
من الهوى وقيد من الكبر |
فكل
خطيئة بحبها يا فتى |
|
وأنها
تضليل وصد عن البر |
وأنها
لعنة من الحق بالقلا |
|
فمن
حيث أنها تصد عن الشكر |
فيشكر
ذو نعمى بخدمة ربها |
|
وصرف
من أجلها ليلحق بالظفر |
وإلا
فكفران من المولى ظاهر |
|
وليس
لها قيد يحدها بالجبر |
وأكبر
أعداء من الناس يا هذا |
|
عداوة
حساد مليمة بالضر |
فإنه
لن يرضى (2)
من الله بشيء |
|
سوا
نعمة تزول بالكشط بالظفر |
عداوة
إنسان تصد عن الهدى |
|
وليس
لها دوا إلا الطب بالصبر |
فهذه
أعداء لإنسان قد رمي |
|
بسهم
من النوى وقطع عن الذكر |
فصرت
أسيرا للشقاوة والهوى |
|
فمنعت
أثوابا من التقى بالضجر |
ولست
أمورا من العلى بالدعوى (3)
|
|
وزعم
ليس له من الحق ما يبري |
ولا
شك أنه من الداء معضل |
|
ويمنع
أذواقا من الله للسر (4) |
ويحجب
أرواحا عن كل رائقة |
|
ويسري
إلى العمى عن الحق في السير (5) |
فليس
له فتح ما دام بزعمه |
|
وليس
له نور ما دام بذا السكر |
ولا أنت
تعتبر حلاوة كلمة |
|
فإنها
عند الله أدهى من الصبر |
فمدع
كذبا من الله لا يرى |
|
في
دهره أحوالا تحق من النور |
__________________
(1) في نسخة بحبها.
(2) في نسخة لم يرض.
(3) في نسخة لبست من العلى أمورا فيها دعوى.
(4) في نسخة بالسر.
(5) في نسخة اليسر.
وإن
كان واقعا بمكر نزل به |
|
وحسبه
(1)
من أفك وعلة في الصدر |
ومكر
به أجل (2)
ووصمة بالهوى |
|
فأقوى
في قطعه من القطع للظهر |
فدعوة
كاذب (3)
تسد لأبواب |
|
من
الفتح من الله وقته بالعسر |
فأوقاته
مقت وقطع لوصله |
|
ونوره
ظلمة وصفوه بالكدر |
ووصفه
عجب وسمعة وريا (4)
|
|
وكبر
وبغض ثم حقد مع المكر |
وبخل
وجبن ثم أقباح خلق |
|
وسوء
بظن في العموم من الغير |
وشك
في رزقه وما به قد قضى |
|
من
السعد والشقا وقدر من العمر |
وضدها
أمال وطول في حضه |
|
يعلل
بسوف طول عمر من الدهر (5) |
فطبه
تفويض لما به قد قضى |
|
وحقه
تسليم لربه بالقدر |
سعادة
لامرئ وضدها يا أخي (6)
|
|
عند
اختتام الأعمال بالموت بالقهر |
وكلها
علل وأسقام للفتى |
|
وقاتلها
سم وأسرع من سقر |
وكلها
آفة ونقمة أبدا |
|
تنافي
رضى المولى وتوذيك في القبر |
وزد
لها أمراضا من الدنيا (7)
تعتبر |
|
أمورا
وعلة مع (8)
الذل والفقر |
وهتك
لأعراض من الناس مع أذى |
|
لنفس
ومال فهو أبلغ للضر |
ونقض
لحق يستحقه ذو العلا |
|
بعلم
وقدر لا يعاين بالنكر |
__________________
(1) في ثلاث نسخ وحقه.
(2) في نسخة ومكر نزل به.
(3) في ثلاث نسخ كاذبة.
(4) في نسخة ووصفه فيه رياء وسمعة.
(5) في نسخة يعلل يسوف وصول من الدهر.
(6) في نسخة سعادة المرء ضدها يا أخي أتى.
(7) في نسخة أمورا صعابا مسكن.
(8) في نسخة وزد لها أمر طالب دنيا.
وموته
أحلى من حياته في الورى |
|
لرافع
مثله يعامل للخير (1) |
وعامله
رفع وليس بخافض |
|
فجره
عصره بلا عامل الجر |
فحزنه
دائم وعلته بدت |
|
فصبر
جميل حتى يرفع بالنصر |
فعلة
كسره بلا سبب ترى |
|
وتكن
لالتقاء الساكنين بالضر (2) |
فهذه
ثلمة وليس يسدها |
|
إلا
عالم قد فاز في الكون بالظفر |
فانه
ترياق لكل من البلا |
|
وطبه
نبوي فيبري من الضر (3) |
فلا
غرو أن نزلت ثم برحبه |
|
يكون
لك طبا لأمراض في السر (4) |
ويمنحكم
عزا في ذلك بالهوان (5)
|
|
ويبدلكم
يسرا في أزمنة العسر |
ويغني
أقواما بفتح من المولى |
|
ويكسي
عريانا بأجمل من ستر (6) |
ويظهر
خاملا بأعظم سطوة |
|
ويجبر
مكسورا في وقت من الدهر |
ويرفع
مخفوضا ويروي من السما |
|
وأمواج
نفعه أجل من البحر (7) |
فأنوار
بحره تحق بأهلها |
|
وأسرار
علمه تعد من النهر |
فأنواره
تبدو في كل من الفنون |
|
وأضواء
شمسه تعالت عن البدر (8) |
__________________
(1) في نسختين بعامل البحر.
(2) هذا البيت ساقط من بعض النسخ.
(3) في نسخة وطبه نبي يبدي سقما من الضر.
(4) في نسخة
فأيقن
أن نزلت تمس برحبه |
|
يكون
طب الأمراض في السر والجهر |
(5) في نسخة وممنحك عزا في ذلكم الهوان.
(6) في نسخة ويكسي العريان ثوب أجمل من ستر.
(7) في نسخة بأمواج نفع هي أجل من البحر.
(8) في نسختين الحر.
فهو
أبو السراج في سماء العلا |
|
وليس
معه نجم يلوح إلى قطر (1) |
فإنه
ضيغم لكل من العدا |
|
فمن
رآه (2)
حقا فيخضع بالصدر |
قمين
بعلمه وليس بعارض |
|
يعارض
أصله وفرعه بالنكر |
وقد
أطبق كل بصحة نقله |
|
فليس
له نقض لما صح من خبر |
فوده
قد بدا يعظم في الورى |
|
يوده
(3)
سيد مع اسمه في الذكر |
فانه
بقدر يبين في الملا (4)
|
|
وليست
عبارة توفي بذي الفخر |
فكل
طنين المدح أعلى وأكملن |
|
في
علم عالم الكال في السر والجهر (5) |
فانه
نبراس من الله في الورى |
|
ويزداد
شوقنا لعلمه بالذكر |
ومذ
رمى (6)
وصله إلى الهدى طائعا |
|
فهو
دليل ليس ينقض بالغير |
وكم
من ضعيف قد أذاق بحبه |
|
وقلبه
عرش للتجلي من السر |
فكل
من انتمى إليه فيرتقى |
|
ويسعى
لحضرة مؤئدا بالنور |
فيشهد
أمور تغيب عن الفتى |
|
في
أيام غفلة وذلك بالفقر |
ويشرب
من عين اليقين بعلمه |
|
وسطوة
حبه مع الجد بالفكر |
فيسكر
من ذوق الحقيقة معلنا |
|
ويفهم
أسرارا في حاله بالسكر |
ويدعى
بين الورى عزيزا مكرما |
|
بالحاظ
شيخنا المعظم في القدر |
__________________
(1) في ثلاث نسخ يلوح بأنوار.
(2) في نسخة يراه.
(3) في نسخة
فمن
حين قد بدا يعظم في الورى |
|
يقارن
|
(4) في نسختين ففي الملاء بين نجم بقدره.
(5) في علم للكل في السر والجهر.
(6) في نسخة رمت.
ويجلي
أنوار من العلم في العلا |
|
ويحظي
بأسرار تعز عن النشر |
فيسري
بروحه إلى سماء السنا |
|
فما
ينطق إذا (1)
عن الهوى بالضر |
فليس
لنا سعد إلا الليث في الورى |
|
وليس
بنا جاه إلا سيد النصر |
وقد
شنف سمعي لذكره في الملا |
|
وأضناني
حبه في جسمي مع الصدر |
وحركني
ذكر الأغاني لحضرة |
|
يجول
فيها المسكين من غير ما زجر |
ورؤية
علمه تذوق أرواحنا |
|
وتذكر
بالعهد القديم من الظفر (2) |
وذلك
في يوم الست بربكم |
|
ولم
تنكر أبدا لعقدها المنتشر |
فانه
إنسان من الجسم في الهوى |
|
فلا
حجب تبدو من القفص بالسر |
فانه
استار من الجسم مع هوى |
|
وان
هوان المرء من ذلك بالستر |
إلا
أيها الإنسان فاسأل بجاهه |
|
وبالذي
قد علاه في كل مضمر |
وعزه
في الورى بكل ما قد ترى |
|
وعظمه
المولى بكل مسير (3) |
وقد
أسمع صم القلوب بذكره |
|
وأبصر
أعينا بحكم المنور |
وأنطق
أفواها بذكر حبيبنا |
|
فما
هو في السنا بأحسن مفخر (4) |
وحرك
أرجلا لا زخر روضة (5)
|
|
وفيهن
أعظم الخليفة في القدر |
على
أنه حي يمتع بالرؤيا (6)
|
|
ويطعم
بطعم الجنان مع الفكر |
وكل
موجه لقبره يا فتى |
|
يراه
بعينه عيانا بلا خدر (7) |
__________________
(1) في نسخة أيضا.
(2) في نسختين الظهر.
(3) في ثلاث نسخ ماسر.
(4) في نسخة من فخر.
(5) في نسخة ومركز إجلالا لا فخر روضة.
(6) في نسخة بالنظر.
(7) في نسخة بلا خزر.
فحق
لنا بالشكر من حيث أننا |
|
وفقنا
بروضة الخليل بذا البحر (1) |
وفضله
في الورى يعمنا كلنا |
|
ويحيى
أموات القلوب من الذكر |
طريقته
تعلو على كل رتبة |
|
وأنوار
سره تعد من الجهر |
وها
أنا عبدكم قريع لبابكم |
|
ليحظى
بعزكم ويصحو من السكر |
وقد
اسكرتني المعاصي من الشقا |
|
وخلفني
ذنبي عن الفوز بالظفر |
وأني
ذو لؤم سفيه بين الورى |
|
وأني
محجوب في صرف من العمر |
عساكم
ترحموا عبيدكم قد أسا |
|
تجوله
(2)
منكم لضعفه كالسفر |
وأني
خديكمم بما عله يكن (3)
|
|
محر
ككم للجبر منا من الكسر |
ولحظكم
عز ومنحكم رفعة |
|
وجودكم
جمع فيغني من الفقر |
ولست
أعني به إلا الذي قد علا |
|
وهو
الذي يدعي بالزروق في النثر |
وقد
سألت رضى الكريم بجاهه |
|
وتوفيقي
للهدى وحظا من النصر |
وسترا
من المولى مع الجد في العمل |
|
ورزقنا
موسعا مقارنا بالستر |
وسعدا
من المولى في كل مهمة |
|
ومغفرة
لنا مع البرء في الصدر |
وخاتمة
حسنى وأزكى عافية |
|
وطفا
جميلا في اخترام وفي القبر |
وكونه
في الدنيا يناسب حالنا |
|
ويرفع
قدرنا عن كل محذر (4) |
وهب
لنا ربنا بعلم مع التقى |
|
لكل
نجل لنا وطالب مضطر |
ويا
ربنا احفظنا من كل بلية |
|
من
الدين والدنيا وخلق من الشر (5) |
__________________
(1) في نسخة الخليل بذا الخبر.
(2) في نسخة نحو له.
(3) في نسخة بما عنه يكتنى.
(4) في نسخة محظر.
(5) في نسختين خلو.
ويا
ربنا سلم وصل على الذي |
|
برحمته
أهدى الخليقة بالأمر |
وصل
على آل وصحبه أجمعا (1)
|
|
في
مدة مرور الجديدين في الدهر |
أقول مدحت الشيخ زروق بهذه القصيدة ولعل الله أن يكسوني بكسوة المعارف وأن يحليني بما حلى به أولياءه المقربين ويذيقني ذوق العارفين بالله تعالى وأن تكون لنا حجابا وبراءة من نار الافتراق ونار الاحتراق وان يورثنا بها سعادة الدارين ولكل من تعلق بنا مع النظر إلى وجه الكريم آمين يا رب العالمين.
لطيفة فائدة استقرار الشيخ في هذه البلدة وهي بلدة مسراتة إذ هي ليست من الأمصار ومع ذلك أن الأكابر يختارون سكنى الأمصار للتذكر والاعتبار قلت وفي المدن من الخيرات الدنيوية والأخروية ما لا يحصى فإنها محل العلم وأهله وأنها أيضا مواطن الزيارة لما فيها من قبور الصالحين والمؤلفين لا سيما أفريقية ومصر وبغداد ودمشق والبصرة والكوفة وغيرها من مدن المشرق وكذا مراكش في المغرب وفاس وأرض الجدار تسلمان لأن فيها أبا مدين الغوث والشيخ السنوسي والإمام ابن زكري والإمام ابن مرزوق والعقبانيين وغيرهم وكذا بجاية لأنها من أعظم المدن وفيها أبو زكرياء يحيى الزواوي والشيخ عبد الحق الأشبيلي صاحب العاقبة وأبو حامد الصغير صاحب التذكرة وهو أبو علي المسيلي والشيخ عبد الحق بن أبي ربيعة والشيخ الوغليسي والشيخ الصباغ والشيخ الفملي (2) وغيرهم وهؤلاء كلهم مؤلفون إلا القليل وإن الدعاء مقبول عندهم وقد زرنا جمعيهم والحمد لله.
وبجاية كانت من المدن المعتبرة وإن الإسكندرية كانت من عمالتها وكذا المغرب وان عساكرها قد أحرقوا باب فاس وإلى الآن يسمى باب المحروق وقد أفردها
__________________
(1) في نسخة وعلى آله وصحبه كلهم أجمعا وفي أخرى كذا الآن والأصحاب طرا باجمع.
(2) في نسخة العلمي.
بعض بالتأليف ومن أراد العجب العجاب فليطالع نبذة المحتاجة في ملوك صنهاجة.
انعطاف إلى ما كنا بصدده فلما استقررنا بوطن مسراتة وأقمنا فيه يومين انتظارا لبعض الحجاج من الأشراف أعني صهر أخينا في الله سيدي محمد الشريف النوفلي المذكور البلغيثي والحاج أحمد السعداوي وأن أهل مسراتة أقبلوا علينا بالزيارة والكبير والصغير لقوة اعتقادهم فينا أصلح الله حال الجميع وزرق لهم الخصب والرخاء بمنة العليم السميع وقد كثر فيهم محب الخير ومن فيه سيمة الصلاح ومن كل صنف منهم من الطلبة والفقراء والعامة وأولاد الأتراك.
حاصله بلدة طيبة ورب غفور وقد ظهر عليهم جاه الشيخ زروق إذا عنايته ظاهرة على من زاره وعبر عنه فضلا عن جيرانه وقد شهدنا بركته معنا وانه من الذين يتصرفون بالخير لدينا وما مررنا عليه إلى الحج وأصابنا شيء إلا فرج في الحين وق وقعت في أيدي الحرامية أي المحاربين من العرب وتمكنوا من هلاكي فنجاني الله منهم بجاهه وجاه أمثاله إذ محبتي فيه قوية ومددي منه عظيم وقد وجدته من نفسي وقد قلت في بعض الأسفار فيه.
فيالها
من بشرة تفوق |
|
لكوننا
استودعنا الزروق |
ومن العلامات الظاهرة والكرامات الباهرة أن أهل وطنه أقبلوا علينا وظهرت محبتهم لدينا وأنهم أكرمونا غاية الإكرام بالأرزاق الحسية والمعنوية والمعتبر الثاني قل يفضل الله برحمته فبذلك فليفرحوا وهو خير لهم مما يجمعون هذا وأن أرض الشيخ منورة به يشهد ذلك من له ذوق سليم وطبع مستقيم.
ثم ظعنا منه أواخر شعبان عام التاريخ وهو عام تسعة وسبعين ومائة وألف
(1179) (1) وودعنا من فيها من الأحباب من صلاة الصبح إلى قرب الضحى فمنهم من رجع بالتوديع ومنهم من سار معنا مدة لغلبة سلطان المحبة في قلبه وهذا كله بعد أن ودع أصحابنا قضوا حوائجهم التي اشتغلوا عليها وكذا الإجمال الضعيفة عند أحبابنا في الله تعالى من مسراتة وأن أهل الركب أيضا رفعوا الماء من سيدي أحمد زروق إلى معطن الزعفران خمسة أيام ولا ماء في هذه المدة إلا ما لا يصلح للشراب لمرارته وملوحته.
ثم مررنا صبيحة ذلك اليوم بالشيخ الولي أبي شعيفة (2) في جماعة من الفضلاء وشيخ الركب وصلينا الضحى عنده وقبره على شاطئ البحر وقد ذكر شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر أنه اجتمع مع الأفاضل في وطن الشيخ زروق وسماهم.
تتمة وقد ذكر شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر أيضا ما نصه خذوا ماء خمسة أيام إلى مورد الزعفران إذ ليس بينكم وبينه من الماء إلا ماء العريعر على نصف ميل وق ما يمر به الركب وبالقرب منه ماء يسمى بالسميرة وهو قليل آجن وبعده بيوم ونصف ماء الهائشة وهو أقبح ماء لا يشربه إلا من اضطر إليه وبعه بيوم بئر حسّان وقل أن يوجد فيها ماء ومن هنا يستقبل الحاج مسافة برقة العريضة الطول والعرض ولا ترى العمارة من قصر أحمد إلى الإسكندرية إلا أن يلقى الناس أحياء من العرب إلى أن قال وبإزاء روضة أبي شعيفة المذكور مزارة في مغارة بساحل البحر يتعبد بها الصالحون لا يكاد يطلع عليها أحد إلا من عرفها لأنها صغيرة مستقبلة البحر يغلب على الجالس بها الحضور إذ لا يرى إلا البحر ولا يسمع إلا تسبيحه وتحميده لربه وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم لغفلتكم عنه ومن امتزج
__________________
(1) في نسخة عام 1199.
(2) في نسخة شقيفة.
تعظيم الحق وتسبيحه بلحمه ودمه وأنس بذلك سمع تسبيح كل شيء أما بحالة أو بمقالة وفي الفتوحات المكية للإمام الأكبر والعقلاء من الأنس أصحاب الأفكار من أهل النظر والأدلة المقصورة على الحواس والضرورات والبديهات يقولون لا بد أن يكون المكلف عاقلا بحيث يفهم ما يخاطب به وقد صدقوا وكذلك الأمر عندنا العالم كله عاقل حي ناطق من جهة الكشف بخرق العادة التي هم الناس عليها أعني حصول العلم بهذا عندنا غير أنهم قالوا هذا جماد لا يعقل ووقفوا عند ما أعطاهم بصرهم والأمر عندنا بخلاف ذلك فإذا جاء عن نبي أن حجرا كلمه وكتف شاة وجذع نخلة وبهيمة يقولون خلق الله فيه الحياة والعلم في ذلك الوقت والأمر عندنا ليس كذلك بل سر الحياة في جميع العالم وان كل من يسمع المؤذن من ورطب ويابس يشهد له ولا يشهد إلا من علم هذا عن كشف عندنا لا عن استنباط من فكر بما يقتضيه من ظاهر خير ولا غير ذلك ومن أراد أن يقف عليه فليلزم طريقة الرجال وليلزم الخلوة والذكر فإن الله سيطلعه على ذلك كله عينا فيعلم أن الناس في عماية عن إدراك هذه الحقائق انتهى كلامه.
قال الشعراني في لواقح الأنوار القدسية المتنقاة من الفتوحات المكية بعد ما تقدم وقد وقع لي ذلك سنة تسع (1) وعشرين وتسعمائة فسمعت تسبيح الجمادات والحيوانات كلها في سائر أقطار الأرض وذلك في صلاة المغرب واستمر ذلك إلى آخر الليل حتى خفت على عقلي وسألت الله الحجاب عن سماع ذلك فحجبه عني رحمة بي وأبقى علي علم ذلك وكان من جملة ما سمعت من تسبيح الحيوانات في البحر المحيط سبحان الله خالق الأرزاق والأقوات والنبتات والحيوانات انتهى كلامه.
__________________
(1) في الرحلة الناصرية سبع.
قال الشيخ أبو سالم وق أخبرني سيدي أبو تركية مفتتح هذه المغارة رجل من العباد اسمه سيدي فرج وهو الآن بالجزائر وكانت قبل ذلك مغلقة لا علم لأحد بها انتهى.
قلت إلى أن قال وإنما زرنا أبا شعيفة على تل مرتفع على ساحل البحر ثم استقبلنا المغارة وتوسلنا إلى الله تعالى بمن يأوي إليها من العباد والزهاد واعتمدنا على تلك الأقطاب والأبدال انتهى.
قلت ولما زرنا أبا شعيفة ومن معه رأينا سفينة مرساة بالبحر ذهب محبنا في الله سيدي محمد بن قسوم من أصحاب المخزن غرير أنه يحب الخير وأهله وكان محبنا وينتسب إلينا وهو رجل ذار متمسك بأهل السنة (1) وقد حج بعياله وأولاده جميعا ذهب إلى تلك السفينة فلما رجع إلينا ولحق بنا في الطريق طفق يخبرنا على ما شاهده من أمر المغارة إذ تعجب من أمرها وما شاهد من تجليات الحق فيها كأنه أصابته هيبة وجلال حين رآها كاد أن لا يملك نفسه ونحن لا نعرفها ولذا استخففنا بأمرها وإلا لبحثنا عنها (2) عند الرجوع نعم من عادتي إذا دخلت وطنا أو زرت مقبرة أو صالحا نويت من كان في ذلك الوطن من الصالحين وأهل الخير جميعا سواء كان حيا أو ميتا ظاهرا أو خفيا ذكرا أو أنثى من أول عمارة ذلك المحل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
وقد كان سيدي أحمد بن ناصر حين رجع مع أصحابه ذهبوا إلى تلك المغارة فلم يجدوها لعدم من يخبرهم بها ومن أهل البلد فيزوروها والشيخ من بعد هذا وأنا ركبنا من الشيخ أبي شعيفة وذهبنا على ساحل البحر مع فضلاء الركب والحمد لله
__________________
(1) في نسخة النسبة.
(2) في نسخة بإسقاط ولبحثنا عنها.
من حين خرجنا من بلدنا إلا وصلاة الجماعة لم تفتنا في كل الأوقات ليلا ونهارا تقبل الله من جميعنا ذلك بمنه وكرمه آمين.
ونزلنا أبا كدية قبالة تورغا وهي بلدة عظيمة كثيرة النخل جدا وتمره أحسن من تمرها وطن طرابلس كلها وفي هذا الموضع ماء قبيح لا يشرب وأن أبا كدية هذا معلوم خبث مائه (1) وتورغا هذه بلدة عظيمة كثيرة النخل.
قال سيدي أحمد بن ناصر ما نصه تورغا وهي بلدة منقطعة أول برقة وفيها نخيل كثير وتمرها أطيب من تمر غيرها من بلاد الساحل وأجود منه وإن كان على وصفه من عدم اذخاره إلا بإزالة النوى وطيبه والله اعلم لبعده شيئا ما عن البحر ورطوبته ودخوله قليلا إلى الصحراء حيث تكاد اليبوسة تستولي على أبدان الحيوانات فضلا عن النبات قاله الشيخ أبو سالم في رحلته.
وماء هذه البلدة غزير في وسط السبخة وهم ساكنون في الأخصاص ولا يبنون بالطين إلا مواضع الخزين يبنونها بالطين والأحجار يحفرون عليها فيستخرجونها بنحت الأرض وهي أحجار سود وبناؤهم لا يكاد ينهدم وهي واسعة جدا لا يقدر الإنسان أن يحيط بها في يوم واحد وعينهم غزيرة تسع ألف ساقية فيما ذكروا ولا يحرثون حرثا ولا يغرسون غرسا إلا النخل فقط وخراجهم للأتراك كل عام ثلاثمائة وصيف وخمسة آلاف ريال وهذا العدد الأخير أحد ثوه ولم يكن قبل عليهم وهي إلى الخراب أقرب للعداوة المغراة بينهم لا تخلو من فتنة وقت الخريف مع تداول الأتراك والأعراب عليهم انتهى إلى أن قال قال سيدي العياشي وهي سبخة مستطيلة وعلى جوانبها بناء وقصور خالية وفيها نخل متفرق وكأنه رءوس الشياطين لا ترى
__________________
(1) في نسخة لا يشرب معلوم خبثه.
أوحش منه ولا أثقل طلعة على الحاج في ذهابه لا سيما المعاود لما يستشعر بعده من المهامه والمفاوز والمعاطش التي يحار فيها الدليل كما لا آنس منه ولا أبهى منه في منظر الائب أي الراجع من الحج لدلالته على انقضاء المفازة وقرب العمارة ونخيله آخر نخيل يراه الذاهب وأول ما يراه الحاج قال وبآخر الهائشة واد من الملح يجري الماء على أرض من الملح فلا الماء يجمد ملحا ولا الملح يذوب ماء وأظن ذلك لقوة ملوحة الماء ونداوة الملح (1) انتهى كلامه.
أقول وظعنا من أبي كدية ومررنا على العوينات وماؤها كثير ومع كثرته متفرق غير أن فيه ملوحة إذ لا تستطيع الدواب شربه إلا واحدا أو أثنين من أطرافها من جهة تورغا فماؤه طيب إذ أهل البلد أخبرونا به وأيضا سيدي محمد الشريف صاحبنا يرصده فسقينا منه الدواب وكذا رفع منه من خصه الماء للزاد وما أحسسنا بحر الشمس إلا في هذه السبخة المذكورة إذ سافرنا بها زمان الشتاء وان الإبل أيضا قد بقي منها كثير لأنها عطبت من حمل الأثقال العظيمة من مدينة بسكرة إلى طرابلس وإنما خفف الكرب من الأحمال ببعثها في السفينة إلى الإسكندرية ثم إلى مصر غير أنها أضناها ذلك الثقل أيضا وأنها جاعت أيضا في إقامة الركب في طرابلس لقلة عيشها وبعد ذلك وبعد تلك المرحلة والمرحلتين بقي جمل للأخ في الله الفاضل الفقيه سيدي محمد نجل الفقيه الشيخ سيدي أحمد بن المبارك وتركه في الطريق إلى المبيت فلما أخبرني بذلك أخبرت سيدي محمد الشريف فبعثنا إليه رجلا بدويا من عرب ذلك الوطن أعطيناه له بالنصف فلما رجعنا استخبرنا عنه قالوا أتى به وأعطاه إلى بعض أحبابنا من مسراتة ثم إن المكرم محب الصالحين آغة أعطى ناقة للفاضل الفقيه أخيه سيدي عبد الكريم لوجوهنا رغبة في دعاء الخير منا وهو يتولى ذلك الجهل
__________________
(1) كذا في جميع النسخ وفي الرحلتين العياشية والناصرية المحل وهو أصوب.
وفقه الله وستره وجعل البركة في أولاده بفضله ورحمته.
وبعد السبخة بئر حسّان أقول فيه ما قال شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر بئر حسان بئر (1) منقور في حجر تجتمع فيه مياه المطر فإذا فرغ المجتمع فيه بقي محله يرشح بماء قليل يجم في قعره يبل به الظمآن فمه وبإزاء هذا الماجل قرى خالية لم يبق إلا رسومها تسمى فيها مضى قرى حسان إضافة إلى بانيها وكان عاملا لبني أمية لما نقض أهل أفريقية العهد في آخر خلافة بني مروان بنى هنالك قصورا وأقام فيها نحوا من ثلاثين سنين حتى افتتحها بعد ذلك حسبما ذكر من أرخ فتوح أفريقية وسمي المكان باسمه إلى الآن وقد تقدمت أشارة إلى شيء من ذلك أقول وبإزاء هذه الطريق بئر مطراو (2) وقد اسقينا خيلنا منه في الرجعة أنا وسيدي محمد الشريف وصهره الشريف من مسراتة وسيدي أحمد بن حمود وغيرهم وماؤه طيب غير انه واحد ومع وحدته لا يكفي الركب وليس لقلة مائه وإنما هو لكثرة الازدحام والتشاجر.
وبعد ذلك نزلنا الزعفران فوجدنا فيه الخصب العظيم ما رأيناه قط وأنوار النبات تغشي الناظر فلما نزلنا به ورأينا ذلك اطمأنت قلوب الحجاج لأن رؤية الخضرة والبحر والوجه الحسن تزيل الهم والغم والأحزان وماؤه أطيب المياه وأحسنها وهو أبيض كاللبن لكونه في رمل صاف ما علمت ماء في برقة كهو في جملة أبارها.
وظعنا منه فلما وصلنا وقت الضحى مررنا على معطن الأحمر ووجدنا فيه عربا كثيرا وهم عرب عبد الهادي وسيف النصر وهم عرفاؤهم وشيوخهم وهما قد
__________________
(1) في الرحلة الناصرية ماجل.
(2) في نسختين مطراق.
اصطلحا بعد العداوة البينة وطلبوا منها النزول للتسوق فامتنع (1) الحجاج استعجالا وفي ذلك الموضع تلاقينا مع الركب الفاسي والفيلالي مغربين ووقفنا مع أميرهما ساعة زمانية استخبارا عن مصر وأرض الحجاز وأنهم طلبوا منا النزول والمبيت جميعا لقضاء كل ما أراد غير أن ركبنا لما رأى العرب نازلين هابوا منهم وجدوا في السير حتى فاتوا ولم يمكنا النزول فلما مكثنا معهم حينا افترق الكل على أسعد حال وأتمه وبقي سيدي محمد الشريف وأصحابه يطلب شراء الإبل إذ جماله ضعيفة فتأخر من غير علم منا ثم بعد قضاء حاجته جاء وراءنا ولم يلحق بنا إلا بعد النزول.
هذا وإن شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر قال وفي قرب الزعفران رأينا سانية غزيرة الماء إلا أن ماءها ليس بذلك فسقى الناس إبلهم ودوابهم وملئوا أسقيتهم وهي أول عمالة سرت واكتفى الناس بما ملئوا منها عن ماء الزعفران لضيق الوقت وحيدودته عن الطريق لناحية البحر وهي أحساء في ساحل البحر ماؤها طيب وعليها كثبان من رمل أحمر تظهر من بعيد من وراء الكثبان من ناحية البر قصور سرت تخزن فيها الأعراب ميرتها أي أرزاقها وهي الآن خالية لا عمارة بها.
وبلاد سرت هذه من أخصب البلاد وأمراها أي أكثر أرزاقها ذات مزارع كثيرة بالبعل أي بلا سقي وإنما تسقى بالمطر وعربها أهل رفاهية إلا أن الجور أجلاهم من بلادهم وشتتت شملهم ولا يكاد أمرهم ينتظم ولهم جدار وعقار كثيرة بساحل أحمد ثم قصير الذبان بعد المغرب انتهى.
ثم ظعنا ونزلنا النعيم وماؤها حلو طيب أحلى ما يذاق وأرضه طيبة غير أن الظلم أخلى هذه المواطن لقوله صلى الله عليه وسلم لم يكن شيء أسرع بصاحبه
__________________
(1) في نسخة في أمتعة.
كالظلم ولقوله عز وجل : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) الآية.
وبعد النعيم مفازة عظيمة يعسر أمرها على الحجاج لا سيما زمان الحرف إن الشّوب قل من يسلم منه الناس إذ مقطع الكبريت صراط الدنيا لقلة مائة مرارته على تقدير وجوده والماشي فيها يستوحش من تغير لون السماء أكثر من أغبرار الأرض ومع هذا فهو أخفض (1) المفازات وأبعدها من تغير الهواء وإنما ينجو منها الإنسان بفضل الله وكثرة التزود من ماء النعيم إلى معطن المنعم نعم سر الله مع وفده وإلا فبضاعة الإنسان لا تستطيع المفاوز والمعاطب (2) والله يقول : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) ولو لا فضل الله ما سلم في مثلها أحد من المارين بها فإن الماشي بها كان الشمس نازلة إليه ومتوجهة لديه فلا يكاد الإنسان يعبر عما أدركه من ذلك ولا يعرف مقدار ما يصيبه إلا من ذاق من ذلك وشاركه في ذلك السبب الخاص.
ولذا قال شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر ما نصه وتسمى هذه المسافة مقطع الكبريت تغليبا وإلا فالمسمى بذلك موضع واحد في هذه المسافة مياه كثيرة إلا أنها تقل في بعض الأحيان وبعضه أجاج فيحتاط الناس بأخذ الماء الطيب وهي مفازة قبيحة تهب فيها السموم إلى أن قال ونزلنا غربي اليهودية ثم قال قال أبو سالم في رحلته وفي الرسالة القشيرية عن بعض الفقراء انه قال دخلت مدينة اليهودية بأرض المغرب وساق الحكاية إلى آخرها ولعل تلك المدينة هي هذه إذ لا نعلم بأرض المغرب مدينة تسمى اليهودية والله اعلم بحقيقة ذلك قلت وأني قد وقفت ببعض
__________________
(1) في نسخة أحفظ.
(2) في نسخة العاصف.
مواضع قرب تونس قبر الشيخ البركة الولي الصالح والبدر الواضح سيدي حسن السجومي نفعنا الله به وأفاض علينا من بركاته من أصحاب القطب الرباني والغوث الصمداني أبي الحسن الشاذلي من الأربعين يسمى اليهودية حسبما اشتهر ذلك في أول الزمان إلى الآن ويحتمل ما ذكر في الرسالة هذين الموضعين إذ كلاهما من أفريقية غير أن سيدي أحمد بن ناصر لا يعلم هذا الموضع. ثم قال وماؤها لا فرق بينه وبين ماء البحر ثم قال الشيخ بن ناصر قلت وبرقة مسافة شهرين من الإسكندرية إلى أفريقية وكانت متصلة العمارة لا تكاد تسير فيها بريدا ليس فيه أثر بناء ورسوم عمارة داثرة وقد جاء الإسلام وغالبا عامر ثم لم تزل عمارتها تضعف من موج الرعية وظلم بعضهم بعضا إلى أن خرج عرب هلال من مصر أواخر الرابعة وأوائل الخامسة فخربوا البلاد واستولوا على القرى فأفسدوها وخلت البلاد من يومئذ والبقاء لله الواحد القهار وبعد اليهودية الكحيلة وماؤها ذو حمأة لا يكاد يشرب وفي قربها الحدادية وهي بئر مستطيلة وماؤها ذو حمأة أيضا وهذه السواني كلها باقية إلى الآن وقد سقينا دوابنا من الجميع حال رجوعنا وأما الطلعة فقد كثر ماء السماء فاستغنينا به عن جميع الآبار إذ هذه المياه لا تصلح إلا للمضطر إذ ماؤها مر ومع ذلك فيه بعض الملوحة لكن يختلف ذوقه وقد يتقوى ذلك بحسب كثرة الأمطار وقلتها.
ثم بعد ذلك مررنا على سبخة مقطع الكبريت وفي أعلاها معدن الكبريت في آبار كثيرة يحمل منها الطين ومن هناك يحمل إلى طرابلس وكذلك إلى مصر والإسكندرية ويذهب منها مع الركب إلى مصر في كل سنة أحمال كثيرة غير أن الذي يريده يتقدم الركب إلى أن يقضي حاجته فيلحق الركب في الذهاب والإياب لما في الكبريت من منافع الإبل.
وبعد ذلك نزلنا المنعم وهي أحساء بساحل البحر ماؤها طيب عليها كثبان من
الرمل ينزل الناس وراءها فيمرون إلى الماء من بينها وقل ما يخلو من عمارة الأعراب وسقينا واستقينا وظعنا منه صبيحة.
ومررنا على السبخة والسبخة صعبة جدا كثيرة الوحل وفيها غور في بعض المواضع ولا ينجو منه إلا من يعرفها أو يقدم خبيرا يعرف المسالك لأن طريقها أقرب وإلا فليترك سبيلها وليذهب حذوها يمينا عنها حال الطلوع وبينها وبين البحر جبال من الرمل تصعب على الإبل طلوعا وهبوطا يعلم ذلك بالعيان وقد تشتت حال الركب فيها.
ثم سرنا يومين ونزلنا معطن اجدابية عند الزوال وسقى الناس واستقوا وملئوا أسقيتهم مارين مستعجلين إلى سلوك ووقفنا على مسجد بها يزعم الناس أن الإمام سحنون درس فيه ثلاث سنين ومن المنعم فارقنا البحر فلا تراه إلا عند التميمي.
أقول قال الشيخ العياشي وهذه اجدابية آثار عمارة كثيرة وآبار عظيمة منقورة في الحجر وبنيان هائل بالحجر المنحوت وهناك رسم مسجد قديم تهدم ووجدنا في بعض حجاراته تاريخ بنيانه منقوش سنة ثلاثمائة قال وهذه المدينة هي مدينة برقة المذكورة في كتب الفقه وقيل أنها مدينة بالجبل الأخضر في الجانب البحري.
وقد أخبرني صاحبنا سيدي عبد الله بن غلبون أنه رآها وأن رسومها تدل على عمارة قوية وبها آثار سور وأبراج ورخام كثير وقال أن بها قبرا مشهورا يزار ويزعم أعراب البلد انه قبر نبي فقلت له الغالب انه قبر صحابي فقد نص المؤرخون على أن رويفع بن ثابت بن السكن الأنصاري الصحابي قد توفي ببرقة وهو أمير عليها من قبل مسلمة بن مخلد وقتل ببرقة أيضا من الصحابة زهير بن قيس البلوي ندبه عبد العزيز بن مروان إلى برقة فلقي الروم فقاتل حتى قتل وما ذاك إلا قبر أحدهما فان
كثيرا من العوام يطلقون باسم النبي على الصحابي وقد شاهدنا كثيرا منهم يعتقدون في أبي بكر وعمر وعلي أنهم أنبياء ويظنون أن أسم النبي والصحابي مترادفان فلما أخبرته ب ذلك فرح وقال لي ليس الأمر إلا كما ذكرت.
قال ولما رجعنا من الحجاز سنة أربع وسبعين لقيته بمسراتة وقال لي ذهبت بعدك إلى المكان المذكور وتأملت القبر وعليه كتابة وأمارات ربما تدل على صحة ما ذكرت قال لي وذكرت كلامك لبعض الأمراء في درنة ففرح بذلك وأمر بالبناء على القبر والتنويه به والله لا يضيع أجر من أحسن عملا ونية المؤمن ابلغ من عمله فان صح أن هذا القبر قبر الصحابي المذكور بتلك المدينة هي برقة المشهورة لا أجدابية والأمر في ذلك قريب فان بين المدينتين نحوا من خمسة أيام فكلاهما يصح أن يقال بينها وبين كل من مصر وأفريقية شهر إذ بذلك يعرفها الفقهاء إلا أن التي بالجبل أقرب إلى مسمى المدينة لما بإزائها من المياه والأماكن المخصبة والمزارع الكثيرة الغياض الملتقبة من أنواع الأشجار بخلاف اجدابية فإنها في صحراء من الأرض مقفرة والله اعلم بغيبه ومسمى برقة على التعيين عند عرب البلد اليوم هي مسيرة ستة أيام من المنعم إلى سلوك وفيها رسم أبنية كثيرة وإطلاق برقة على ما سواها مجاز علاقته المجاورة (العلاقة بفتح العين المناسبة) وهذا مما يقوي أن مدينة برقة هي اجدابية وبإزاء المسجد الذي بها قبر محوط عليه بالحجارة يزار يقال لصاحبه سيدي يونس وهو من عرب الفواخر.
وقد وجدنا ركب أهل تونس الذين مروا أمامنا قد أوفدوا عليه شمعا كثيرا وبقيت منه بقية فأردنا أخذها للحاجة إليها ثم توقفت في ذلك وبعد ذلك ظهر لي جواز أخذه فبعثت إليه فوجدت الغير أخذه انتهى كلام العياشي.
وذكر شارح الشقراطسية الشيخ محمد بن علي برقة فقال أما وصفها فقال
البكري رحمه الله واسم برقة بالرومية الإغريقية بنطابلس تفسيره خمس مدن وذكر أن مدينة برقة في صحراء حمراء التربة والمباني فتحمر لذلك ثياب ساكنيها والمتصرفين لها وعلى ستة أميال منها الجبل وهي دائمة الرخاء كثيرة الخير تصلح بها الماشية وتنمى على مراعيها وأكثر ذبائح أهل مصر منها ويحمل منها إلى مصر الصوف والعسل والقطران وهو يعمل بها بقرية من قراها بقرب جبل وعر ما يرقى إليه فارس على حال وهي كثيرة الثمار من الجوز والأترج والسفر جل وأصناف الفواكه ويتصل بها شعر عويصة من شجر العرعر وببرقة قبر رويفع صاحب النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما فتحها فاعلم أن عمرو بن العاص افتتحها في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك سنة إحدى وعشرين وصالح أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار وعلى أن يبيعوا من أبنائهم في جزيتهم.
قال ووجه عمرو بن العاص عقبة بن نافع حتى بلغ زويلة وصار ما بين برقة وزويلة للمسلمين وزويلة مدينة غير مسورة في وسط الصحراء وهي أول حد بلاد السودان وبها جامع وحمام وأسواق يجتمع بها الرفاق من كل جهة منها يتفرق قاصدهم ويتشعب طريقهم وبها نخيل وبسيط الزرع وبرقة بفتح الباء المنقوطة بواحدة وسكون الراء المهملة بعدها فاف والإغريقية بكسر الهمزة وسكون الغين المعجمة وكسر الراء المهملة وكسر القاف وتشديد الباء قيل المراد بالرومية الإغريقية القديمة التي هي أصل لغة الروم والله اعلم وبنطابلس بفتح الباء المنقوطة بواحدة وسكون النون بعها طاء مهملة وباء منقوطة بواحدة مضمومة ولام مضمومة وآخرها سين مهملة كذا وقع في كتاب البكري والذي وقع في المدونة انطابلس بالهمزة قال وجباب انطابلس ومراجل برقة إلا أن هذا الذي في المدونة يؤذن أنهما مدينتان بخلاف ما قال البكري لكن يحتمل أن تكون إحدى تلك المدن برقة
وانطابلس اسم لجميعها كما يقال قسطيلية وتوزر لإحدى بلد قسطيلية والشعر الشجر الكثير وأرض كثيرة الشعار أي الشجر انتهى كلامه.
قلت وفي رحلة شيخنا العياشي وأرض برقة منقسمة على أقسام أولها من حسان إلى ما وراء الأحمر بيومين يسمى سرت ومن هناك إلى قرب المنعم يسمى برقة البيضاء ومن هناك إلى سلوك يسمى برقة الحمراء ومنه إلى التميمي (1) يسمى الجبل الأخضر ومنه إلى العقبة الكبرى يسمى البطنان ومن العقبة الكبرى إلى الصغرى يسمى بين الأعقاب ومن العقبة الصغرى إلى الإسكندرية يسمى العقبة الصغيرة وقد ذكر العبدري تقسيما غير هذا جار على اصطلاح أهل زمانه انتهى.
قلت وسلوك المذكورة آبار متعددة كآبار اجدابية في صفتها ومائها وبإزائها أيضا رسوم بناء إلا أنها قليلة بالنسبة إلى اجدابية وماؤها يقل في أيام الحر وبه تتعرض الأعراب للإركاب لقصد التسوق ويجلبون إليها الكثير من السمن والزرع واللحم والإبل ومنه يتوجه القاصد مرسى ابن غازي وهي مرسى حسنة بسفح الجبل الأخضر بينها وبين سلوك مسافة يوم وفيها عامل وعسكر لصاحب طرابلس وفي تلك المرسى تصب أودية السمن والعسل والشحم والودك من الجبل الأخضر الذي لا أخصب منه ولا أكثر منه أداما فيما رأينا من البلاد وتحمل كل ذلك السفن إلى طرابلس وجربة وما بإزائهما من البلدان ومن هذا الجبل غالبا أدامهم ولحمانهم قال شيخنا العياشي رحمه الله وقد دخلنا طرفا من هذا الجبل سنة تسع وخمسين في شدة الحر وتسوقنا طائفة من أهله بما قضينا منه العجب من السمن والغنم والإبل لم نعهد مثل ذلك في بلد من البلدان ولا رأينا أرخص منه سعرا ولا أقل معرفة بالبيع والشراء من أهله يؤخذ منهم زهاء قنطار من السمن بالثمن التافه من بز أو عروض
__________________
(1) في الرحلة الناصرية ومن التميمي.
أو غير ذلك من الحوائج ولا يعرفون للدراهم قدرا وكانوا لذلك كنعمهم غفلا لم يدخل التجار بلدهم ولا صادرتهم العمال عن أموالهم إذ لا حكم لأحد من العمال عليهم إلا أشياء قليلة يؤدونها في بعض الأحيان لصاحب أو جيلة وأوجلة قرية كبيرة أو بلد عظيم لا يخلو من العلماء والصلحاء بقرب برقة تتسوقه الناس مع كل بلد وهو في حكم طرابلس لأن غير أن حكمه فيه ضعيف نفعنا الله بأهله.
وأما صاحب طرابلس فلم يكن له عليهم إذ ذاك حكم وأما الآن فهم تحت أيالته وفي أسر طاعته يؤدون الخراج ويدخل التجار من أهل طرابلس ومسراتة بلدهم لشراء الإبل والبقر والغنم والصوف والأدام فبذلك حصل لهم بعض الخبرة بقيم الأشياء ومقاديرها وعرفوا الدينار والدرهم وأما قبل ذلك فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
غريبة عرب هذا الجبل من أشد العرب كفرا ونفاقا لا يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله ليس عندهم من الدين إلا اسمه لا حرفة لهم بعد تنمية المواشي إلا النهب والغارة قل ما مر بهم ركب فسلم من انشاب الحرب بينهم وبينه بسبب غدرهم وفتكهم عن اشتغال الناس بالسوق معهم وقد وقع ذلك معهم مرارا قال وأغرب من ذلك أنهم لا يعرفون السرقة فيحترس الناس منهم نهارا خشية النهب والغارة وبالليل يبيت الناس رقودا مطمئنين لا تسرق لهم حاجة وما ذاك والله اعلم إلا لانقطاعهم عن العمران وتوحشهم والسرقة في الغالب إنما تعهد حيث يكثر العمران وتجتمع أجناس من الناس وتعمر أسواق ويوجد بيع وشراء.
وأما هؤلاء فأعداؤهم بعيدون منهم لا يقدرون منهم إلا على الغارة المرة بعد المرة وفيما بينهم يامن بعضهم بعضا فالقوا ذلك نوادر هذا الجبل في رخاء الأدام وغفلة أهله عن قيمته وكثرة خصبه وبيعهم لبناتهم وأخواتهم وغير ذلك أشهر من
أن يذكر وطول هذا الجبل نحو عشرة أيام من بحرّيه وسبعة أيام من الناحية الأخرى وأكثر شجر الناحية التي مررنا بها العرعر حتى انه من شدة اشتباكه والتفافه لا ينفذ الناس فيه إلا في طرق معلومة وشعاب مسلوكة ومن خالفها توعر وانتشب في الغياض بحيث لا يخلص إلا بمشقة لا سيما إن كان ذا دابة ومع كثرة غلب هذا الجبل لا يوجد فيه الأسد والحجاج يزعمون أن سيدي أبا محمد صالحا دعا عليه فأجلاه الله من هذا البلد لئلا يؤذي صعاليك الحجاج وذلك أن صح غيض من فيض فيما لأولياء الله من الكرامات.
غريبة قال ومما شاهدناه في عرب هذا الجبل من الغرائب ركوبهم على البقر وحمل الهوادج عليها وأناختها عند الركوب والنزول مثل الإبل من غير مشقة عليها ولا عليهم في الإناخة لاعتياد الكل لذلك ولله في أرضه عجائب وفي طباع الحيوانات غرائب وكذلك الغنم لا يسوقونها إنما يسير صاحبها أمامها قلت أو كثرت وهي تتبعه فإذا أمهل في السير أمهلت وإذا أسرع أسرعت وإذا جرى جرت ويأتي أحدهم بالكبش إلى السوق وهو يتبعه كالكلب المعلم ثم سرنا من أجدابية بعد صلاة الظهر وزيارة مسجد سحنون لبقاء أثره لا سيما المحراب.
ثم نزلنا بعدها بصعدة (1) وبتنا ثم ظعنا منه فسرنا مرحلتين فوصلنا إلى معطن سلوك ونزلناه وقت العصر فبتنا فيه وأقمنا يوما انتظارا للتسوق من أهل ابن غازي إذ بعثنا إليهم رسولا من المنعم فأتوا إلينا في البلدة الثانية بالشعير وبالسمن والعسل وبعض الإبل.
وقدم إلينا بعض أحبابنا من قرية ابن غازي إذ بعثهم الود الصدوق والخل
__________________
(1) في ثلاثة نسخ بمدة.
الفاروق سيدي عبد اللطيف بسمن وشعير وغير ذلك جزاه الله أحسن الجزاء ثم إنهم طلبونا في الإقامة وامتنع الحجاج لكونهم مستعجلين لأن يدخلوا مصر في أوائل شوال غير أننا أمهلناهم لوقت الضحى فانصرف الكل على خير وعافية ومع هذا ذهب معنا البعض منهم من الأتراك وغيرهم إلى مصر بالإبل للتجارة فأحسن الجميع بنا والمحسن يجازى بالإحسان والمسيء تكفيه إساءته والله يقول ما على المحسنين من سبيل.
ولما سقى الناس واستقوا وملئوا أسقيتهم ما يكفيهم سبعة أيام إلى التميمي لأن السروال أصعب شيء في طريق الحج لانعدام الماء فيه أعني الحي وأما ماء السماء فعلى فتح إلهي ووهب فرداني غير أن الله لا يدع وفده إذ هم ضيافة فحاشاه من كريم أن يتركهم عطاشا لأنه أما أن يرزقهم بماء السماء ينزل عليهم في الحين أو يجدونه في بعض الأودية والغدران مخبوا (1) لمثلهم منة من الله وفضلا على قاصديه إذ لا يخلوا وفده من أحبابه الذين حركهم الشوق والوجد إلى تلك الأماكن الشريفة والمعاهد السنية والمواطن المحبوبة لتتصل بالساكن وتشاهد محبوبها فيها ويزيل ما بها من قلق الشوق وترتاح من مرض العشق فيخف بعض ما بها لأن الروح يطير إلى المحبوب فيرده فقص البدن فيسكن بعض سكون بنسيم الوصلة ورؤية حي المحبوب لأن الجوار ترياق المريض أي دواء مجرب والدرياق بالتاء أو الدال أي الدواء الجرب
هكذا فسره القاضي زكرياء في شرحه للرسالة القشيرية رضي الله عنه ونفعنا بهما آمين.
[إذ قال الأستاذ قبر معروف في بغداد ترياق أو درياق مجرب أي دواء مجرب](2)
__________________
(1) في نسخة فحق.
(2) ما بين القوسين ساقط في نسختين.
ولذا تتحرك النفس لإشراق محل النبوءة فلا تتعب بما حصل لها في الطريق لغيبها بالمحبوب عن ذلك فلا تتألم فإذا تمهد هذا فلا تخيب رفقة من هذا وصفه فحينئذ أما أن يرزقهم الله بماء جديد أو مستعد أو يكون البركة في أسقيتهم.
وقد شاهدنا الجميع مرارا والشكر لمن له المنة والفضل فلا تحسب الوفد خاليا فتكون فارغا إذ الجامد فارغ من الضمير المتعلق بهم فيحرم من بركتهم وهذا الذي يحصل له التعب لأنه إن وجد الماء فلا يجد الظرف وإن وجد الظرف فربما تتقطع وان سلمت ربما عطبت الدابة الحاملة وغير ذلك مما يصيب المحروم المزكوم عن شم شذاهم وإلا فمن لم يصبه وابل منهم فطل.
وقد سمعت من العارف بالله الصدر الأعظم ، والعالم الأفخم ، والورع الأفهم ، الجامع بين الشريعة والحقيقة سيدي محمد المغربي الطرابلسي عام (1154) أربعة وخمسين ومائة وألف يقول أن العام الذي قبل العام الأول تقبل الله من أهل عرفة سبعا وما عداهم قد رد ثم إن السبعة قد جدوا في الطلب واجتهدوا في الدعاء من الله أن يغفر لأهل الموسم إلى أن دخل رمضان فشفعهم الله في أهل الموسم جميعا ولم يرد منهم واحدا.
وأما العام الأول قال قد أتى رجل من أهل الله من فاس ليس له قصد ولا غرض إلا الشفاعة في أهل عرفة فلما وصلها شفعة الله فيهم وحررهم لوجهه جميعا حتى أهل الترهة.
ثم قال وقول الفقهاء وصح بالحرام وعصى مذهب فقهي وإلا فمذهب أهل الفضل أن الله يغفر لجميع من وقف بعرفة وكيف لا وأن المعلم الأكبر الذي هو صلى الله عليه وسلم حاضر هناك وكذا أصحابه مع النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين وأهل التصريف والخضر والياس والملائكة ورجال الغيب وبركة الجميع تنوب عن الجميع والله يستحي أن يرد جمعا فيه محبوبه أو يمقت أناسا فيم أهل وده ولذا رفع الله المسخ لوجود أهل الذكر فيهم وما دام ذكره في الأرض فلا مسخ فيها لقوله عز وجل : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) فإذا علمت هذا فاعلم أن السروال محل صعب للعاقل (1) وغيره فيه سبعة أيام لا ماء فيها غير المرفوع أو الموجود بالفضل وفيه من التعب ما لا يمكن التعبير عنه إلا بالذوق غير أن الله يمن بفضله عليهم ويرحمهم ويرفق بهم بمحبته صلى الله عليه وسلم وأيام هذا الموضع مفازة في انعدام الماء مثل هذه ولذا قال بعض الحكماء لو لا السروال في برقة والعشاريات في الدرب لحج النساء والصبيان غير أن فضل الله يوصل ويبلغ ولا تعتقد أن كثرة الزاد مبلغة إذ ربما صاحبه هلك وغيره نجا وسلم والاعتماد إنما هو على الفضل والمنة من الله تعالى واستصحاب الزاد شريعة وسنة فالوقوف معها وقاية وجنة هذا وأن المخلص من صعب الزمان ، وقساوة المكان ، الاعتماد على مدد الرحمان ، والتخلق في هذا الطريق بالرأفة والشفقة للضعفاء من أهل الإيمان ، فان من رحم يرحم وان الله في عون العبد ما دام في عون أخيه وليس التخلص من سموم عقارب الزمان ، وأفاعيه إلا بترياق التفضل والإيثار بحسب الاستطاعة والإمكان.
ثم إن سعة الصدر وسلامته يحفظان من كل أذاية دينية ودنياوية وإن كانت سلامة الصدر ممدوحة في غير هذا الطريق غير إنها في هذا الطريق أنفع وأتم لا سيما مع وجود الرحمة والعفة وكف اللسان عن الخوض فيما لا يعني وعدم الاسترسال فيما لا يحتاج إليه فكما غاب الإنسان عن أهله وأحبابه يغيب عن مألوفاته إلا ما لا بد
__________________
(1) في نسخة القوافل.
منه مما يقتضيه شرع أو طبع مع كونه مباحا بحيث أن أسبابه ليس منهيا عنها لأن قبول الحج موقوف على تصحيح بدايته من حيث إقامة الحق عليه في تحصيل أموره ومادة أسبابه وإباحة موصله ورعي الحقوق في جميع ذلك كله من غير مهلة إلا ما أخره الشرع لوقته فسوف يأتي الله بقوم يعينونه على ما هو بصدده لقوله تعالى : (عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا) فتتيسر أسبابه وتجتمع همته ويتحقق مقصده وتتهيأ أعماله القبول مع استيفاء الحقوق فمن كان معه حال اجتماعهم به فهذا هو إشراق بدايته وهو يدل على إشراق نهايته لأن من صحت بدايته صحت نهايته مع الاتساع في معاملته والإنفاق على قدر طاقته والمعاملة بقدر أسراره والرأفة بقدر وسعه لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فيحسب قوته إذ لا يكلف الله إنسانا إلا بقدر استطاعته.
وإنما تنزل الرحمة على رفقته بقدر وصفه بما ذكر ونعته فإذا تقرر هذا فاعلم أن هذه المفازة كما وصفناها أولا غير أن الله تبارك وتعالى يسرها علينا بفضله لأن مقتضى العادة أن تتعسر على من هو مثلنا لأني بعيالي ثلاث نسوة زوجة لأبني وزوجتان لي مع كثرة الجماعة وقلة ذات اليد وكثرة البغال إذ كان معي خمسة ومع ذلك لم يصب الجميع جوع ولا عطش ولا خصنا خصب الدواب ففضل الله ظاهر ، ووجودة باهر ، وسوق أحبابه عامر ، وعطفه علينا حاضر ، لا سيما أنا تهنا عن الطريق حين دخولنا السروال أنا وجماعة أمير الركب سيدي محمد المسعودي الدكالي الصحراوي إذ تخلفنا لصلاة العصر فلما صليناه غاب عنا الركب بين الجبال فجددنا في لحوقه فتهنا عنه تيها عظيما ثم افترقنا في طلبه فلم يظهر لنا أثره ولا تبين لنا خبره ثم إن الله تفضل علينا بوجود آثاره بعد الاياس منه هذا وانه كريم لا يخيب من قصده ولا ينعكس معتمده أصلا فلما تفضل علينا وتكرم لدينا لحقناه بعد أن نزل واستقر في مبيته ووجدنا أيضا الإبل في مسارحها والناس متفرقون في مصالح المبيت
وهي أول منزلة من سلوك.
ثم ظعنا منه صبيحة ومررنا بمخاصب وأماكن كأننا ما رأيناها قط وبعد ذلك اليوم اختلف الناس هل الخبير حصل له تيه أم لا وعند اليوم الرابع ظهر لنا أنه قد تاه بنا غير أن تيهانه ليس بعيدا غايته انه مال بنا إلى جهة الصحراء إذ التوغل فيها يخرج عن سنن الاعتدال في الطريق بل المقصود المسير نحو جهة البحر ومحاذاته أياه غير أن اليوم الخامس صبيحته وقع التنادي في الركب والتباريح على أن الركب قد حصل له التيه وافترق جميعنا في طلب من يعرف الطريق ليرد الجميع إلى المقصود فلما افترقنا ساعة وإذا بأثار البغال من مسير الأركاب الماضية رأيناها فحصل اللطف واستبشروا بوجود الطريق وحصوله في أقرب مدة لما علمت أن وفد الله لا يخيب ولا ينعكس لإسباغ الله نعم الطافه عليه ووجود منته به فحصل لنا السرور بالإشراف على المفازة بالتوجه نحو قرب التميمي.
وفي اليوم السادس مررنا على قرية معلومة فقد قيل أنها آخر عمارة برقة وهي حديثة العهد بالخراب لأن أشجارها قائمة على أصولها لا سيما الزيتون وفيها آبار لا ماء فيها وأثار بنيانها ظاهرة وأسوارها متطاولة وأزقتها مشهورة وفي أسفلها واد كبير يجري السيل إليه ومنه ساقية تتصل بتلك القرية عظيمة عند وجود الأمطار فليس شربهم ولا استقاؤهم إلا من ماء الأمطار المجتمعة فيها ثم إن الحجاج تسابقوا إلى ذلك الوادي فوجدوا فيه غديرا صغيرا لا يبقي دوابهم فازدحموا عليه وخوضوه إلى أن صار طينا فلم يوف أحد مقصوده منه وبعد ذلك بمرحلة تفضل الله على الحجاج فوجدوا ماء مستبحرا في مواضع عديدة يكفي أركاب الدنيا كلها سقيا واستقاء ورفعا فأغناهم الله عن النظر إلى التميمي.
وفي ذلك اليوم ولدت بعض النساء طفلا وتأخرنا في جماعة انتظارا لها على أن
الله تفضل بتيسير طلقها وهي زوج سيدي عبد الرحمن الذويبي (1) ثم العمري من بلدنا بيننا وبينه مسيرة يوم ففرحنا له ودعونا له بالبركة وبعد ذلك لحقنا الركب بعد نزوله واستقراره بخيامه.
ثم ظعنا بعد ذلك الموضع فنزلنا التميمي على شاطئ البحر فيه آبار وحسيات (2) قرب البحر غير أن ماء البئر ليس طيبا بل فيه بعض ملوحة كما يعمله ذائقه والذي ثبت عند الحجاج واستقر عليه أمرهم أن ماء الحسيات أطيب وأعذب منه غير أنها تحتاج إلى معالجة وتنقية رمل وفيه من التعب ما لا يخفى فاستقى الناس بالبئر هربا من الكلفة وطلبا للعجلة وقد وجدنا هناك عربا متفرقين أكثرهم بلا بيوت قد أضر بهم الجوع إذ قل ميرهم ووقع القحط فيهم سنين متعددة وبلادهم في غاية الجدب ومع ذلك الغالب سلب بعضهم بعضا على أنهم مسلوبون إذ تعدى (3) عليهم عرب فأخذوهم بعد أن أخذوهم فكان الرجل يبيع أولاده وكذا المرأة تبيع أولادها إن كانت إيما.
وقد شاهدنا ذلك فنهينا الجميع عما هنالك فمن الحجاج من امتثل ومنهم من أعرض واشترى فالقادر منهم ذهب مع الحجاج وغيره طلب ما يقتات به في الحال وبقي الآن الجوع أخذ فيه نعم الحجاج أشبعوهم الطعام جزأهم الله أحسن جزاء إذ سمعت منهم أن البعض منهم لم يذق الطعام نحو الشهر والشهرين وإنما يأكل النبات (4) من الخضر ليس إلا غير أن الشبعة الواحدة لا تسمن ولا تغني من جوع [وإنما يحصل بها الأحياء في الوقت وقد فعل الحجاج ما وجب عليهم بل زادوا
__________________
(1) في نسخة الذوبي.
(2) في نسخة حسيان.
(3) في نسخة جار.
(4) في نسخة المنبوت.
زادهم الله خيرا](1) وإنما المشكوك فيه هل يجب علينا رفعهم إلى محل يقتاتون فيه ليحصلوا غرض الحياة إذ بقاؤهم هناك مهلك قطعا على حسب العادة الجارية غير أن قواعد الفقه لا تقتضي الوجوب لأن استخلاص المستهلك من نفس ومال يجب في الحال وأما في الاستمرار فلا لأن رفعهم إلى موضع العمارة قل من يقدر عليه والأحكام مبنية على الغالب وقد طال النزاع بين الطلبة من أفاضل الركب فمنهم من يقول بوجوب رفعهم لكونهم انقطعوا عن العمارة إذ بقاؤهم هناك موت أبيض لانقطاع مادة الرزق بحسب المألوف العادي ومنهم من يقول يجب إطعامهم في الحال لتحصل لهم الحياة حينئذ وغير هذا غير مكلفين به وهذا الثاني هو الذي يظهر من قواعد الفقه لقول خليل أو فضل طعام وشراب لمضطر يعني في الحال وأما ارتقاب المئال فالرزق على الله إذ في الغيب عجائب لا يعلمها إلا الله وقد قال تعالى وكائن من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم ولقوله وعنده مفاتح الغيب لا يعملها إلا هو وإنما رتب الله الأرزاق على بعضنا بعضا استمطارا للثواب وإظهارا له للمحسن من غيره ليكون محبوبا لديه إذ الله يحب المحسنين وقد قال ما على المحسنين من سبيل أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ومن يخبل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني والمانع عند الاضطرار ، متعرض للآثام والإضرار ، وذلك سخط العزيز الجبار ، فالعاقل لا يبخل بما لغيره لا سيما عند الأذن منه وإلا حق ضده نعم كل ميسر لما خلق له فأسباب السعادة قريبة وكذا أسباب الشقاوة فالسعيد يشتري رضاه بما له والشقي بالعكس يبخل بما له عن رضاه وبالجملة ما أقبح نائبا لا يحسن التصريف عن منوبه فيما نابه فيه لأنه أمين في ذلك ليس إلا.
فإذا علمت هذا علمت أن بعض الناس يفتخر ويتكبر بمال الله وهو للورثة
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط من نسخة.
وليس له فيه إلا ما انتفع به في الحال وبخله دليل على شقاوته لا سيما في هذه الأماكن الشريفة ومع ذلك الله تبارك وتعالى يقول الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا فكيف يبخل الإنسان بواجب عليه وهو البخل الممنوع (1) إجماعا وقد شاهدناه فيمن معه فضل ووسع يبلغه إلى أهله يقيمه سنين متعددة ويرى الناس في السياق بالجوع ولا يمدهم بلقمة من طعام ولا شربة من ماء ومع ذلك يشتري الأحرار ممن أصابه الجوع بفضلة ماله فيشقى في الدارين لا رضا الله حصل ، ولا مال احتفل ، غير أن من سبقت له الشقاوة يخجلك على رءوس العوام بما لا عذر فيه كما سمعته من بعض المخذولين من طلبة ابن غازي (2) إذ يقول متعللا عند بخله بواجب يمسك عرض الحياة في الإنسان بسبب جوعه أنهم كثروا وتجاوزوا قدر الاستطاعة فلا يمكن الاستيفاء بما وجب علينا وتبعه على ذلك بعض من تراس من أهل الدنيا إذ طبع الله على قلبه والعياذ بالله لأن القدر الواجب سهل والقائم به لا يعسر عليه ولا يحجف بما له إذ من بلغ حد السياق قليل بالنسبة لمن حصل له الجوع وإقامة البعض منهم بذلك فيه كفاية وإنما حيرهم كثرة السائلين وأدعاء كل الضرورة بل بعضهم أو أكثرهم يدعي حد السياق فالتبس عليهم القدر الواجب فتركوا الكل احتياطا بالبخل ولو أقاموا بالكل لا حتاطوا بالمرضي.
ولما اجتمعت معهم زجرتهم عن ذلك ونهيتهم عن الإقامة بحظوظ أنفسهم إذ قلت لهم إن كل من مات فهو في صحائفكم لما علمت أن من منع فضل طعام أو شراب لمضطر حتى حصل له الهلاك يغرمه (3) شرعا حتى استظهروا انه يقتص منه إذ مثلهم لو فرقوا الزّمن والضعيف لم يصعب عليهم.
__________________
(1) في ثلاث نسخ ممنوع.
(2) في نسخة بإسقاط ابن غازي.
(3) في نسخة يضمنه.
وأما الصحيح فيخدم على نفسه ثم أن رأيهم قد اتفق معي على أنهم يركبونهم في المراكب إلى الإسكندرية وبر الترك وإلى طرابلس وتونس فقلت لهم هذا القدر كاف شرعا والمسألة يتعذر فيها الاستقصاء فإذا تمهد هذا فأقول انعطاف إلى ما كنا بصدده.
وهو أننا ظعنا من التميمي وأخذنا شاطئ البحر متفرقين لما في الطريق من كثرة الشجر والحجر إلى أن قربنا ساحل البحر وأشرفنا على عين الغزالة وتلاقينا ببعض الأعراب راحلين إلى التميمي معهم أموالهم يطلبون الكلا ويسألون عن عافية المحل فقلنا له قد انجلى أهله لقلة المير والجور فتسوق بعض أهل الركب معهم.
وفي ذلك اليوم سقط ولد الفاضل الكامل الفقيه سيدي أحمد الصدقاوي الملقب عياض عن مركوبه فتحيرنا من أجله إذ حين سقوطه لم يبق فيه إلا نفس ضعيف وقد غشي عليه كأنه سكران ثم إن بعض الناس من أهل الخبرة قال اتركوه كذلك من غير أن توقظوه فبنفس إفاقته يرتاح وإن أيقظتموه حصل له المرض العظيم الألم الكبير فكان الأمر كما ذكر فتركناه حتى أفاق بنفسه وحصل اللطف من الرحمان عليه وعلى والده وعلينا أجمعين.
وفي ذلك اليوم أيضا حصل بعض التشاجر لأهل الركب ووقعت معركة عظيمة بين أهل عامر وأهل قصر الطير بالحجر والعصي غير أن الله رزق لنا اللطف من حالهم حيث لم يموتوا فهو من جملة ما تكرم الله به علينا في عدم حصول القتل ذلك اليوم وبذلك حصلت الفرقة في الركب وتقوى الغيظ بينهم ثم اجتمع أهل الفضل وأصلحنا بينهم أصلح الله حال الجميع بمنه وكرمه.
أقول قال شيخ شيوخنا المذكور ودرنة مدينة على ساحل البحر بها مرسى بينها وبين التميمي مسافة يوم ونصف من غربيه وكانت خالية منذ زمان إلى أن عمرها
الأندلس قرب الأربعين والألف ولم يزالوا بها إلى أن ربطوا فانشبوا الحرب بينهم وبين أمير طرابلس فأخرجهم منها صاغرين بعد وقعة قتل بها مئون من أشرافهم وهي الآن في طاعته وفيها عامله المستولي عليها وعلى عرب الجبل ومرسى هذه المدينة عجيبة تنزل بها السفن الجائية من الإسكندرية ومن طرابلس ومن بر الروم لا سيما مدينة (1) كندية فإن بينها وبين مدينة درنة مسافة يوم في البحر لأنها في مقابلتها والمعاش فيها متيسر كثير لجمعها بين البادية والحاضرة انتهى.
أقول ثم أن عين الغزالة صلينا عند قربها الظهر وهي عين جارية ماؤها عذب فيه بعض ملوحة تصب في بحيرة منقطعة عن البحر يدور بها القصب من أكثر جهاتها وليس في برقة كلها ماء يجري إلا هذا ثم قال الشيخ المذكور.
غريبة وفي ميسرة الطريق شرقي العين المذكورة وأنت مشرق بيت منحوت في الحجر الصلد قال شيخنا العياشي رحمه الله في رحلته طوله عشرون ذراعا في مثلها وبداخله بيت آخر نحو نصفه وفيه غرف صغار كأنها مخازن وكل ذلك منقور في الحجر الصلد نقرا عجيبا مربعا كهيئة أحسن ما أنت راء من البيوت وباب مربع كأحسن الأبواب وعند الباب حجرة واسعة منقورة في الحجر أيضا فتعجبنا من حسن صنعتها وإتقانها وتدبرنا قوله تعالى وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين.
قال وقد ذكر العبدري هذا البيت وأجاد وصفه وبهذا الموضع أرض طيبة كلها منقسمة فتخدم للحرث وأثار البناء متصل بأطرافها وعن يمناها شعاب تنصب من الجبال وكأنها كانت مجاري السيل ويقسمها أهل تلك الأرض على مزارعهم اه ـ.
ثم ظعنا من ذلك الموضع وسرنا نحو المرحلة أو المرحلتين فوجدنا آبارا مملوءة
__________________
(1) في الرحلة العياشية جزيرة.
بماء المطر فشرب الناس وسقوا دوابهم واستقوا بل حصل المطر بالفعل فأغنانا عن المعاطن بل كل يوم أو يومين نجد غديرا من الماء بل الماء كثير.
وفي تلك المراحل مررنا بشجر التين والخروب وأظن أن هناك شجر الرمان وغيره وفي اليوم الرابع وجدنا ماء كثيرا أعني ماء المطر إذ وجدنا بئر ماجل كبير عظيم (1) فاستقى منه جميع من كان في المراكب وسقوا منه جميع دوابهم فلم يؤثروا فيه لكبره ووسعه بل شاهدنا فيه أمرا عظيما من وضع البركة التامة لكثرة الخلق إذ فيه ألوف مؤلفة فإن أخذ الركب في المشي لا يستقصيه الراكب من أوله إلى آخره إذ سمعنا من أهل طرابلس وأهل مصر بأن قالوا منذ حصل لنا التمييز ما طلع ولا جاء ركب من المغرب مثله وقد استعظموه غاية ومع هذا أن البئر لما رأيناه ظننا أنه لا يكفي العشر منه فكفى والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد انصراف الركب تأخرنا في جماعة فرأيناه كأنه لم يغرف منه دلو ولم يستق منه بشر ثم إن العجب العجاب في ازدحام الناس على البئر ولم يقع فيه أحد غير أني وقفت بالعصا على رءوسهم فمن أراد أن يؤذي صاحبه ضربته على ظهره ثم أن القوم أصابهم حياء من جانبنا غفر الله لجميعهم فحصل المقصود على التمام والوفاء فرأينا فضلا عظيما ، وخيرا عميما ، وذلك من خوارق العادة.
تنبيه ما هو أغرب من هذا وأعجب منه كرامة اليوم الذي بعد هذا اليوم حين قربنا من سطح العقبة ومرحولي شيخ الركب يتأخران عن الركب بكثير حتى لا نرى أحدا من الركب بل إنما نلحق الركب عند المبيت نعم من عادتي أتأخر مع الفضلاء سيدي أحمد الطيب وسيدي أحمد بن حمود (2) وسيدي محمد الشريف النوفلي رفقا
__________________
(1) في نسخة بئرا كبيرا عظيما.
(2) في نسخة حمودي.
بالضعيف من الحجاج وكذا شيخ الركب معنا وأصحابه غير المستعجل منهم.
وفي هذا اليوم تركت مرحولي (1) وذهبت إلى الفاضل الكامل صهري سيدي عبد الله بن رحاب والصديق سيدي محمد الشريف وجماعة من الحجاج ليشتروا لي جملا أو جملين خفت من ضعف أو بقاء الجمال الحاملة للنساء فتقدمت أول الركب وكان الركب توجه نحو اليمين للصحراء ثم أن سيدي عبد الله أمر العلام لينشر رايته فإذا رآها الحجاج رجعوا إلى سطح العقبة فلما امتثل الركب وإذا بالحجاج انعكسوا دونه إلى أن رجع الكل إلى قرب السطح ونحن في ذلك من غير تراخ وإذا بالطامة الكبرى من الخيل قد عمت على الركب فظننا أنهم أهل الوطن أولاد علي إذ سطح العقبة وطنهم غير أنهم أحاطوا بالركب فأراد بعض أن يضربهم بالبندق فزجرهم سيدي عبد الله وغيره ظنا منهم أ ، هم أهل الوطن فلما بادروا إلى الحجاج سبقت إلى أول الركب فأمرتهم بإناخة الإبل ليتصل آخر الركب بأوله فحص المقصود الذي رمته وأن الركب قد اجتمع إذ فيه نكاية العدو فأقام الناس على ساق الجد الاجتهاد على قدم واحدة ونحن كذلك وإذا بالصريخ وراءنا أن مرحول عبدكم ومرحول الشيخ قد أخذهما المحاربون فرجع الناس صفقة واحدة وذلك بعد وصول المحاربين إليهما فردهم الله خائبين منعكسين لسابق عناية الإله وفضل الأشياخ والأحباب وأسلافنا نابوا عنا جزاهم الله عنا خيرا فلما كنت في آثارهم وإذا بالمبشر يقول يا فلان قد سلم أهلك وأهل الشيخ فشكرت الله تعالى على ذلك بعد أن حصل الإياس لفرط تأخرهم جدا أو يحصل العطب لأصحابنا فالحمد لله على سلامة الكل غير أننا تغيرنا عن أخينا سيدي محمد الشريف إذ وقع بينهم وصار يزجرهم وينهاهم ويقول لهم هذا وفد الله ووفد رسوله فقبل منه بعضهم وأبى
__________________
(1) في نسخة من حولي.
الآخرون إلا الحرب والسلب لما رأوا من كثرة الإبل مع الحجاج فغاروا وصاحوا وشردت بغلته تحته فلم يستطع حبسها فسقط عليها فأخذ من لحق منهم ثيابه مع نسخة جديدة من دلائل الخيرات ثم أنه مسك البغلة وركبت ولحق بالركب ففزعنا من أجل ما أصابه فعند رؤيتهم الحجاج قاموا على ساق الحرب وعلموا أنهم لا يصيبون منهم شيئا اجتمعوا وجاهة الركب والحالة أنهم أخذوا بغلين وأربعة من الإبل فردوا البغلين وجملين ثم أني ذهبت إليهم وحدي والناس يبرحون بالويل خافوا عليّ وأنا لم أسمع لهم فلما وصلت نحو الأثني عشر فارسا نزلوا إلي وسلموا علي يدي ثم علي رجلي ورجل البغلة وبعضهم يتمرغ تحت البغلة ويطلب الإقالة ويقول إنما جئنا لأعدائنا أولاد علي إذ سلبونا وأخذونا فأخذناهم وقلت لهم أن حصل لكم الندم ردوا ما بقي من الإبل عندكم وكذا ثياب الولي الصالح الشريف سيدي محمد فقالوا أما الأولون منا قد طلبناه (1) في الدعاء واللاحقون ما علموا غير أننا نرد الجميع فأمهلونا وسألتهم كم من فارس قالوا نحن في خمسمائة ثلاثمائة من الخيل ومائتين من الرجال وأني سألتهم أيضا عن وطنهم فقالوا نحن من وطن الصعيد من عمالة مصر نحو الخمسة والعشرين يوما إلى هنا فلما رجعت وإذا بالحجاج فزعوا فزعة عظيمة ثم رجل من طرابلس قد جرحوه ومات من ذلك الجرح بعد ذلك ولما وصلت وجدتهم أمسكوا رجلا مع فرسه وأطلقته منهم وأما فرسه فقد مسكها الطرابلسية فيما ضاع لهم وقد سمعت انه لما ذهب من عندنا لحقه أولاد علي فقتلوه وبالجملة ففضل الله وجوده وحفظه بنا ظاهر من غير استحقاق إذ أعمالنا ليست أهلا لقبولها حتى توجه الله إلينا بالفضل بسببها نعم كرمه ليس مختصا بأهل الجد والاجتهاد وإنما هو مبذول لمن سبقت له العناية لا لكبيرة إن واجهك فضله ، ولا صغيرة أن قابلك عدله ، فالكريم لا يبالي من أعطى ولا كم أعطى ولا ما
__________________
(1) في نسخة طلبوه.
أعطى.
وعشية هذا اليوم نزلنا قرب معطن مقرب (1) وفي ذلك المنزل مات المجروح المذكور وقد مات لنا جمل فيه حقق الله ثوابه وأعطى عوضه.
ثم ظعنا إلى أن وصلنا معطن مقرب عند صلاة الضحى فسقى الناس نهارا وذهبوا إلا أن البعض لم يحص المقصود إلا عند الزوال وتخلفنا معهم وذلك أصحاب الشيخ وبعض الحجاج فلحقنا بعد الظهر بالركب نازلا ينتظر المتأخر ثم أن الله أغاث الحجاج بعد ذلك بالمطر الكثير بحيث استغنينا عن المعاطن إلى الشمامة لكثرة الغدير بل أحواض الماء في كل أرض مبسوطة وكذا الخصب والحمد لله على بسط نعمه ومنته الوافرة علينا ببركة أهل الفضل من العلماء العاملين والفقراء المحبين بل وجد في ركبنا هذا كل صنف من أصناف أهل الخير وقد رحم الله ركبنا وعم وابل الفضل علينا فغير المزكوم بالعاصي يشم شذا أنوارهم ، وسواطع أسرارهم ، وعطر أحوالهم ، فمن الله علينا بمحبتهم ، إذ من لا خير فيه يتذكر الله برؤيتهم ، وقد قالوا إن علامة الولي إذا رأيته تذكرت الله أقل المراتب أن يقول هذا فمن يخشى الله ويتقيه.
وبعد ذلك ظعنا نحو المرحلتين فكان أول شوال فصلينا العيد بين معطن مقرب والمدار (2) ولما صلينا العيد ظعنا ونحن على المياه السماوية والخضر العشبية والشكر لله تعالى فلما وصلنا للمدار وجدنا ماء السماء أكثر ولم نر من المعاطن بعد التميمي إلا مقرب وأما الطرفاوي وجرجوف والجميمة فقد استغنينا عن جميعها والحمد لله على ذلك وظعنا من المدار ومررنا على العقبة الصغيرة ووجدنا الماء في أطرافها أعني ماء
__________________
(1) في نسختين امقرب.
(2) في الرحلتين العياشية والناصرية المدور.
المطر ونحن كذلك في ماء المطر كثيرا إلى الشمامة وبالجملة ففضل الله علينا عميم وجوده لدينا عظيم جدا وكذا الخصب للدواب قد عم الأرض ومع ذلك أن الأرض خالية من العرب إلا قبل الشمامة بيوم قد وجدنا فيها العرب أعني نجع الخوابص (1) ومعهم نجع آخر قد طلبوا منها النزول للتسوق معهم فأراد بعض من الحجاج مساعدتهم وامتنع الكثير منه وتخلفنا للسقي والشرب من البئر قربهم ثم أتوا إلينا بتمر من تمر سيوي وهو أجود التمر ولم أر مثله في الجودة والحلاوة وحبه كبير ولونه صاف وهو معلوم عند الناس جودته وحلاوته لا سيما وأنهم يجعلونه في أوعية تحفظه بحيث لا يتغير أصلا بل زادت له رطوبة وجودة وهي من الحلفاء على شكل مخصوص من القفف غير أنها طويلة على قدر الاستطاعة وعليها غطاء وأوصاف هذا التمر أشهر من أن تذكر فاشترينا منه مع أصحابنا من طرابلس واشترى بعض أصحابنا من الركب كأخينا الفاضل سيدي أحمد الطيب ما تزود به في الطلعة في الدرب وكذا غيره واشترينا أيضا منهم شيئا من الروز (2) (الأرز) وكذا غيرنا لانقضاء الزاد عن الغالب من الحجاج فرحمنا الله بهم وتفضل علينا بوجودهم وسكنت روعتنا بالاشتراء منهم وكذلك فضل الله على وقده ولما علم من اضطرارهم وغاية احتياجهم فاطمأنت قلوبنا بهم وإلا فمن سرت ما رأينا نجعا إلا هؤلاء قرب الشمامة وهي قرب مصر لأنها خالية بالجور والظلم إذ العرب من قوي منهم يأخذ غيره وتلك سنة فيهم وعادة أجراها الله في أجدادهم ثم سرت إليهم فتمكنوا فيها غير أن الله دمرهم وأخلى منهم أرضهم لقوله صلى الله عليه وسلم لم يكن شيء أسرع بصاحبه كالظلم ولقوله تعالى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم القول فدمرناهم تدميرا وإلا فوطنهم أحسن الأوطان
__________________
(1) في نسخة الجوابص.
(2) في نسخة الرزق.
لاعتدال الهواء فيه وأرضه طيبة المزارع ربوتها أحسن شيء للغرس ونباتها أجمل شيء للضرع فكانت أحسن شيء زرعا وضرعا وكذا خلق أهلها بفتح الخاء أو بضمها أي أوصافهم غير أن الظلم أهلكهم لا سيما حرب الحجاج فإن الله قد انتقم منهم بسببهم حتى تشاءوا بهم واستطاروا من أجلهم ليتسع الطريق وتأمن الوفود ولو لا فضل الله لأنسد الطريق إلى بيت الله الحرام ، وأماكنه الكرام ، فاستمر ذهاب الوفد ، وتمام القصد ، ليصل الإنسان إلى غاية القرب والود ، ولذا أجلاهم الله بجدب الأرض والضد ، جزاء لهم بتمام الحد ، وسعادة لأهل القصد ، ليتم من الله صدق الوعد ، وتزول عنهم موانع الصد ، وليرتاح ذو الشوق من تعب الكد ، فيكون محبا ومجيبا لنداء الفرد ، فيصحو ذو قلق مما أصابه من الوجد ، برؤية الآثار من العد ، ويلتئم بجمع الجمع وذلك حق بالجد ، فالتكاليف والتعاريف تقوى بالمد ، ولأعدائهم تمنعهم الأخذ والصولة فيها لها من ورد ، ولذا تطير العقول والقلوب من قفص الفند ، فيسعد لها أطوارا بالرد ، غير أن نسيم الوصلة يمكنها بعض تمكن في حضرة الود.
هذا وإن المنبعث أقلقه الشوق ، وأزعجه العشق ، فلم ير ما يؤلم في الأماكن الصعبة بمشاهدة آثار المحبوب في الأماكن المرسومة الدالة على الساكن الذي تخيله المصاب فلم يسترح إلا برؤية أثاره فلما أشرف على الرسوم واستحضر وشاهد علو شرفه ، وغريب كنهه ، استفتح باب الملكوت بالملك واستنشق علم الجبروت بسر اللهوت فلم يبق له صحو غير أن منى ، أبقت فيه بعض رؤية المنى ، فتكفه بالمشارع واستمطر العطف في المظاهر وصلى صلاة الجمع في مسجد الفردانية بإمام العرفانية في صلاة العظمة فرفع حجاب الكبرياء بسورة (1) الفرق في عرفة الصمدانية ، فهام
__________________
(1) في نسخة بسوق.
عقله في مزدلفة الوحدانية ، يلتقط درر الكمال ، في سعة (1) مشاهدة (2) الجلال والجمال ، فذلك نسك أهل اليقين باضمحلال ، وهذا كله قد تخيله المحب الصرف في بيت البشر والأطوار ، ودار الشهوات واللذات من غير استبصار ، فصاح صيحة انطوى فيها الليل والنهار ، وأظلم الكون طرا فلم يتعب من الأسفار ، ولا حرج عليه من شدة المفازة في البر والبحار ، إذ رأى أن قلبه ركب مطية الأنوار ، واستعد إلى مشاهدة العزيز الجبار ، واتصل في أسرائه بسدرة الاستقرار (3) ، ما ضل صاحبه وما غوى بالتجلي من النهار ، وما ينطق عن الهوى حال الوصول إليه في عرصات المختار ، فاعتراه وحي الهام الحقائق بأنها لا سواها يخفى باستتار ، فلما غاب في عين الجمع بملاحظة الفرق إليه صار ، إذ بيت الرب فيه فرق بالاعتبار ، علمه شديد القوى أسباب الانتقال من الجوار ، فاستوطن بسعة الشهود بالاعتمار ، فأحال الإحرام عن النظر إلى غيره أصلا بالتعظيم والاستكثار ، وهو بالأفق من الأوصاف العالية ثم دنا فتدلى إلى كعبة القرب والمشاهدة فحيره البغت فذهبت أثار عبوديته ، في كنه ربوبيته ، فمحتها ولم يبق لها أثار ، هذا في قالبه جنون ، وفي قلبه فنون ، فلما حركه لم يسكن إلا بمولاه فلم يرفث برؤية النفس ، ولم يفسق بالاعتماد عليها في مقام الأنس ، وكذا لم يجادل الأعداء ولا أحدا من الخواطر لغيبته عن الحس ، فقد حج قبل سفر الأجباح ، بالتنقل والتنزل في عالم الأرواح ، فحج الأجباح دليل عليه ، ومسبب لديه ، فزاد هذا هو فمنه إليه ، فإن التعلق بأستار الكعبة علامة على التعلق بعين الذات ، وكنه الأسماء والصفات ، وكذا يشير إلى الحضرة ودخول المقام ، برعي الحفظ والذمام ، والسعي بين الصفا والمروة سعي بين صفاء القلوب ، في التخلق (4) بأوصاف المحبوب ، فلم
__________________
(1) كذا في جميع النسخ.
(2) في نسخة مشاهرة.
(3) في نسخة الاستغراق.
(4) في نسخة بالتخلق وفي أخرى بالتحقق.
ينته به السير إلا بالطواف على قدم المحو والمحق للمعدومات الوهمية الوجود ، في سنن العهود ، فمن طاف بحضرة الدنو وبالدرة البيضاء فقد طاف القدوم على قضاء شهوده ، وارتوى برؤية وجوده ، وهي نزهة القدس من شوائب المحدثات ثم صلى ركعتين الطواف في مقام التخلي والتحلي والتجلي (1) ثم شرب من ماء القرب وهو ماء زمزم المتعلق بجمال الذات إذ هو طعام الإيمان ، وشراب العرفان ، فلم يحتج صاحبه إلى طعام الأجباح دائما سرمديا فلما روي وتضلع من ماء زمزم التجلي طاف طواف الوداع لأهل الدنيا بل ودع الكونين ، وصلى على الثقلين ، بأن لا ينظر إليهما ، إلا بنظر الحق إليهما ، وكذا إلى نفسه أخذه محبوبه ومطلوبه منه أي من بشريته إلى روحانيته فإنه إياها صرفا ومحضا ثم رده إلى بيته وهو قفص البشريات ليوافق ويمتثل رب البيت فلم تضره البشريات وإنما هي معنية ومؤيدة للروحانيات ولقد زين سماءها بمصابيح البشريات لأن أنوار الشريعة زينة سماء الحقيقة وجعل نجومها وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي رجوما للشياطين القواطع فأهلكتها وأذابتها فقلب هذا عرش من عروش الحق وقالبه سفينة نوح فما ركب أحد بحره إلا سلم من طوفان الجهل إذ قلبه يجري بموج الواردات كالجبال غير أنهم لا يعتبرون عظمتها وغالبتها اعتمادا على رب السفينة ونادى نوح يا ولد القلب أركب معنا في سفر القلب من الخلق إلى الحق ولا تكن من الجاحدين لهذه الطائفة والمعترضين عليها قال سآوي إلى جبل الأسباب يعصمني من ربها قال لا عاصم اليوم إلا بالاعتماد عليه وحال بينهم الموج من الهلاك فكان من المغرقين في الدعاوي.
هذا وإن من حج بهذا الوصف فقد كان حجه مبرورا بالوصول إليه ، والمنتهى لديه ، فحينئذ من سبقت له العناية لا تضره إن مس بعض الذنوب لزوالها
__________________
(1) من قوله وهي نزهة إلى هنا ساقط في نسخة.
بالاستغفار والتوبة على الفور وربما كان ذنبه دواء له ليرجع إليه ، وينكسر قلبه من أجله ، ويرتقى بسببه إلى حضرة ربه ، فيثمر الذنب بما يثمر خالص الطاعة المقبولة رب معصية أورثتك ذلا واحتقارا ، خير من طاعة أورثتك عزا واستكبارا ، نعم غاية اقترافه الذنب ليعرف قدره ، ولا يتعدى حده وطوره ، فيكون عبدا محبوبا فيا بشراه فينتقل أذن من الموجودات الوهمية إلى الموجود على الإطلاق إذ لا وجود لما سواه غير أن الشريعة لا بد منها لصاحب الصحو الذي ملك الحال أو بقيت منه بقية يتعلق بها حال التكليف وإلا فمن ملكه الحال أو لم يبق فيه إلا والتعريف (1) فقد صاح (2) في أرض المحو ونادى يا حي يا قيوم برحمتك استغيث لأنه دعاء المضطر فالعارف لا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير الله قراره ، فكيف يخاف ما أشركوا به وعند ذلك يقول الذين آمنوا بولاية الله لبعض أهل وده وخواص قربه ولم يلبسوا إيمانهم بظلم وهو النظر إلى سواه والاستحسان ما منه إلى الله من الأعمال التي بها حلاه ولكن أكثرهم يجهلون هذه المعارف نعم وجود مثل هذه في وفد الله أمام لهم إذ هو كعبة الزوار ، يقصده الظمآن لمحو الآثار ، ورحمة وجوده لديهم فهم مقبولون لوجهه ومحترمون لأجله فيا لها من سعادة لمن كان معه وقد حصل نتائج الحج قبل وصوله ، واجتنى ثمرته قبل حصوله ، فكان حجه كالنقل فلا يزال يقترب به حتى يكون له نفسه لأن المناسك في إخلاص المسالك ، والسلامة من المعاطب والمهالك ، فيرحم به الضعفاء ممن (3) هنالك ، ويقبل من بعد بالمعاصي والذنوب والموبقات لوجهه بذلك فيسعى لهم لا له فيكون عبدا خلقه الله لمصالح الخلق وهو عين من عيون الحق يستسقي (4) به فهؤلاء كل أحد منهم قد نجا وتخلص بجاهه.
__________________
(1) في نسخة التصريف.
(2) في ثلاث نسخ صحصح.
(3) في ثلاث نسخ من ما.
(4) في نسخة يستقضي.
ولقد علمت أن ركبنا لم يخب من هؤلاء الأفاضل إذ سرهم باق ليس بزائل فلم نعدم السباق (1) ولا تخلفنا عن تلك الرفاق ، هذا وإن الواجد يزيد المحو له من (2) الخطاب الاشتياق ، إن مع العسر يسر برؤية الحبيب من الخلاق ، صلى الله عليه وسلم الراكب البراق ، فقد رحم الله جميعنا بحسن الاتفاق.
انعطاف إلى ما كنا بصدده فلما ظعنا من قرب الجميمة نزلنا معطن الشمامة أي غربيها وهو أقبح المعاطن ماء إلا بئر واحدة على شاطئ البحر من جهة المشرق وهي أطرافها من تلك الجهة وأما باقيها فغير طيب وهو ماء جرف (3) أي مر غير أن الناس اضطروا (4) إليه لعدم ماء السماء هناك وكذا ماء طيب في غير ذلك المحل.
تتمة عدد الأيام من سيدي أحمد زروق على الاحتياط إلى مصر بحسب مشينا الجزائري لا الفاسي فانه أسرع في المشي لتأخره فمن سيدي أحمد زروق إلى الزعفران خمسة أيام ومنه إلى النعيم يومان ومنه إلى المنعم خمسة أيام أو صبحة السادس ومنه إلى اجدابية ثلاثة أيام غير أن الثالث وصلناه عند الظهر ومنه إلى سلوك يومان مع عشية الثالث ومنه إلى التميمي سبعة أيام ومنه إلى مقرب خمسة أيام مع صبيحة السادس ومنه إلى المدار أربعة أيام أو خمسة ومنه إلى الشمامة أربعة أيام ومنها إلى وادي الرهبان ثلاثة أيام ومنه إلى أرياف مصر أعني كرداسة أو المنصورة إذ نزلنا كفر حمام (5) يومان ومنه إلى المنشية على شاطئ وادي النيل ثم إلى بولاق وهذا ليس بمشي والناس إنما يقطعون إلى مصر في الزوارق أي المراكب فكل من يأتي من جهة المغرب من
__________________
(1) في نسخة السائق أو السابق.
(2) في نسخة الوجود يزيد المجرب.
(3) كذا في ثلاث نسخ وفي نسخة صرف.
(4) في نسخة اظهروا.
(5) في ثلاث نسخ كاف احمام.
الحيوانات العاقلة والبهائم لا يقطع إلا فيها بالكراء وأما صفة الماء في برقة فماء الزعفران أطيب وأحلى وكذا ماء النعيم وكذا ماء الأحمر وكذا ماء المنعم وأما ماء اجدابية فبين بين غير أنه إلى الحلاوة أقرب وكذا ماء سلوك وماء التميمي فيميل إلى الملوحة وأما ماء الطرفاوي فطيب وكذا ماء جرجوب دونه ودون ماء مقرب وماء المدار طيب ليس جدا وماء الجميمة دونه وأقبح المياه ماء الشمامة إلا البئر الذي أشرت إليه قبل فأحسن بالنسبة إليها.
ثم ظعنا من الشمامة إلى وادي الرهبان وهو واد عظيم طويل وفيه قصور للعباد من النصارى ينعزلون هناك لعبادة الأصنام يخرجون من مصر إليه وإن مصر فيها طوائف من النصارى يعطون الجزية للسلطان.
وبالجملة فبرقة متسعة ومعه اتساعها فيها من العافية ما لا يظنه الإنسان لأن وفد الحجاج يذهب متفرقا ومنقطعا بعضه عن بعض غير انه لا يصيبه شيء بخلاف عرب الحجاز فمن تأخر من الحجاج أخذ وسلب أو مات ولو لا ما أنعم الله على الحجاج من أجلاء (1) أهل برقة لأنسد الطريق وأنقطع رأسا.
ولذا قال شيخنا سيدي أحمد بن ناصر ما نصه ولو لا فضل الله على الحجاج ورحمته بهم بالانتقام ممن رامهم لتعطلت طريق الحج منذ أزمان خصوصا حجاج المغاربة لضعفهم وقلتهم وبعد الشقة عليهم فكم من قصر ومصر إقليم يقطعونه بلا عسكر ولا عدد ولا عدد (2) ولكن
وقاية
الله أغنت عن مضاعفة |
|
من
الدروع وعن عال من الاطم |
__________________
(1) في نسخة أجل.
(2) في الرحلة الناصرية بإسقاط ولا عدد.
أي العالي المرتفع من الحصون نسأل الله تبارك وتعالى بجوده وإحسانه العميم ، وبركة نبيه الكريم ، أن يحمي وفد بيته بما به قد حمى نبيه العظيم ، وينصر زواره بما نصر به رسوله وان لا يقطع الطريق بيننا وبين تلك الأماكن المشرفة والبقاع المطهرة فما دمنا في كل سنة طائفة ممن قدم من تلك المعاهد ، وورد من تلك الموارد ، وتشرف برؤية البيت العتيق والمسجد الحرام ، ووقف بالمشاعر ونسك المناسك العظام ، وصلى بين قبره ومنبره صلى الله عليه وسلم وزار محله الشريف ومحل أصحابه الأعلام ، فلا نشك أن مدد ذلك يسري في أدياننا وبلادنا وأبداننا ، وسائر متعلقاتنا ، ولو انقطعت رؤيتهم نعوذ بالله
من ذلك لاختل النظام ، وانقطع الخير بين الأنام ، اه نسأل الله تعالى الكرة إليها بعد الكرة أي الرجوع إليها والمرة بعد المرة آمين.
ووادي الرهبان واد كبير ذو رمل وفيه شجر النخل (1) وماؤه كثير وبه من أنواع الوحش والبقر والنعام (2) والظباء والمها وغير ذلك من أنواع الصيد وإنما أضيف هذا الوادي للرهبان لأن به رهبان النصارى يتعبدون فيه ديور كل طائفة في دير ولا يدخل إليهم أحد من غير جنسهم وليس لهم زرع ولا ضرع وأهل الذمة من النصارى الذين بمصر يعاملونهم ويبعثون إليهم بالنذور والصدقات من الطعام والكسوة ومن هناك تمر الطريق من مصر إلى أوجلة إلى أن قال واشترى الحجاج ما أرادوه من أنواع الطعام الريفية وتنعموا وزال ما بهم من العياء وألقت إليهم المسرة مقاليدها أي أمروها كيف لا ونحن على ساحل النيل الذي هو أشرف الأنهار الأربعة الخارجة من الجنة وآثار بركته ظاهرة بالعيان في مائه وترابه وقراه ومدائنه بحيث لا يوجد بلد أوسع مزارع وأكثر خصبا مع اتصال العمارة نحو الشهر من هذه إلا أنها لها مزيد اختصاص بمضاعفة الوظائف الجورية على الرعية بحيث تملك
__________________
(1) في الرحلة الناصرية فسلان نخل.
(2) في الرحلة الناصرية النعم.
رقابهم فضلا عن أموالهم ولا يجدون عن ذلك محيصا بمنعة أو فرار حتى لو أن أحدهم أراد أن يتخلى عن السبب ويترك المزارعة والفلاحة لم يتركوه ولو فر لا تبعوه حتى يأتوا به أينما كان.
قال الإمام العياشي في رحلته حتى استفاض عند العمال الفسقة أن ثلاثة لا تقبل فيهم شفاعة شافع فيعدون منهم من يريد أن يتخلى عن الزراعة والفلاحة قاتلهم الله أنى يؤفكون لا هم ينصفونهم فيخففوا عنهم من المظالم ولا هم يتركونهم يذهبون حيث شاءوا يسبحون في الأرض يرزقون كم ترزق الطير الالتقاط من نبات الأرض وخشاشها فتغدو خماصا وتروح بطانا اتخذوا مال الله دولا وعباد الله خولا والله من ورائهم محيط ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد ذكر ابن خلدون (1) أن مصر لا بد أن تشتمل على طائفتين إحداهما في غابة العتو والاستكبار والأخرى في غاية الذل والاستحقار (2) وقد صدقوا لقد كان بها فرعون وملاؤه فلم ينته دون أن قال أنا ربكم الأعلى وبنو إسرائيل إذ ذاك مستضعفون في الأرض يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم أي تركهن من غير قتل ثم لم تزل كذلك وأنها في زماننا بل قبله بأزمان لعلى ذلك الوصف فباشاتها وسناجقها وولاتها وحكامها بل وسائر جندها وعسكرها فيما يظهر لنا ليس فيها إلا من أعماه حب الدنيا وأصمه وختم على سمعه وقلبه لا يرحمون ضعيفا ولا يوقرون كبيرا أينما تبدو لهم صبابة من الدنيا وثبوا عليها إن كان صاحبها حيا تسببوا له بأدنى سبب حتى يأخذوا ماله أما مع رقبته أو بدونها إن كان في العمر فسحة وإن كان ميتا ورثوه دون بنيه وبناته وأما رعيتها وفلاحتها فلا تسأل عما يلاقون من الجند من الظلم وما
__________________
(1) كذا في الرحلة الناصرية وجميع النسخ وفي الرحلة العياشية ذكر المؤرخون.
(2) في غير الرحلة العياشية الاحتقار.
هم فيه من الإهانة والاحتقار تضرب ظهورهم وتؤخذ أموالهم ولا مشتكي لهم إلا لله ومن تجاسر منهم اشتكى ضوعف عليه العذاب الأليم.
قلت ولعل لأجل هذه الدقيقة يكثر فيهم الصالحون لأن نفوسهم ميتة قد تربوا على الذل والاحتقار وزالت الرياسة وحبها من قلوبهم بل لم تسكنها قط فإذا وفق أحدهم لعمل الطاعة والتفت أدنى التفات لإصلاح حاله لم يبق مانع بينه وبين ذلك لأن أكبر الموانع وأعظم الآفات حب الرياسة ومن جال في أرياف مصر واستخبر أهلها علم صحة ما ذكرنا ومن لم يجل فليطالع الأخبار في الكتب المؤلفة في ذلك كطبقات سيدي عبد الوهاب الشعراني رحمه الله وغيرها يرى مصداق ذلك وأخبار مصر وظلم الولاة بها وغش الباعة وحيل المتسببين ومكر العاملين أعظم من أن تحصى ولا غرض في تتبع ذلك ومن أراده فيسأل من وردها يخبره ببعض البعض من ذلك.
وبالجملة فمصر أم البلاد شرقا وغربا لا تستغرب شيئا ما يحكى عنها من خير أو شر ومصداق ذلك ما حدثني به بعض أصحابنا من التجار في سنة أربع وستين قال لما دخلنا مصر في حدود الخمسين سكنت في بعض الوكائل وكان من قدر الله أن اجتمعنا في محل واحد جماعة منا فلان وفلان تجار وفلان طالب علم وفلان ممن يميل إلى طريق الفقر وفلان وفلان من أهل الجنون وأهل المجون المسرفين على أنفسهم المطيعين لهواهم ذكر كلا بأسمائهم قال فإذا أصبحنا تفرقنا كل واحد يغدو لحاجته فإذا جن الليل جمعنا المنزل فنتحدث بما رأينا فيقول التاجر ما رأينا مثل هذا البلد في التجارة فأهله كلهم تجار ويحكي من حكاية ذلك ما شاهد ويقول الفقيه مثل ذلك والفقير مثل ذلك وذو المجون مثل ذلك وما ذلك إلا لكثرة الناس فيها فمن طلب جنسا وجد منه فوق ما يظن فيظن أن غالب أهل البلد كذلك.
وبالجملة فأهلها لهم عقول راجحة وذكاء زائد فمن استعملها في الخير فاق فيه غيره ومن استعملها في الشر فكذلك.
وقد ذكر ابن خلدون في كتابه منتهى العبر أن بعض ملوك المغرب سأل بعض العلماء ممن حج عن مصر فقال له أقول لك فيها قولا واختصر من المعلوم أن دائرة الخيال أوسع من دائرة الحس فغالب ما يتخيله الإنسان قبل رؤيته إذا رآه وجده دون ما يتخيل ومصر بخلاف ذلك كلما تخيلت فيها فإذا دخلتها وجدتها أكثر من ذلك.
وسئل آخر عنها فقال كأن الناس فيها قد حشروا إلى المحشر لا ترى أحدا يسأل عن أحد ساع فيما يرى فيه خلاص نفسه.
وقد أخبرني شيخنا سيدي أبو مهدي عيسى الثعالبي أيام كنت أتردد معه إلى مجلس شيخنا شهاب الدين الخفاجي فقال لي من لدن دخلت هذه المدينة ما رأيت أحدا يمشي في أزقتها وأسواقها على مهل وسكينة وتؤدة بل كل من تلقاه تراه مشمرا جادا في سيره إن كان راكبا فراكبا وإن كان ماشيا فكذلك فتأملت ما ذكر لي فوجدت صادقا وسبب ذلك والله اعلم أمران.
أحدهما الرغبة والحرص المستكن في القلب فيحمل الإنسان على أن لا يفوته شيء من أغراضه وهو يظن أنه لو توانى في مشيه لفاته غرض مع كثرة الأغراض وتزاحم الأشغال.
والآخر كثرة الزحام في الأسواق فكل سوق دخلته تقول هذا أكثرها زحاما فإذا خرجت منه إلى الآخر وجدته مثله أو أشد وقد شاهدنا الناس في بعض الأسواق تارة يقفون هنيئة لا يقدر أحد على أن يتحرك يمينا ولا شمالا من غير أن يكون هناك حاصر لهم من أمام إلا الزحام وربما رفع بعضهم صوته بالتكبير فيكبرون حتى يظهر
لهم بعض تحرك فيندفعون مثل السيل إذا اجتمع في مكان ضيق فيدفع بعضه بعضا حتى ينفجر من جهة فسبحان خالقهم ورازقهم وعالم نياتهم وضمائرهم يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون لا إله إلا هو رب العرش العظيم رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الحكيم.
وأخبار مصر وما فيها من العجائب وجميع ما يحتاج إليه من أحوالهم مستوفى في كتب تواريخها فلا نطيل بكثير منه.
قال وأحسن كتاب جامع في ذلك مع الاختصار كتاب حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة للجلال السيوطي فانه مفيد جدا ومن أجاد مطالعته لم يفته من أخبارها إلا المعاينة أو أشياء قليلة من العوارض المشخصات اه ـ كلامه إلى أن قال وقد تعرض لنا الفلاحون خارج البلد وتلك عادتهم عند قدوم الركب كلما قدم يتعرضونه ويتخذون الأصحاب ليودعوا عندهم الإبل ويتركوها عندهم أمد الإقامة طلوعا ورجوعا وهم كما قيل «الحرص على الأمانة ، دليل على الخيانة» فلا ترى أعجب من تلطفهم وليس خطابهم عند نصب شبكة الخداع للمغتر من الحجاج فيحلفون بالأيمان المغلظة على أداء الأمانة وبذل المجهود في النصيحة حتى يركن إلى قولهم ولو من جربهم مرارا ثم عند المفاصلة فلما ينفصل معهم أحد بطيب نفس.
قال أبو سالم ومن أمثال الحجاج المال المودع بع واستنفع فالعاقل من باع ما فضل عنه من أبله أو ضاع ومتى احتاج اشترى ولكن رزق يسوقه الله العباد أي الفلاحين من قديم الزمان لا مطمع لأحد في قطعه ففي كل مرة نقول متى رجعنا لا نودع عند أحد فإذا عدنا استنزلونا بخلب بارق من وعدهم الكاذب حتى نفع في حبائلهم ونتورط في مخالبهم التي يعسر الخروج منها بدين سالم وعرض مصون إلى أن قال أبو سالم بعد ما تقدم.
لطيفة وعظية والشيء بالشيء يذكر ذكر الشعراني رحمه الله في طبقاته عن بعض الصالحين ممن يسكن في بعض قرى مصر انه كثرت أذاية أهل القرية التي هو بها له فعزم على الخروج منها فاكترى جمالا لحمل أمتعة فأتي بجمل فجعل يلقي عليه كل ما كان من الأمتعة فلما أكثر عليه قال له الشيخ أنك قد ثقلت على هذا الجمل فقال له صبي هناك يا عم إن الجمل يحمل أكثر من هذا فتفكر في نفسه وقال هذا خطاب من الحق لي فإذا كان الجمل وهو من الحيوانات العجم لا يعقل ولا يرجو ثوابا يحمل أكثر من هذا فكيف لا أتحمل أكثر من هذا من إذابة الخلق فحط أمتعته ورجع فسمع منشدا
أن
الجمال التي بالحمل قد عرفت |
|
تأبى
العياء ولو مست من القتب |
فأكد ذلك عنده لما فهمه اه ـ إلى أن قال وقد ذكر شيخنا أبو سالم عن بعضهم أن الوباء قد وقع مرة بمصر وكثر الموت حتى كان يدفن في اليوم الواحد أربعون ألفها فهمّ الباشا وأتباعه بالخروج من مصر والفرار لما شاهد من كثرة الموت فلما فشا خبر أرادته الخروج طلع إليه رجل مسن من أهل التجربة والرأي فقال له بلغني أنك تريد الخروج فما الذي يخرجك قال هذا الموت الذريع الذي وقع في الناس فقال وأي موت هنا أبعث شيوخ الحومات بمصر لك كم من حومة بمصر فبعث إليهم فعدوا الحومات فوجدوها أربعين ألفا فقال له ذلك الشيخ ألم أقل لك أي موت هنا إنما هذا ميت من كل حومة فهو أما عبد أو صبي أو امرأة فلما سمع الباشا ذلك خف عليه الأمر فجلس اه ـ.
وممن أخذ عنه سيدي أحمد بن ناصر في مصر وقد أخذ عن كثير من الأشياخ إلا أن إمام الجميع وهو أبو الحسن علي الزعتري إلى أن قال فيه ما نصه ومما أفادنيه وأنشدنيه :
إذا
ما مضى القرن الذي أنت منهم |
|
وخلفت
في قوم فأنت غريب |
وأنشدنا أيضا لغزا في الخمر إذا استحال خلا :
وما
شيء إذا فسدا |
|
تحول
غيه رشدا |
وإن
هو راق وصفا (1)
|
|
أثار
الشر حيث بدا |
وأنشدنا أيضا في نيل مصر :
كأن
النيل ذو عقل وفهم |
|
وذو
علم بما يرجون منه |
فيأتي
عند حاجتهم إليه |
|
ويذهب
ين يستغنون عنه |
وأملى علينا في ذم الدخان وأهله وهو في مجلس أقرانه :
دخان
داء لا دوا |
|
من
شربه قلبي انكوى |
وهد
حبلي والقوى |
|
فقلت
من عظم الجوا |
بيوت
شعر مفردة |
|
وأنفس
من أجلها (2) |
مقطوعة
من أصلها (3)
|
|
بعشبة
لأهلها |
مشغولة
لأجلها (4)
|
|
جاءت
كنار موصدة |
مشعلة
(5)
لدائهم |
|
تجول
في أمعائهم |
مضرة
لبائهم |
|
تأتي
إلى أفواههم |
__________________
(1) كذا في جميع النسخ وفي الرحلة الناصرية لاق وصفا.
(2) في نسخة وصلها.
(3) في نسخة أصلها.
(4) في الرحلة الناصرية مشغلة لأهلها.
(5) في الرحلة الناصرية مشعولة.
فجاءه إنسان فكلمه بلغتهم فقلت في نفسي أن فرغ هذا من كلامه أكلمه بما في نفسي فلما فرغ المتكلم وأردت أن أتكلم بادرني الشيخ رضي الله عنه بقوله ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها فسكت ولم أزد شيئا نقول ايش.
ونظير هذه الحكاية ما حدثني به الشيخ محمد أخو الشيخ مصطفى أنه حج مع الشيخ وكانت خيمته بإزاء خيمة الشيخ فقام ليلة متهجدا وقد هدنت الأصوات ونامت العيون قال فقلت في نفسي متعجبا من تهجدي وأنه لم يجارني أحد هذه الليلة أو كلاما هذا معناه قال ولم استتم الخاطر إلى أن سمعت الشيخ يقول وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا قال فخجلت واستحييت وتداخلت فضربت أخماسي في أسداسي أي صرفت الحواس الخمس في الجهات الست أفكر في أمري معاتبا لأنفاسي.
قلت ومثل هذا وأرفع من كرامات الشيخ لا يعد ولا يحصى ، ولا يحفظ ولا يستقصى ، فلو تعرضنا لأدنى شيء منه لأملينا أسفارا ، ولاستغرقنا دهورا وأعصارا ، نسأله تعالى أن ينفعنا به ، وأن يجعلنا من حزبه ، وإنما ذكرنا هاتين إيذانا بمنقبة هذين السيدين إذ الكرامات لا يراها إلا من أهّل لها وصار من أهلها.
وكنا ذات يوم جلسنا معه في مجلس أقرائه وقال لنا كم هذا في غشت فقلنا له خرج وانصرم وهذا أول شتنبر وقال هذا لا يصح فقلنا له صحيح فأخذ بيده جداول التاريخ فاختبره فوجد كلامنا صحيحا فقال سبحان الله غلطتموني في جمعة وحكى لنا قصة فقال كان الإمام السبكي في زمانه يسكن بولاق وله منزل على شاطئ البحر يجلس فيه وفيه كتبه وكان السبط المارديني يأتيه وهو رحمه الله رجل مغفل ويجلسه الشيخ في مجلسه ويتحدث معه ويتذاكر ثم بعد ذلك ينصرف الشيخ يبيت بمنزله ويتركه هو يبيت هنالك فكلم الشيخ رحمه الله يوما نوتيا معه سفينة
حيدة سريعة السير وفيها كثرة المقاذيف وقال له كيف تصنع وتتحيل على هذا السيد إذا نام تأخذه برفق وتضعه في السفينة وتقذف به بسرعة حتى تصبح به في دمياط فإذا بلغت دمياطا خذه برفق وضعه في مكان معلوم عينة له واتركه هناك أسبوعا ثم أفعل به ما فعلت أولا وتصبح به في مكانه هذا ففعل النوتي ذلك وأصبح به في دمياط وجلس يقرأ فيه السيد أسبوعا وكان ذلك ليلة الأحد فلما كان ليلة الأحد الأخرى فعل به مثل ما فعل به أولا فأصبح به في بولاق في المكان الذي أخذه منه أولا وجاءه الشيخ السبكي صباحا على عادته وسلم عليه وقال له المارديني أنا أتيت من دمياط فقال له السبكي متى جئت من دمياط ألم تكن هنا ليلة الأحد وهذا يوم الأحد فقال له المارديني بل أتيت دمياطا وقرأ علي فلان وفلا وجعل يعد له من قرأ عليه وغلطه السبكي في جمعة وهذا مراده حتى فعل به ذلك رضي الله عنهم أجمعين وأنشدنا أيضا رضي الله عنه :
أرى
الإحسان عند الحر دينا |
|
وعند
النزل منقصة وذما |
كقطر
الماء في الأصداف درا |
|
وفي
جوف الأفاعي صار سما |
أشار بهذين البيتين إلى ما ذكره أهل الهيئة من أن ماء النيسان ينعقد جواره في بطن الأصداف ويصير سما في بطن الحيات.
أعجوبة ذكر صاحب الفلاحة النبطية أن بالمشرق جبلا عاتيا ذا مدارج لا يستطاع الصعود إليه فإذا كانت أيام النيسان أتت الرفاق من أقصى البلاد وتنزل حواليه لتصغي لأصوات طيور تظهر في تلك المدارج ولها ريش كريش الطاوس ومناقير حمر وصفر في غلظ شبر وطول ذراع وفي تلك المناقير أبخاش متعددة فتستقبل الريح وتفتح مناقيرها شهرا كاملا حتى تمتلئ حواصلها ريحا ثم يأخذ في انعكاس مناقيرها فيخرج الريح على أصوات عجيبة ونغمات مطربة حتى أن رقيق
النفس يموت طربا من السماع فإذا تم شهر استفرغ الريح وزعقت زعقة عظيمة واشتعلت نارا وتبقى رمادا في مواضعها إلى قابل فإذا نزل ماء النيسان خلقت منه فأحييت به وفي أيام نزوله تكثر الضفادع في البر فإذا ماتت بقيت فرائسها إلى قابل فتحيى حين نزوله بتقدير العزيز العليم.
وحكي أن فرعون لعنه الله كان يفتن الناس بها فيعد تراب فرائسها فيحفظه عنده ويعد مطر النيسان في قوارير ويقيم عليها وكيلا وإذا أراد فتنة أحد أمر قيم التراب فيأتيه بقبضة منه ويأمر الآخر فيأتيه بشيء من مائه فيجعله في يده ويضمها عليه مدة حتى يحس بتكوينه ضفدعا فيفتح يده فإذا بها ضفدع تثب فيدعي أنه خلفها عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وأنشدنا أيضا رحمه الله أبياتا مطلعها.
لعمرك
أن أخذت إخاء قوم |
|
فلا
تعجل بتوكيد الوداد |
فإن
الغدر في النسمات طبع |
|
تعوده
الورى من قبل عاد |
وصاحب
من صحبت بحرص عزم |
|
ولا
تودعه أسرار الفؤاد |
فبعض
الناس ظاهره بياض |
|
وباطنه
أخال من السواد |
ولا
تحقر عدوك لو تراه |
|
أقل
إذا نظرت من القراد |
وكن حذرا
ولا تركن لخل |
|
وعد (1) الناس
كلهم أعادي |
وكن
كالغيث في أرض بخصب |
|
وفي
أرض عذاب للعباد |
وكن
كالغصن ينبت فوق صخر |
|
وكن
كالماء يجري من جماد |
وكن
كالسيف حد المتن عضبا |
|
وفي
الاغماد يرفع بالنجاد |
فكم
صاحبت قبلك من أناس |
|
فخانوني
وخاب بهم مرادي |
وخلان
حسبتهم دروعا |
|
فكانوها
ولكن للأعادي |
__________________
(1) في نسخة وظن.
وخلتهم
سهاما نافذات |
|
فكانوها
ولكن في فؤادي |
وقالوا
قد صفت منا قلوب |
|
لقد
صدقوا ولكن من وداد |
وقالوا
قد سعينا كل مسعى |
|
فقلت
نعم ولكن في فساد |
وأنشدنا أيضا رضي الله عنه
أرزاقنا
شتى ونحن طيورها |
|
نلقطها
من جانب بعد جانب (1) |
ثم قال لما خلق الله الأرزاق سلط عليها الريح ففرقتها في الدنيا فكل واحد يجعله الله حيث رزقه.
قلت مراده والله أعلم أن أرزاق العباد فرقتها القدرة الإلهية في البلاد وأظهر ذلك بالمثال بتفريق الرياح ومنه قوله :
وأرزاق
لنا متفرقات |
|
فمن
لم تأته منا أتاها |
مشيناها
خطى كتبت علينا |
|
ومن
كتبت عليه خطى مشاها |
ومن
كتبت منيته بأرض |
|
فليس
يموت بأرض سواها |
وعنه أيضا حكمة إلهية بنت الحكماء عليها قاعدة تقررت لديهم واطردت وذلك أن الشمس كلما كانت مسامتة للرءوس اشتدت حرارتها على وجه الأرض وكلما مالت إلى الجنوب خمد حرها ومن ثم تجد المياه غالبا تبرد في الصيف لبعد الشمس عن باطن الأرض وتسخن في الشتاء لقربها من باطنها ويعتدل حرها فيما بين انتهاء مسامتتها وميلها وذلك في الربيع والخريف ذلك تقدير العزيز العليم.
وذكر أيضا أن غاية نصف قوس النهار في بلدنا مائة وسبع وأن الساعة المستوية
__________________
(1) كذا في جميع النسخ.
خمس عشرة درجة دائما والزمانية هي نصف سدس قوس النهار فيقسم النهار على اثني عشر جزءا يخرج مقدار الساعة الزمانية.
وأخبرني أنه ولد عام خمسة وثلاثين وألف (1035) رضي الله عنه ولقد سألته يوما عن علم النصبة هل لك معرفة به فقال نعم ولكن لم استعمله إلا مرة واحدة ولد لي ولد في أول شبابي ونظرت فيه فخرج لي أنه يموت بعد ثلاث سنين فأخبرت شيخي القيلوبي بذلك فزجرني ولما مضى ذلك القدر توفي.
قلت والإمام القيلوبي هذا هو أبو العباس أحمد بن أحمد بن سلامة المصري القيلوبي الشافعي الإمام العالم العامل الفقيه المحدث أحد رؤساء العلماء المجمع على نباهته وجلالته وعلو شأنه جامعا للعلوم الشرعية متضلعا من العلوم العقلية وأما معرفته بالحساب والمقيات والرمل فأشهر من أن تذكر وإمامته في الأوفاق الحرفية وغير ذلك من الفنون فذلك أمر مشهور وكان في الطب ماهرا خبيرا ومحبا للفقراء ولا يتردد إلى الكبراء ولا يقبل من أحد صدقة بل يرى متصدقا وكان متقشفا ملازم الطاعات مهابا لا يتكلم أحد بين يديه إلا مطرقا وله تآليفه عديدة وتقاييد مفيدة توفي أواخر شوال سنة تسع وستين وألف (1069).
وأما الشيخ موسى المصري القيلوبي فهو من أيمة المالكية المشهورين بحسن السيرة وطيب السريرة شهير صيته بين علماء الأزهر وأرباب الدولة وهو من أجل تلامذة الأجهوري أبي السن المتصدرين للأقراء والفتيا في حياته وله خبرة تامة بفروع المذهب ومشاركة حسنة في غيرها من العلوم وانفرد بالاختصاص بالكشف عن علم الأوفاق وأسرار الأسماء والحروف بحيث لا يشارك في ذلك وله أخذ وسلوك في طريق القوم على منهج صاحب كتاب الجواهر وقد تلقى وأخذ طريق الأسماء الخلوتية عن الشيخ محمد بن علي الشبراملسي عن الشيخ محمد الخافي عن
الشيخ صبغة عن وجيه الدين العولي عن الشيخ محمد الغوث صاحب كتاب الجواهر وأسماء الخلوة مشهورة عند أهل مصر وهي أربعة عشر.
وذكر شيخنا العياشي أن بيد هذا الشيخ أثر جراحات كادت أن تتلف يده وأخبرنا أن سبب ذلك أن الشيخ أبا الحسن الأجهوري جاءه بعض طلبة المغاربة يستفتيه في طلاق وقع بينه وبين زوجته فرام أن يترخص له في ارتجاعها فأبى الشيخ رضي الله عنه من ذلك فاحتقدها عليه المغربي وأسرها خفية سوء في نفسه فلما كان ذات يوم جاء مشتملا على خنجر والشيخ يدرس في المجلس فلم يشعر به حتى ضربه بخنجره فترامى عليه من حضر من الطلبة يقونه بأنفسهم فخرج جملة منهم ووقى الله الشيخ من كيده وجرح في رأسه جرحا كان السبب في ذهاب عينه وكان الشيخ موسى من جملة من جرح فقبض على ذلك المغربي وضر ضربا شديدا فأراد الولاة قتله فمنعهم الشيخ من قتله ثم قتله الله بعد مدة بأثر ما حصر له من الضرب في المجلس وبعد ذلك ما كان الشيخ يترك أحدا من المغاربة يدخل عليه إلا إن كان معه أحد من أصحابه ممن يعرفه.
قال ولم يزل شياطين الأنس والجن يضمرون العداوة والسوء لأهل العلم وينصر الله أولياءه عليهم بمقتضى صادق وعده وكان حقا علينا نصر المؤمنين وينجيهم من كيدهم ويحميهم من شرهم بحماية ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننجي المؤمنين.
قال وحضرت درسه وكان يقرئ في الجامع الصغير للسيوطي بباب رواق الحنفية ومن جملة ما قرر في حديث إيما عبد أبق من سيده فمات إلى قوله ولو مات شهيدا أن العبد إذا أبق من سيده ومات في قتال الكفار كان شهيدا من جهة قتله وعاصيا من جهة أباقة ثم قال كمن شرب الخمر فغصته فمات فهو شهيد لغصته
عاص لشربه الخمر اه ـ كلامه وهذا الأخير عندي غير مقبول لأن الشهادة رتبة شريفة وهي من الرخص التي ترخص الله بها لعباده المؤمنين فأكرمهم بها زيادة في ثوابهم على ما حملوا أنفسهم من المشقة المتلفة لأنفسهم في مرضاته والعاصي في فعله لا يترخص له ولا سعي له في مرضاة ربه حتى يرضيه بالشهادة نعم إذا كانت المعصية بغير ما وقع به القتل كالأباق أو من زنى أو من سرق في سفره فهذا قد يقال فيه شهيد من جهة عاص من جهة لأن الجهة منفكة فجهة قتله غير جهة عصيانه وأما إذا كان سبب القتل في نفسه معصية كشرب خمر فيغص بها أو تمكين امرأة من الزنى بها فيموت فيبعد أن تحصل لهذا رتبة الشهادة أليس الغريق والحريق وذو الهدم والمبطون وغير هؤلاء كلهم قد ورد أنهم شهداء فلو أن أحدهم رمى بنفسه عمدا في البحر فغرق أو في النار فاحترق أو تناول سما أو دواء معلوما فمات لا يقال فيه شهيد اتفاق وكذلك هذا تناول معصية كانت سبب حتفه أنّى له الشهادة اللهم إلا أن يكون المحترق مثلا ممن قام لنار يريد إطفاءها ولا يعلم أنها تحرقه فغلب حتى احترق أو أراد إنقاذ غريق وهو يظن من نفسه القدرة على ذلك فغلب فغرق أو غير ذلك من الوجوه التي يكون فيها أصل الفعل الذي وقع به القتل مباحا فهذا شهيد بلا كلام وشارب الخمر أن لم يقصد به إتلاف نفسه فهو معصية وحدها وما ترتب عليه من القتل معصية أخرى سببها معصية وإن لم يكن القتل مقصودا فإن المعصية لا يتوقف كونها معصية على القصد إليها ونيته إنها معصية فإن الطاعة هي التي تتوقف على النية دون المعصية فيؤاخذ بها عاجلا ويعاقب آجلا نواها أم لا ألا ترى أن من تعمد ضرب إنسان ولم يرد قتله ولا قصده فمات منه فإنه آثم آجلا ويقتص منه عاجلا لأن السبب الذي نشأت عنه المعصية معصية كشرب الخمر في مسألتنا فهو معصية ونشأت عنه معصية أخرى وهي قتل نفسه إلا أنها ليست مقصودة له فلا ينفعه عدم القصد ولا يدرأ عنه الآثم ولو سلما أن آثم القتل مندفع عنه لكونه غير مقصود له
فمن أين له الشهادة التي هي أشرف مقام خص الله بها من جاهد في سبيله ثم من صبر لضر أنزله به مولاه حتى لقي ربه وهو راض عنه نعم إن لم يمت هذا المغصوص بأثر الغص وطالت حياته حتى تاب من فعله توبة صادقة ثم مات بأثرها من تلك الغصة لا يبعد أن يقال هو شهيد بغصته ولو قيل أنه مرتكب في المعصية بعد توبته لبقاء أثر ما سبب فيه كما قال إمام الحرمين في الخارج من المغصوص تائبا لما بعد ذلك والصحيح صحة توبة هذا المغصوص إن لم يمت بأثرها كتوبة الخارج من المغصوب. اه – فليتأمل قلت ما ذكره من النظر فيه نظر عندي إذ لا فرق بين الأبق الذي مات في قتال الكفار وبين من غص بشربة خمر إذ كلاهما عاصيان بسببهما لأن الأبق نفس سفره معصية وهو السبب في موته وكذا شرب الخمر فانه السبب أيضا فإن سلم الأول أنه يثاب من جهة القتل ويعاقب من جهة الأباق لزمه أن يسلم الثاني أيضا لأنه يثاب من جهة الموت لكونه شرق بشربة فمات فهو شهيد لظاهر ما ورد فيه لأنه لا فرق فيما غص فيه انه مأذون فيه أم لا فيشمل المحرم لأن الشهادة حاصلة بالإشراق فمن غير اعتبار لما حصلت به فيعاقب من جهة ويثاب من جهة.
فإن قلت الأباق ليس سببا مباشرا للموت لأن الموت إنما حصل بقتال الكفار مباشرة والأباق سبب السبب الذي هو حصول القتل من الكفار فافترقا فلم يكن حينئذ الغص مثل الأباق لما علمت من كون الغص مباشرا في الموت بخلاف الأباق.
قلت لا فرق بينهما عند التأمل لأن سفر الأباق معصية وحصول الموت له نشأ عن معصية كذا الغصة فإنها معصية نشأ عنها الموت وقتال العدو لمسلم يوجب له الشهادة كما يوجبها الإشراق أيضا فلا فرق بينهما حينئذ حصل عن سبب مباح أو غيره لأن ما به الموت موجب الشهادة ولا علينا من غيره فإن كان السبب طاعة أثيب
من جهتين وإن كان معصية أثيب من جهة وعوقب من أخرى فحص ما قاله أولا لما تقرر لك أن الآبق عند القتل والمغصوص عند الإشراق كلاهما في معصية وحصول الإشراق والقتل موجبان للشهادة كما هو ذلك في صحيح الخبر من غير اعتبار السبب أو الوقت نعم وزانه ما ذكروه في باب قضاء الفوائت وهو أن من عليه القضاء ثم ترك ما عليه من القضاء واشتغل بالتنفل فانه يحرم عليه ذلك غير انه يثاب على التنفل ويعاقب على ترك ما عليه من القضاء لما علمت من تعمير الوقت بالطاعة وان كان غير وقت للنفل إذ هو عاص في ذلك لأنه وقت قضاء ومثاب لكونه اشغله في طاعة فهذه طاعة نشأت عن معصية وكذا ثوابها نشأ عن سبب منهي عنه فلا فرق في كل ذلك والمسائل من هذا النهي لا تعد ولا تحصى.
وأما قوله أن الإنسان إذا ضرب ما لا يحل فنشأ عنه الموت فانه آثم ويقتص منه بعيد عن هذا المرام لكونه تعمد الضرب فيما لا يحل ونشأ عنه إتلاف النفس وهو مذموم شرعا بل هو من الكبائر فنشأ عن هذه المعصية معصية كبيرة وجناية عظيمة بخلاف الغص فانه نشأ عنه كرامة عظيمة وهي الإشراق كما أن الآباق الذي هو حرام وسبب منهي عنه نشأ عنه أيضا كرامة جليلة وهي القتل من العدو لأنهما أي الإشراق والقتل الموت بهما شهادة شرعا.
وبالجملة المعتبر في الحاصل الذي هو الموجب في الشهادة لا في المحصل إذ لا عبرة به فتأمله منصفا والله تعالى اعلم.
قال الشيخ المذكور وذكر انه حضر مجلس شيخ الإسلام الشبراملسي يقرأ عليه المواهب اللدنية قال وقرر تقريرات عجيبة في حديث أول ما خلق الله نور محمد صلى الله عليه وسلم إلخ وقرر وجه انقسام ذلك النور وكيفيته مع أن الحقيقة الواحدة لا تنقسم وليست الحقيقة المحمدية إلا قسما واحدا من تلك الأقسام والباقي إن كان
منها أيضا فقد انقسمت وان كان غيرها فما معنى الانقسام وحاصل جوابه أن معنى الانقسام زيادة نور على ذل النور المحمدي فيؤخذ ذلك الزائد ثم عليه نور آخر ثم كذلك إلى آخر الأقسام.
قال وهذا جواب مقنع بحسب الظاهر والتحقيق والله اعلم وراء ذلك.
وذلك إنما يدركه على الحقيقة من عرف معنى تعالى الله نور السموات والأرض ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له هل رأيت ربك فقال نور أنّى أراه كما في بعض الروايات بفتح الهمزة في أنى ونونه كلمة استفهام أو نوراني بياء النسب آخره كما في بعضها وتحقيق ذلك على ما ينبغي ليس مما يدرك ببضاعة القول ولا مما تتسلط عليه الأوهام والإفهام وإنما يدرك بكشف إلهي وإشراق حصة من أشعة ذلك النور في قلب العبد فيدرك نور الله بنوره فيكون الحق في الحقيقة هو المدرك لنوره بنوره ونسبة الإدراك حينئذ إلى العبد مجاز وأقرب تقرير يعطي القرب من فهم معنى الحديث أن يقال لما كان النور المحمدي هو أول الأنوار الحادثة التي تجلى بها النور القديم الأزلي وهو أول التعينات للوجود المطلق الحقاني وهو مدد لكل نور كائن أو يكون فكما أشرق النور الأول في حقيقته فتنورت بحيث صار هو نورا كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في دعاء الأنوار واجعلني نورا أشرق نوره المحمدي على حقائق الموجودات شيئا فشيئا فهي تستمد منه على قدر تنورها بحسب كثرة الوسائط وقلتها وعدمها وكلما أشرق نوره وفاض على نوع من الحقائق ظهر النور في مظهر الانقسام فقد كان النور الحادث أولا شيئا واحدا ثم أشرق في حقيقة أخرى فاستنارت بنوره تنورا كاملا بحسب ما تقتضيه حقيقتها فحصل في الوجود الحادث نوران مفيض ومفاض وفي نفس الأمر ليس هناك إلا نور واحد أشرق في قابل الاستنارة فتنور فتعددت المظاهر والظاهر واحد ثم كذلك كلما أشرق في محل ظهر
بصورة الانقسام وقد يشرق نور المفاض عليه أيضا بحسب قوته على قابل آخر فتنور بنوره فيحصل انقسام آخر بحسب المظاهر وكلها راجعة إلى النور الأول الحادث أما بواسطة أو بدونها وهذا غاية ما يمكن أن تصل إليه العبارة في هذا التقرير.
قال ومثلي في قصور باعه وعدم تضلعه من العلوم الإلهية إن زاد في التقرير خشي علي إيمانه ولو لا تأييد الحق جل وعلا ما كنا لنهتدي على أقل من هذا والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله.
واقرب مثال يضرب لذلك إذ بالمثال تتضح الأشياء بعض الوضوح نور المصباح الذي ليس في البيت الكبير إلا هو فتصبح منه مصابيح كثيرة [ويصبح بعضها من بعض فليس هناك في الحقيقة إلا نور المصباح الأول وقد انقسم إلى مصابيح كثيرة](1) وهو في نفسه باق على ما هو عليه لم ينقص منه شيء.
واقرب من هذا المثال إلى التحقيق وأبعد عن الإفهام نور الشمس المشرق في الأهلة والكواكب على القول بأن الكل مستنير بنوره وليس لها نور من ذاتها فقد يقال بحسب النظر الأول نور الشمس منقسم في هذه الأجرام العلوية وفي الحقيقة ليس هناك إلا نورها وهو قائم بها لم ينقص منه شيء ولم يزايلها منه شيء ولكنه أشرق في أجرام أخر قابلة للاستنارة فاستنارت.
واقرب من هذا للفهم ما يحصل في الأجرام السفلية من إشراق أشعة نور الشمس على الماء أو قوارير الزجاج فيستنير ما يقابلها من الجدران بحيث يلمح فيه نور كنور الشمس مشرق بإشراقه ولم ينفصل شيء من نور الشمس على محله إلى ذلك المحل ومن كشف الله حجاب الغفلة عن قلبه وأشرقت الأنوار المحمدية على قبله
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في الرحلة العياشية.
بصدق أتباعه له صافية بصفاء إيمانه بالله ورسوله من شبه الباطل أدرك الأمر إدراكا آخر لا يحتمل شكا ولا وهما نسأل الله أن بنور بنور العلم الإلهي بصائرنا ، ويحجب عن ظلمات الجهل سرائرنا (1) ، ويغفر لنا ما اجترأنا عليه من الخوض فيما لسنا له بأهل بل نحن عن أهله بمعزل ، ولم نطف قط بساحته فضلا عن المنزل ، ونسأله أن لا يؤاخذنا بما تقتضيه العبارة من تقصير في حق ذلك الجناب ، ناشئ عن القصور في مقام العرفان ونزول منازل الأحباب.
ولقد أجاد كل الإجادة صاحب منارات السائرين إلى الله لما قرر معنى كون النور المحمدي أصل الموجودات ولأجله خلقت مع مجيئه آخرا وضرب لذلك مثلا قريبا إلى الإفهام ببزر الشجرة مع الشجرة والثمرة فجعل النور المحمدي الذي هو الأصل كالبزر والعالم كله شجرة واللطيفة المودعة في ذلك البزر (2) سارية في جميع أجزاء الشجرة من أوراق وأغصان وأزهار فيه قامت ولولاه ما وجدت ثم الحقيقة (3) المحمدية الموجودة بصورتها آخرا بمنزلة الثمرة هي عين اللطيفة البزرية السارية في عوالم الشجرة إلى أن ظهرت آخرا على أكمل وجه مع عوارضها المشخصة فهي ثمرة الوجود بأسرها ولولاها ما غرست الشجرة ولأجلها كان غراسها وهي أصلها وبزرها وهو مثال حسن قريب من الفهم وقد جعل صاحب الكتاب المذكور هذا المثال أصلا بنى عليه فصول كتابه كلها وهو حسن جدا مفيد في بابه إلا أن فهمه يعسر على غير أهله اه ـ.
ومن أكرمنا بهذه الديار واستدعانا لمنزله الشيخ عبد الرءوف نقيب كسوة
__________________
(1) في نسخة أسرارنا.
(2) في الرحلة العياشية النور.
(3) وفيها أيضا الحقيقية.
الكعبة المشرفة وهو من خواص أصحاب شيخنا الشيخ علي الزعتري ذهب معنا يوما لداره باستدعائه وبالغ في الإكرام والمبرة والاحترام وحدثنا وباسطنا حسبما يجب وأخبر أن الكسوة تقام كل سنة باثنين وعشرين ألف كيس والكيس خمسمائة غرش والمحمل سبعة أكياس من أحباسها وربما يزيد القيم المذكور من عنده أربعة أكياس إلى ستة وكان كثيرا ما يبحث عن علم الكيمياء وسر الحروف ليستعين به على ما هو بصدده وحسبنا أننا نتعاطى من ذلك شيئا واستعظم كوننا غير معتنين بتلك الحرفة ولم يعلم أن طريقتنا كطريقة أشياخنا عدم استعمال الأسماء والأوفاق بل ولا الأذكار طلبا لفائدتها العاجلة بل ولا الآجلة في الغالب وإن كانت حاصلة ضمن ذلك والكفاية بالله أولى من التعلق بالآثار.
ولله در شيخ شيخنا القطب الكامل وارث المقام المحمدي أبي محمد سيدي عبد الله بن حسين الرقي إذ قال لما بلغه أن بعضا اتهمه بعلم الكيمياء خدما لا إله إلا الله حتى وجدنا له بركة ومن ظننا بخلاف ذلك فقد ظلمنا.
قلت ومن أحمق الناس من لم يرض بقسمة الله في حاله ومقامه وصار يتشوق لما لم يقدر له ولا تحمله قواه غافلا عن تدبير الله أياه قال ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء.
ولقد ذكر شيخنا أبو سالم في رحلته عن الشيخ علي الصوفي وكان ممن يبحث عن هذا الفن أنه حدثه أن بعض من ينتحل علم الأسماء أخبره انه كان يستعمل دعوة آية الكرسي ويشتغل بها على طريق أهل ذلك ولا يبيت عندك منها درهم واحد فقال له لا أقدر على هذا فانه لا يكاد يخفي وأخاف على نفسي أن ظهر ذلك علي من أرباب الدولة فلو كنت تأتيني كل يوم بشريفي واحد أو اثنين أو عشرة ففيها الكفاية فقال له لا بد من الألف على الشرط المذكور وإلا فلا ولم يزل راجعه في الاقتصار
على الكفاية حتى أبى عليه فأيس منه وترك قراءة الدعوة.
قال وهذا من أعظم دليل على حمق الراغب في الدنيا فإن الله قد تكفل له بالكفاية على وجه يرضاه لي على قدر حاله ويعلم فيه صلاحه أن رضي ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء فلو أعطى ما فوق اللائق بحاله لم يستطع ألا ترى أن هذا لما ردّ إلى حال لا تليق إلا بالملوك ومن يحاكيهم أي ومن يماثلهم لم يقدر على ذلك لأنه فوق طوره ولا استغنى بالحال التي أقامه الله فيها فانه اعلم بشئونه لاستراح ولكنه أراد أن يدبر لنفسه حالا ظن أنه أولى به منن خلاف مراد الله به فنبهه الله بما أراه على أن ما كان يظنه من أن كثرة المال هو اللائق بحاله ويحسن في الرأي وغلط في التدبير لعجزه عن القيام به وهذا رجل ملطوف به ولو لا لطف الله به لقبل ذلك فيكون فيه حتفه قريبا ولكنه نظر ما آتاه الله من نور العقل والحكمة فعلم أن ذلك لا يتم له لأنه على خلاف مقتضى الحكمة الإلهية اه ـ.
تنبيه الكسوة المذكورة إذا كان النصف من شوال أو قبله أو بعه يخرج المحمل الخروج الأول فيوتى بها من دار الصنعة فتضرب سجافة على باب القلعة فتخرج السناجق كلهم والولاة والأمراء والحكام والقاضي كل واحد مع أتباعه ولكل واحد مجلس معلوم في السجافة المضروبة ومجلس الباشا في الوسط وعن يمينه مجلس القاضي وكلما أتى واحد من الأمراء وأرباب الدولة جلس في مجلسه المعهود له وقربهم من الباشا بحسب قربهم من مناصبهم فإذا تكاملوا كلهم وأخذوا مجالسهم وصفّت الخيل عن يمينهم صف كل طائفة مع جنسها إلى أن تحيط بالميدان الذي هو أمام مجلس الباشا وهو ميدان كبير يسع من الخيل الألف وآخر من يخرج الباشا فتخرج أمامه طائفة من عسكره بعضه أثر بعض على ترتيب معلوم وقانون مضبوط
وآخر من يخرج معه طائفة من الشاوشية (1) على أرجلهم عليهم جلود النمر وعلى رءوسهم طراطير طويلة من اللمط لها ذيول معكوفة بين أكتافهم وعلى جباههم صفائح من الفضة مستطيلة مع الطراطير إلى فوق مموهة بالذهب تلمع لمعانا فإذا خرج هؤلاء خرج الباشا بأثرهم راكبا فإذا وصل إلى السجافة قام الكل له واضعين أيديهم على صدورهم حتى يجلس وكذلك يفعل من تقدم للجلوس من الأمراء مع من يأتي بعده فإذا جلس الباشا جيء بالجمل الذي يحمل المحمل وعليه المحمل وهو قبة من خشب رائقة الصنعة بخرط متقن وشبابيك ملونة بأنواع الأصباغ وعليها كسوة من رفيع الديباج المخوّص بالذهب ورقبة الجمل ورأسه وسائر أعضائه محلاة بجواهر منظمة أبلغ نظم وعليه رسن محلى بمثل ذلك والجمل في غاية ما يكون من السمن وعظم الجثة وحسن الخلقة مخضوب جلده كله بالحناء يقوده سائسه وعن يمينه وشماله آخر ويتبعه جمل آخر مثل صفته ثم يؤتى بالكسوة المشرفة ملفوفة قطعا قطعا لك قطعة منها على أعواد شبه السلالم معدة لذلك يحملها رجال على رءوسهم والناس يتمسحون بها ويتبركون ويؤتى بكسوة باب الكعبة منشورة على الأعواد وتسمى البرقع كلها مخوصة بالذهب حتى لا يكاد يظهر فيها خيط واحد بصنعة فائقة وكتابة رائقة ثم يمر بكل ذلك بين يدي الباشا والأمراء ويقومون لها إذا مرت بهم تعظيما لها ثم يخلع على الذين صنعوها بمحضر ذلك المجمع ثم يذهب بها كذلك حملتها ويمرون بها في وسط السوق والناس يتمسحون بها حتى يبلغوها إلى المشهد الحسيني فتنشر في صحن المسجد وتخاط هناك.
قال الشيخ العياشي في رحلته فإذا كان اليوم الحادي والعشرون من شوال خرج المحمل من القاهرة وهذا اليوم هو يوم خروج المحمل الكبير الذي هو من أيام الزينة
__________________
(1) في ثلاث نسخ الشواش.
ويجتمع له الناس من أطراف البلد ويؤتى بكسوة البيت الشريفة المعظمة المنيفة من موضع خياطتها وتجعل في المحال التي تحمل فيه ويجتمع الأمراء والسناجق والجند جميعا على الهيئة المتقدمة في الخروج الأول إلا أن هذا أتم احتفالا وأكثر جمعا فإذا تكامل جميع الأمراء على الوجه المتقدم وصفت الخيل والرماة وخرج الباشا جيء بجميع ما يحتاج إليه أمر الحاج من إبل وقرب ومطابخ وخيل ورماة وغير ذلك من الأسباب التي تخرج من بيت المال فيحضر جميع ذلك في ذلك الميدان كل طائفة لها أمير مقدم عليها حتى الطباخين والفراشين والسقائين ثم يؤتى بالمحمل الشريف على جملة المذكور أولا يقوده سائسه حتى يناول رسن الجمل للباشا فيأخذه بيده ويناوله الأمير الحاج بمحضر القاضي والأمراء ومعاينتهم ثم يناوله أمير الحاج لسائسه فيذهب به وذلك كله كالشهادة على الباشا بأنه مكن لأمير المحمل وكل ما يحتاج إليه أمير الحاج من ذهابه إلى إيابه وعلى أمير الحاج بأنه تسلم ذلك ويشهد على ذلك القاضي والأمراء ويكتب بذلك إلى السلطان فإذا مر المحمل بين يدي الباشا وذهب جيء بالإبل يمر بها بين يديه بما عليها من القرب والمطابخ والآلات كل طائفة بمقدمها فإذا مرت الإبل كلها جيء بالمدافع وهي خمسة تجرها البغال ثم جاء الرماة الرجالة من ورائها فيمرون ثم تأتي الخيل فتمر فإذا مر جميع ذلك بين يدي الباشا جاء أرباب الطوائف (1) كل طائفة من مشائخ الصوفية بشيخهم ولوائهم رافعين أصواتهم بالذكر كالقادرية والرفاعية والبدوية والدسوقية حتى السعاة يأتون بشيخهم فيمرون بين يدي الباشا ويعطيهم ما تيسر فإذا لم يبق أحد ممن يمر بين يديه خلع الباشا على أمير الحاج خلعة وعلى كل أمرائه الذاهبين معه كالكخيا (2) والدويدار وغيرهما ثم يودعه وينصرف ثم يمر بالمحمل وسائر الإبل والعسكر
__________________
(1) في نسخة الوظائف.
(2) لعله الكاخية لغة في الكاهية.
وسط المدينة والناس مشرفون من الديار والمساجد التي تلي الشوارع ويتعطل غالب الأسواق في ذلك اليوم.
قال أخبرنا أن بعض تلك الديار المشرفة على الشوارع قد تكرى من أول السنة ولا يسكنها مكتريها ولا ينزلها إلا في ذلك اليوم قصدا للتفرج وفيما سوى ذلك من الأيام تبقى معطلة أو يسكنها غيره.
وبالجملة فهذا اليوم عندهم من أعظم أيام السنة ولا ثاني له إلا يوم كسر النيل عند وفاته ويقرب منه أيضا يوم قدوم الحاج فهذه الأيام الثلاثة هي التي يحتفل لها عندهم غاية الاحتفال ويهتبل أتم الاهتبال فإذا خرج المحمل من الميدان الذي على باب القلعة إلى فضاء الرملة بقي الكثير من الخيل هناك للعب ولا يذهب معه إلا المعينون للسفر معه والرملة فضاء واسع خارج قلعة الجبل فيه تباع الإبل والخيل وسائر الدواب وبه يوجد غالب ما يحتاجه الحاج من الأثاث والأمتعة وتنصب فيه أيام الموسم اراح متعددة لتدشيش الفول يديرها الرجال بأيديهم مع كبرها وقد أعطوا قوة على ذلك يطحن الرجلان أرادب متعددة في يوم واحد فتكون بالرملة صبر من الفول المدشش كل صبرة تزيد على المائة أردب ومن هناك يكيل غالب الحاج قولهم ويعمرونه هناك من غرائرهم ويمكنونه للجمالين فيذهبون به فلا يراه صاحبه إلى المكان المشترط معهم وهو المويلح في الغالب وفي الرملة كثير من حلق المعجبين يلعبون هناك في سائر الأيام كأنواع المشعوذين وأصحاب القرود ومن ضاهاهم من أصحاب اللعب بأنواع الحيوانات كالدب والحمير والتيوس والكلاب.
وبالجملة فأهل مصر لهم ذكاء زائد وحيل غريبة قد سخرت لهم أنواع الحيوانات فقليل من أصناف الحيوانات ما لا يوجد عندهم مسخرا مذللا فسبحان
الذي خلق لابن آدم ما في الأرض جميعا ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا.
قال وبطرق الرملة الذي يلي المدينة مسجد السلطان حسن وهو مسجد لا ثاني له في مصر ولا في غيرها من البلاد في فخامة البناء ونباهته وارتفاعه وأحكامه واتساع حناياه وطول أعمدته الرخامية وسعة أبوابه كأنه جبال منحوتة تصفق الرياح في أيام الصيف بأبوابه كما تفعل في شواهق الجبال وفي أحد أبوابه سارية ورخامية لطيفة يقال أنها من أيوان كسرى وفيها نقوش عجيبة يقال إنها على صورتها وضعت أبواب المسجد قال المقريزي لا يعرف ببلد الإسلام معبد من معابد المسلمين يحكي هذه المدرسة في كبر قالبها وحسن هنداسها وضخامة شكلها قال وذريع إيوانها الكبير خمسة وستون ذراعا في مثلها ويقال انه أكبر من إيوان كسرى بخمسة أذرع وقد وجدنا ركنا منه قد انهدم فكأنه طرف جبل قد سقط فملأ ما تساقط منه الشوارع والرحاب التي بإزائه ووجدناهم مجدين في ترميمه.
وقد أخبرنا أنه أعطوا ستين كيسا من الريال على جمع أنقاضه ورفعها في الشوارع والرحاب لتعاد للبناء ثانيا فإذا كان هذا أجرة النقض فما بالك بأجرة البناء قال ولما رجعنا من الحجاز بعد سنة ونصف وجدناهم قد فرغوا من ترميم ذلك الجانب المهدوم وبالغوا في إتقان صنعته ورفع بنائه ليناسب البناء الأول فكان كما قيل (1) :
يا
بارقا بأعالي الرقمتين بدا |
|
لقد
حكيت ولكن فاتك الشنب |
والشنب الماء أو نقط بيض الأسنان اه قاموس (2) فرحم الله أفاضل الملوك
__________________
(1) من البيتين المذكورين في صحيفة 251 إلى هنا ساقط من النسخة المطبوعة بتونس.
(2) لا يوجد هذا التفسير إلا في نسخة واحدة.
الذين درجوا ، والذين من خلفهم على منهجهم نهجوا ، لقد خلدوا من المآثر الدينية ما أوجب خلود الثناء عليهم ، ووصول الدعاء ممن بعدهم إليهم ، ولم يزل أهل المشرق إلى الآن لهم فضل اعتناء ببناء المساجد والخانقات ويبالغون في تعظيمها ويتأنقون في ذلك ويبادرون إلى أصلاح ما وهي منها.
وأما أهل مغربنا فلا تكاد ترى في مدائنهم مسجدا عظيما قد أحدث بل ولا مهدما قد جدد أو واهيا قد أصلح بل لو سقط شيء من أكبر مساجدهم فأحسن أحوالهم فيه أن كان مبنيا برخام أن يعاد بآجر وجص وإن كان مجصصا أن يعاد بطين بحيث تجد المسجد كأنه مرقعة فقير هندي فيه من كل لون رقعة وإلى الله المشتكى وما أرى ما حل بمغربنا من الوهن إلا بسبب أمثال هذا من عدم تعظيم شعائر الله ولو في الأمور الظاهرة فضلا عن الباطنة وقد قيل إذا أراد الله خلاء بلد بدا ببيته ثم يتبعه ما سواه وإذا أراد عمارته فكذلك.
ثم يسار بالمحمل على هيئته وتعبيته (1) حتى ينزل ذلك اليوم بالعادلية خارج باب النصر فيقيم هناك إلى اليوم الثالث والعشرين فيرحلون من هناك إلى بركة ويخرج أمير الحاج وجميع عسكره ويخرج مع الركب من المشيعين ومن العساكر والأمراء أضعافهم فتنصب الأسواق هناك ويخرج غالب الباعة والمتسببين بحيث يوجد هناك ما يحتاج إليه السفر بأرخص من سعر مصر ويقيمون هناك إلى آخر اليوم السابع والعشرين إلى أن قال.
تنبيه أكثر العلماء مائلون في القهوة إلى الإباحة وترشح قولهم بفعل أكثر الصوفية مع تورعهم في المطاعم والمشارب زاعمين أنها تعين على السهر في العبادة ويستعين
__________________
(1) كذا في الرحلة العياشية في نسخة نعته وفي أخرى تعيينه.
بها الطلبة كثيرا في المطالعة الليلية.
قال الإمام أبو سالم ولا شك أنها تزيل ما يحصل في الرأس من تدويخ بسبب السهر وخلو المعدة صباحا فإذا شربها الإنسان وجد في أعضائه نشاطا وأحس بخفة رأسه وهذا في الغالب لمن اعتادها وهي مخففة اتفاقا وهاضمة.
وصحح بعض العلماء أنها تحرم على من طبعه السوداء وتكره لمن طبعه الصفراء وهي نافعة لصاحب البلغم وغيرها من أنواع المطعومات كذلك يحرم تناول ما يضر منها على من علم أنه يضره ولا يكون ذلك موجبا للحكم بتحريمها.
والحاصل أن الشاربين لها فريقان يشربونها في أماكن معدة لذلك مزخوفة قلما تخلو من لهو حضور من لا يحل حضوره من الجواري والمرد فهؤلاء الحامل لهم على شربها أتباع الأهواء والتلذذ بما قارنها من الأمور المذمومة فلا يبعد أن يقال أنها في حق هؤلاء محرمة لا لذاتها بل لما قارنا وفريق يشربونها في مساكنهم وحوانيتهم أو يشربونها في السوق ويشربونها من غير جلوس مع الفريق الأول فهؤلاء الحامل لهم على شربها الفهم لها حتى أنهم ربما يتضررون ضررا خفيفا بتركها كما يتضرر من آلف الحجامة بتركها ومن آلف شرب المسهل (1) بتركه وغير ذلك من الأمور التي يعتادها الناس ويحملهم عليها أيضا تحصيل المنافع المتقدمة من الاستعانة على السهر ومن إزالة التدويخ صباحا وغالب ما يستعملونها مع طعام خفيف ككعك أو كسر خبز فيكفيهم ذلك إلى وقت الغداء هذا كله مع خقة المؤنة إذ بفلس واحد يشرب ما يكفيه من ذلك مع تيسرها في أي وقت أرادها ولا يحتاج فيها إلى أكبر مئونة ولا مقارنة أدام أو ملح أو أبراز أو خضر أو غير ذلك مما يحتاج إليه غالب الأطعمة ويزاد
__________________
(1) في الرحلة العياشية العسل المسهل.
على ذلك وهو أكبر منافعها عندهم أنها تقدم للضيف وتقوم قام الطعام عندهم ولا يستحي أحد في تقديمها للباشا فمن دونه ويقوم ذلك عندهم مقام ما يتكلفه المرء عندنا من أطعمة كثيرة تبلغ قيمتها في الأحيان دينارا فأكثر ودرهم واحد يقوم مقام دينار لا يكرهه أحد بل لو قدم إليه أي طعام ولم تكن معه فكأنه لم يقدم شيئا وإن قدمت هي كفت.
قال أخبرنا شيخنا الملا إبراهيم بن حسن الكوراني أن شيخنا الإمام صفي الدين القشاشي كان يقول مما أنعم الله به على أهل الحجاز هذا البن أي القهوة لأنهم ضعفاء فقراء في الغالب والناس يقدمون عليهم من الأفاق والإنسان لا بد له من طعام يقدمه لمن دخل عليه ولا قدرة لهم على تكلف ذلك لكل أحد يدخل عليهم وهذه القهوة خفيفة المئونة والناس راضون بها غنيهم وفقيرهم ورئيسهم ومرؤسهم فكانت صيانة لوجوه الفقراء عند ورود أحد عليهم فلا يبعد أن تكون مستحبة عند أهل الحجاز لأن اتخاذ الإنسان ما يصون به عرضه مطلوب شرعا.
قال ذلك بعض الشراح وقد سئل عن حكمها قال وكلام هذا الشيخ مع جلالة قدره وجمعه بين العلم الظاهر والباطن وكلام غيره من أئمة الطريق مما يتقوى به قول من قال بإباحتها لأن المسألة إذا كانت ذات قولين وكان الصوفية مع إحدى الطائفتين ترجح قولهم لا محالة لما رزقوه من صدق الإلهام ونفوذ البصيرة مع تأييد الله لهم عند اشتباه الأمور فيميلون مع الحق أين ما مال لرفضهم دواعي الهوى نص على ذلك غير واحد من الأئمة وقد شاع وذاع عند كثير من الناس بل ذكره غير واحد ممن تكلم عليها أن أول من أحدثها وأخرجها من أرض اليمن الشيخ الولي الصالح المتفق على ولايته سيدي علي ابن عمر الشاذلي اليمني وأمر أصحابه بشربها ليستعينوا بذلك على السهر في العبادة ثم لم يزل أمرها يفشو شيئا فشيئا ومن بلد إلى
بلد إلى أن آل إلى ما آل بحيث عمت البلاد المشرقية وكثيرا من المغربية فيحمل منها في كل سنة من بلاد اليمن لكل أفق من الأفاق شرقا وعربا آلاف من الأحمال فتدفع فيها أموال قلما تدفع في غيرها من التجارة فيبلغ الحمل منها في مكة إذا رخص فوق العشرين ريالة وبمصر إلى الخمسين وفي البلاد الشاسعة كأفريقية وبلاد الروم من القسطنطينية وغيرها فوق المئين ثم قال لكل جواد كبوة ولكل صارم نبوة.
رأيت في مكة كلاما لابن حجر الهيتمي المكي في إباحة القهوة بالغ فيه بالثناء عليها وذكر محاسنها وكان من جملة ما ساقه مساق الاستدلال على أنها مباحة وأنها من شراب الصالحين ومعينة على العبادة أن كثيرا من السلاطين والولاة والحكام قد بالغوا في أرادة قطعها والنداء عليها في الأسواق أن لا تشرب ولا بد من أراقتها وزجروا عليها بأنواع الزجر ومع ذلك لم تزد إلا شهرة وشيوعا في البلاد فدل ذلك على أنها من شراب الصالحين وأنه قد شمل نظر مخرجها ومبدعها فلا يقدر أحد على قطعها أو كلاما هذا معناه لطول العهد به.
قال وهذا الاستدلال كما ترى ساقط فإن الدخان الذي شاع في الأفاق أكثر العلماء على تحريمه وهو الصحيح إن شاء الله لما اشتمل عليه من المفاسد ولا منفعة فيه أصلا وأنفق أرباب القلوب شرقا وغربا على التنفير منه وكراهته ولم يزل الأمراء مجتهدين في قطعه ومع ذلك فلا يزاد إلا شهرة بل الخمر المحرم بالكتاب والسنة والإجماع قد اشتهر في كثير في الأمصار وعمت البلوى به غالب الأقطار فالاستدلال بالشيوع وعدم القطع الولاة والحكماء على الإباحة لا يخفى ضعفه وبطلانه على من له أدنى معرفة وتمييز بين صحيح الأدلة وباطلها فكيف بذلك الإمام اللهم إلا أن يقال لما لم يقتصر على الاستدلال عليه وضم غيره إليه فكأنه لم يعتمده دليلا بل ذكره مقويا للأدلة ومستأنسا به وهو الظاهر من كلامه ومع ذلك فلا يخفى ضعفه فان
داعي الهوى لا سيما في الأواخر غالب مع ميل النفوس إلى المطلوب وضعف داعية الردع من الطالب انتهى.
قلت الاستدلال بما ذكر ظاهر ونظيره ضعيف وبيانه إن محدث القهوة إمام صالح عارف ولي ولم يحدثها سدى وإنما أحدثها لنفع ظاهر شامل إذ فعل مثله لا يخلو عن الفائدة وهو مصون عن العبث قطعا والولي محروس بعناية الله فلم يكله إلى نفسه طرفة ولا أقل م ذلك فلما أطلعه الله على نفعها للعامة والخاصة أبدعها وأعلم بها أصحابه ثم سارت بها الركبان في المشارق والمغارب ولم يذمها أحد من أولياء الله الصالحين وكذا أرباب القلوب فاشتهرت من غير نكير إذ لو كان هذا الحكم من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فركب الدليل عليها [من أحداث الولي لها وعدم النكير من أرباب القلوب وكذا من العلماء فأقبلت عليه](1) إذ قال الأجهوري إقبال العامة (2) على الحديث دليل على صحته ذكر ذلك في شرحه لألفية العراقي في السيرة النبوية بخلاف الدخان فلم يحدثه ولي وكذا أنكره أرباب القلوب وذمه أكثر العلماء بل حرموه فلا يشربه إلا خسيس الهمة وقد علم في وطننا انه لا يشربه إلا من لا دين له أو ضعيف عقل بهوى.
وبالجملة فمنور السريرة لا يشربه ويزجر عن شربه بخلاف القهوة إذ أرباب القلوب وجدوا شربها مغيرا لها ومكدرا لصفوها ومانعا من الفتوحات اللدنية والعوارف (3) الإلهية وصارفا عن الحضرة الربانية فشربه كأكل طعام محرم وآكله يعصي الله شاء أم أبى فإذا كان كذلك فإنكاره دليل على ذمه شرعا لا سيما وإن
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(2) في نسخة الأئمة.
(3) في نسخة المعارف.
أفاضل العلماء قالوا بحرمته لما فيه من ضرر الأبدان بل في بعض الأحيان انه يغيب العقل ويوجب إسرافا في المال من غير منفعة دنيوية ولا دينية بل مضرهما.
وقد قال الشيخ عبد الباقي في شرحه على العزية عند ذكره لشربه فقال بجوازه إذ لا دليل على تحريمه شرعا والأحاديث المروية في منعه موضوعة يدلك على وضعها ركاكة ألفاظها غير أن جوازه مقيد بقيود منها أنه لا يضر بالبدن فان اضربه حرم وكذا لا يمنع السلطان من شربه فإن منع منه حرم أيضا لأن السلطان له أن يمنع المباح فإن منعه صار حراما نص عليه غير واحد من شراح خليل وغيرهما من القيود فالمنع حينئذ من شربه طوق في عنق وأيضا في شربه التشبيه بأهل النار في قوله تعالى (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ 5 نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ 6 الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ 7 إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ 8 فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ 9) ولا شك أن الدخان كذلك يطلع على الأفئدة وناره موصدة في عمد الذي هو الغليون في لغة مصر والسبسي في لغة المغرب.
فإذا تمهد هذا ظهر أن نظر العارفين ليس كنظر غيرهم لأنم لهم أدلة زائدة على القدر استدل به جميع العلماء وهي الإطلاع على خبث الأشياء الملتبسة التي وقع فيها الخلاف بين العلماء وكذا الأشياء الطيبة الملتبسة أيضا عندهم وإذا وقع الخلاف في الكل فيستدل حينئذ برأي العارفين في الجواز والمنع فيكون حينئذ من المرجحات لما لهم من الكشف التام والإدراك الحقيقي على أتم حال وأكمله إذ لا يشك فيهم لغيبتهم عن الأكوان والآثار والأوهام لأشراق شمس الحقائق على قلوبهم فلم تبق ظلمة الأوهام فيها قل جاء الحق وزهق الباطل فإذا لاح على قلب العارف فعل المختلف فيه مع كونه كاملا في علمه مستوفيا لشروط الاقتداء بفعله فإن ذلك يستدل به على كونه مأذونا فيه لا سيما إذا كان مما يستعان به على العبادة أو ينور القلب فلا جرم في جوازه وأن وقع لبعض العلماء فهي النهي لا سيما إذا كان فحا أي
لا ذوق له فلا يعتبر.
فإذا علمت هذا علمت الفرق بين الدخان والقهوة فإن القهوة أقبل عليها المتلبسون بالصدق والدخان الغالب فيه إقبال أهل الفسق عليه بل لا تجد صديقا عارفا يشمه أو يشربه فلا تساعد من يشربه ولا تسمع لقوله لما علمت قبل من اتفاق أرباب القلوب على ذمه وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
انعطاف إلى ما كنا بصدده قال شيخنا المذكور ما نصه ومن أحسن ما رأيت من الأسئلة والأجوبة في شأن القهوة نظما ما اشتملت عليه هذه الأبيات التي كتب بها العلامة رضي الدين محمد بن إبراهيم الحلبي الحنفي المعروف بابن الحنبلي للشيخ علي بن محمد بن عراق إلى أن قال في الجواب عن إباحتها بحيث لا يحرمها ما عرض لها مما لا يحل حضوره من الشبان والنساء وآلة اللهو غاية الأمر أن من ولاه الله أمور المسلمين يجب عليه أن ينكر ذلك ويزجر فاعله بان يفرق تلك الجموع ويشتت تلك المحافل وأما هي فحلال قطعا.
وجوابي
أنها حل ولا |
|
يقتضي
ما قلتم تحريم عين |
وعلى
ذي الأمر أنكار الذي |
|
شأنها
حتى تصفي دون رين |
وإذا
لم يستطعه دون أن |
|
يمنع
الأصل ففعل منه زين |
والتداني
من حماها وهي في |
|
وصفها
المذكور شين أي شين |
والصفا
في شربها مع فئة |
|
أخلصوا
التقوى وشدوا المئزرين |
ثم
ناجوا ربهم جنح الدجى |
|
بخشوع
ودموع المقلتين |
فابتداء
الأمر فيها هكذا |
|
قد
حكاه عن ولي دون مين |
ذا
جوابي واعتقادي انه |
|
في
اعتدال كاعتدال الكفتين |
قال والإمام ابن عراق مشهور فضله وعلمه وورعه وهو صدر في علماء الحرمين علما وعملا جوابه في المسألتين هو الحق إن شاء الله وإلى مثل ذلك تميل أجوبة كثير من الأئمة إنها إذا خلت مما يضاف إليها من المحظورات (1) فهي في نفسها مباحة وعلى ذلك عمل كثير من الأئمة في جميع الأمصار التي هي محل الاقتداء وربما رأينا من يبالغ في التنفير عنها من الأئمة المتعمقين في الورع تركا لما لا بأس به حذرا مما فيه ألباس كما هو شأنهم في غيرها من المباحات التي هي من الفضول انتهى كلامه.
قلت : وفي الخطاب ما نصه فائدة ظهر في هذا القرن والذي قبله بيسير شراب يتخذ من قشور البن يسمى القهوة واختلف الناس فيه فمن متغال فيه فيرى أن شربه قربة ومن غال يرى أنه مسكر كالخمر والحق انه في ذاته لا إسكار فيه وإنما فيه تنشيط للنفس ويحصل بالمداومة عليه ضراوة أي استئناس وألفة تؤثر في البدن عند تركه كمن اعتاد أكل اللحم بالزعفران والمفرحات فيتأثر عند تركه ويحصل له انشراح عند استعماله غير أنه تعرض له الحرمة لأمور منها أنهم يجتمعون عليها ويديرونها كما يديرون الخمر ويصفقون وينشدون أشعار من كلام القوم فيها الغزل وذكر المحبة وذكر الخمر وشربها ونحو ذلك فيسري لذلك مع ما ينضم إلى ذلك من المحرمات ومنها أن بعض من يبيعها يخلطها بشيء من المفسدات كالحشيشة ونحوها على ما قيل ومنها أن شربها في مجامع أهلها يؤدي للاختلاط بالنساء لأنهن يعتاطين بيعها كثيرا وللاختلاط بالمرد أي الشبان الذين لا شعر لهم لملازمتهم لمواضعها وسماع الغيبة والكلام الفاحش والكذب الكثير من الأرذال الذي يجتمعون لشربها مما يسقط المروءة بالمواظبة عليها ومنها أنهم يلتهون بها عن صلاة الجماعة غنية لوجود ما يلهي
__________________
(1) في الرحلة العياشية المحذورات.
من الشطرنج ونحوه في مواضعها منها ما يرجع لذات الشارب لها كما أخبرني والدي رحمه الله وحفظه عن الشيخ العارف بالله تعالى العلامة أحمد زروق انه سئل عنها في ابتداء أمرها فقال أما الأسكار فليست مسكرة ولكن طبعه البلغم فإنها توافقه وقد كثرت في هذه الأيام واشتهرت وكثر فيها الجدال ، وانتشر فيها القيل والقال ، وحدثت بسببها فتن وشرور واختلفت فيها فتاوي العلماء وتصانيفهم ونظمت في مدحها وذمها القصائد والذي يتعين على العاقل أن يتجنبها بالكلية إلا لضرورة شرعية ومن سلم من هذه العوارض كلها الموجبة للحرمة فإنها ترجع في حقه إلى أصل الإباحة انتهى.
قلت : وهذا هو الحق الذي لا معدل عنه والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وممن اجتمع به شيخنا المذكور الأستاذ الشيخ محمد البقري وإليه انتهت اليوم بالديار المصرية رياسة علم القراءات وأخذ عنه علم القراءات إلى أن قال وحرر كتبه يوم السبت المبارك السابع عشر صفر من شهور سنة ألف ومائة وعشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام والله اعلم.
وذكر لنا أن من أراد قضاء الحاجة وقدم إليها انه يكتب على خنصر يده اليمنى محمدا وفي إبهامها دحطة بالدال والحاء والطاء المهملات والتاء المثناة من فوق ويذهب إليها فإنها تقضي بحول الله وقوته وأفادنا أيضا أن من قرأ سورة إذا زلزلت إلى آخرها ثم يقول سبحان الله ملء الميزان ومنتهى العلم وعدد المنعم ومبلغ الرضي وزنة العرش فإن الله يكتب له من الأجر قدر ما بين حروف إذا زلزلت إلى أول القرآن ويمحو عنه بقدر ذلك من السيئات ويرفع له بذلك درجات.
وعنه أيضا من وضع يده على جبهته وقرأ يا مبدئ يا معيد ثلاث مرات ذكّرني ما نسيت فانه يتذكر الشيء الذي نسيه وعنه أيضا تكتب الفاتحة أحرفا مقطعة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأحرف ف ج ش ت ث خ ز تمحى بماء ورد وسكر ويشرب فإنها تزيل جميع ما في الإنسان من الأوجاع.
وعنه أيضا :
لا
تعترض من تراه |
|
تكتب
من الأحباب |
واحذر
تكن منكرا |
|
تطرد
عن الأبواب |
أهل
الولا في الورى |
|
أخفاهم
الوهاب |
كليلة
القدر |
|
أخفاها
عن الطلاب |
وقال هذان البيتان لسيدي عبد الوهاب الشعراني من الملحون ولم يقل منه شيئا سوى هذين البيتين وأقول زرت ما زاره الشيخ المذكور بمصر غالب ما بها من المزارات بالقرافتين الكبرى والصغرى من أئمة الإسلام وعلماء الدين وما بداخل المدينة كذلك ومن أجل المزارات وأعظمها بركة ونجحا المشهد العظيم المحتوي على جماعة من أهل البيت رجالا ونساء أشهرهم السيدة نفيسة الطاهرة وإليها ينسب المشهد وبها يعرف وعليه بناء عظيم وبازائه مسجد وبيوت تسكن فلما تخلو من زائر وراغب إلى الله في كشف كربه وقبرها معروف بإجابة الدعاء فهو ترياق لنيل كل مراد ، كقبر ابن عمها موسى الكاظم ببغداد ، وهي السيدة نفيسة بنت الأمير حسن بن زيد بن علي بن الحسين دخلت مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق وكان الإمام الشافعي يصلي بها التراويح في رمضان رضي الله عن جميعهم.
وزرنا أيضا قبر الإمام الذي لا ينبغي لأحد دخل مصر أن يهمل زيارته إذ هو صاحب التصريف التام بمصر رئيس الأئمة ، وشيخ شيوخ الأمة ، محمد بن إدريس
الشافعي رضي الله عنه وعليه بناء عظيم ومسجد وخانقات وقوم من الفقراء يسكنون هناك وقيم المشهد لا يفارقه ليلا ولا نهارا وهو من المشاهد الكريمة ، والمآثر العظيمة ، له أوقاف كثيرة ويتخذ عند قبره كل ليلة سبت مولد يجتمع فيه أناس كثيرون يضيق بهم المسجد وأفنيته ما بين فقراء وأمراء رجال ونساء يبيتون طول الليل بين ذكر بجماعة وصلاة وقراءة قرآن لا يفترون إلى طلوع الفجر وذلك دأبهم أبدا في كل ليلة سبت ولا يخلو ذلك المجمع من جماعة من الصالحين فقد ذكر سيدي عبد الوهاب الشعراني أن جماعة من الأولياء يحضرون كل يوم لزيارة الإمام الشافعي رضي الله عنه وهو حقيق بذلك وجدير فانه بالمحل الذي لا يدرك علما وعملا وحالا وفتوة وحسن أخلاق وزكاء أعراق ونصرة للدين وحماية له باذلا في ذلك نفسه وماله وجاهه فقد اتفق العلماء على انه ليس في أصحاب أمام الأئمة مالك رضي الله عنه أثبت ولا أعلم ولا أفقه من الإمام الشافعي كما اتفقوا على أنه ليس في مشائخ الإمام الشافعي أجمع للخصال المذكورة من الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه وعن جميعهم وما علم من تعظيم كل واحد منهما للآخر وثنائه عليه يدل على أنهما عالما الأمة وناصرا السنة وشيخا المشرقين والمغربين وقمرا سماء الكتاب والسنة المنيرين فالعلماء في كل قطر من بعدهما عيال عليهما فهما فرسا رهان ، وقطبا فلكي الإتقان ، وأن أنفرد الإمام مالك رضي الله عنه بفضيلة السبق ورتبة الأستاذية وسكنى المدينة ودار الهجرة والسنة إلى أن مات فللإمام الشافعي رضي الله عنه مزايا كثيرة ، ومآثر شهيرة ، استحق بها أن يشهر ويذكر ، ويحمد في دين الله ويشكر ، نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا محبتهما وتعظيمهما ومحبة سائر الأئمة المجتهدين ، والعلماء المهتدين ، خصوصا شريكيهما في تقرير المذاهب ، وحيازة التشريف باسم الأئمة بالغلبة وذلك من أعظم المواهب ، الإمام الأعظم أبا حنيفة وناصر السنة أحمد بن حنبل فكلهم على هدى من ربهم ، ومهتد حقا من اهتدى بهم ، فرضي الله عنهم وعن
سائر العلماء أجمعين ، وجعلنا لمناهجهم السديدة من خيار المتبعين.
وزرنا أيضا الإمامين الشهيرين ، الشامخين الهمامين الحاملين ، لراية مذهب مالك ، السالكين في ذلك أحسن المسالك ، راية المذهب ، عبد الرحمن بن القاسم وحاميه وناصره أشهب ، رضي الله عنهما وقبراهما متجاوران يستجاب الدعاء عندهما مجرب وذكر الإمام أبو القاسم القشيري رضي الله عنه في رسالته أن من وقف بين قبريهما وقرأ قل هو الله أحد مائة مرة ثم استقبل القبلة ودعا أجيب دعاؤه وبإزائهما قبور كثيرة لمشائخ الأئمة رضي الله تعالى عنهم وزرنا بائع نفسه في مرضاة الله المجاهد في سبيل الله عقبة بن نافع الصحابي رضي الله عنه وعليه بناء عظيم ، ومسجد كريم ، وزرنا أبا الفيض ذا النون المصري وشيخ المشتهرين بحب الله لسان المحبين أبا حفص عمر بن الفارض رضي الله وقبور السادة بني الوفا ، مناهل الصفا ، ومشائخ العارفين الإمام تاج الدين ابن عطاء الله صاحب الحكم والإمام شرف الدين البوصيري وإمام المحققين ابن أبي جمرة وتلوه في المعارف والعوارف ابن الحاج صاحب المدخل وغير من ذكر من المشائخ لو تتبعنا ذكر أسمائهم لطال الكلام ولا نستقصيهم وزرنا محل الشيخ أبي عبد الله المغاوري على حرف الحبل مشرف على القرافة كلها وبالجملة ففضل القرافة وما اشتملت عليه من المزارات أشهر من أن يذكر ، وأظهر من أن يشهر ، وقد ورد في الآثار أنها بقعة من الجنة ولذلك أمر الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجعلها مقبرة للمسلمين قائلا لا أعلم تربة الجنة إلا مقابر المسلمين رضي الله عنه ما أصدق فراسته ، وأجل إمامته ، وزرنا تربة المجاورين ، ومن اشتملت عليه من الأئمة المحققين ، والعلماء العاملين ، وسمي هذا المكان بتربة المجاورين لأنه قريب من الجامع الأزهر وبه يدفن غالب أهله والمجاورين له بل الأماكن القريبة من الجامع كلها تسمى حارة المجاورين إذ لا يسكنها في الغالب إلا العلماء والغرباء والفقراء وقل أن تجد بإزائه دار سنجق أو أحد أرباب الدولة لضيق
المحل وهم يريدون السعة والقرب من القلعة التي هي محل الباشا وأكابر دولته وزرنا كذلك غالب من بالقرافة الصغرى من الصالحين وزرنا قبر الشيخ خليل رضي الله عنه وقبر شيخ الشيخ أبي عبد الله المنوفي وهما في مكان واحد وبقربهما تربة الأئمة اللقانيين وزرنا أيضا قبر السلطان المرحوم الملك المعظم المهاب العدل المعدود من الأولياء الأتقياء كما ذكر غير واحد من الأئمة السلطان قايت باي رضي الله عنه وأرضاه ونفعنا ببركاته وعلى قبره بناء عظيم وبازائه مسجد متقن ومحلات لسكنى الفقراء ولقيم القبر وهو لا يخلو من عمارة وعند رأس القبر حجر منبي عليه بناء حسن فيه اثر قدمين شاع عند الناس أنها قدما النبي صلى الله عليه وسلم وهناك حجر آخر فيه أثر قدم أخرى يقال أنها قدم الخليل والناس يزورونهما ويذكرون أنها من الذخائر التي ظفر بها قايت باي أيام سلطنته فجعلت عند قبره رجاء بركاتها ولا يبعد ذلك فقد كان ملكا عظيما عدلا موقرا مهابا محببا إلى الخلق ذا سيرة حسنة في الرعية واجتهاد في عبادة ربه إلا أنه لم نر من نص على أنه ظفر بشيء من هذه الآثار من المؤرخين بل قد ذكر جماعة من حفاظ المحدثين أن ما استفاض واشتهر خصوصا على ألسنة الشعراء والمداحين من أن رجل النبي صلى الله عليه وسلم في الحجر لا أصل له ولم يذكر أحد أن أثر الخليل عليه السلام موجود في غير حجر المقام.
أقول قال شيخنا المذكور قال شيخنا العياشي في رحلته وبالمدينة المنورة ومكة والقدس آثار يقال أنها آثار بعض أعضاء النبي صلى الله عليه وسلم من قدم ومرفق وأصابع والله اعلم بصحة ذلك ولكن لم يزل الناس منذ أعصار يتبركون بها من العلماء والصلحاء ويقتفي الأخير منهم الأول قال فلأجل ذلك لما دخلنا إلى مزار السلطان المذكور صب القيم على الأثرين شيئا من ماء الورد فغمسنا فيه أيدينا ومسحنا به على وجوهنا ورؤسنا وأبداننا رجاء البركة بحسن النية وجميل الاعتقاد لأن المنسوب إليه ذلك عظيم ورائحة النسبة مع حسن النية كاف في ظهور الأثر
وحصول المرام ولم يزل الناس يتعرفون البركة وإجابة الدعاء في الأماكن المنسوبة إلى الأنبياء والأولياء والعلماء ولو لم تصح النسبة فما بالك بما نسب إلى سيد الوجود فالكل في الحقيقة إليه منسوب إذ هو أصل الموجودات وسر المشهودات فأي محل كان مظهرا لبعض كمالاته بالفعل أو بالقول أو بمجرد النسبة مع أصل النسبة الحقيقية عمت البركة وغشيتهم الرحمة يدرك ذلك بالذوق أربابه ، ويتعرفه بالبصيرة النورانية أصحابه ، والله المسئول أن يمدنا بمدده الساري في أسرار محققي أتباعه ، وينظمنا في زمرة حزبه وأشياعه ، وصلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين انتهى كلامه.
ومن يوم خروج المحمل شمر الناس عن ساق الجد في التجهيز للسفر باتخاذ الزاد وشراء الإبل أو كرائها وأزيحت العلل وكان الناس قبل ذلك في سعة من أمرهم ويقدم الجمالون من الصعيد والأرياف طالبين الكراء واختلفت رغبات الناس في ذلك فمن مائل للكراء ومن مائل للتدرب بإبله فمن أراد راحة بدنه وتعب قلبه والخصومات آناء الليل وأطراف النهار اكترى ومن أراد سلامة قلبه ودينه والمخاطرة بماله اشترى إبله ثم يأتي عرب الدرب للكراء على حمل الفول من مصر إلى المويلح ومن أراد المخاطرة فلا يكتري شيئا ويشتري في كل بندر ما يحتاج إليه إلا أنه ربما يقل في بعض الأحيان فيشتري في بعض المحال غاليا وغالب الأوقات يكون الأمر متقاربا في الشراء والكراء وربما كان الشراء أرخص من الكراء.
قلت وفي وجهتنا هذه كان الشراء أرخص بكثير والتقى الناس من رخص الأسعار في جميع البنادر ما لم يخطر لهم على بال وكاد يعد من المحال وكذا في الحرمين الشريفين فسبحان من بيده الأمر كله يفعل في ملكه ما يشاء تبارك وتعالى وهو أرحم الراحمين.
ولا يقطع الكراء مع واحد من عرب الدرب حتى يأتي عريفهم لأمير الركب فيتقاطع معه في الكراء ويعطون له حملاء هناك بمصر لئلا يغدروا وربما غدروا في بعض السنين فيغلي الفول في بعض البنادر فيكابد الناس لذلك ما الله به عالم فإذا كان اليوم الحادي والعشرون من شوال خرج المحمل من القاهرة وهذا اليوم هو يوم خروج المحمل الخروج الكبير الذي هو من أيام الزينة ويجتمع له الناس من أطراف البلاد إلى أن ينزل خارج باب النصر بالعادلية فيقيم هناك إلى اليوم الثالث والعشرين فيرحل من هناك إلى البركة ويخرج أمير الحاج وجميع عسكره ويخرج مع الركب من المشيعين ومن العساكر والأمراء أضعافهم فتنصب الأسواق هناك فيخرج غالب الباعة والمتسببين بحيث يوجد هنالك ما يحتاج للسفر بأرخص من سعر مصر ويقيمون هنالك إلى آخر اليوم السابع والعشرين وأما المغاربة فلا يخرج منهم إلا من قصده هنالك مع المصري مؤثرا مشي الليل على مشي النهار مستسهلا مشقة السهر بالليل عن حر النهار لا سيما في أيام الصيف وإنما يؤثر ذلك غالبا صنفان من الناس أهل القوة والثروة الذين لهم شقاذف ومحامل وهوادج ينامون فيها بالليل على ظهور الإبل ويصبحون بالنهار كأنهم مقيمون ولا شك أن هذا أولى لهم من السير نهار إذ وطنوا أنفسهم على بذل الدينار والدرهم للجمال والعكام والسقاء والطباخ وقائد الإبل وغيرهم وهم في ذلك متعاطون من النوم على ظهر الدابة ما تأباه الشريعة السمحة المبنية على الرحمة والشفقة. والصنف الآخر الفقراء الذين لا إبل لهم ولا أمتعة فيسترفقون عند المصري بالماء المسبل في أوقات من الليل وعند الرحيل نهارا مع ما ينالهم من أهل الثروة من التصدق بفضل الأطعمة إلا أنهم يكابدون مشقة عظيمة في المشي والسهر ليلا وفي النهار يشتغلون بالسعي على ما يقوتهم فلا يكادون ينامون إلا قليلا وأما المستوقة والباعة والجمالون من فلاحي مصر فلهم قوة وفرط صبر على مكابدة أعظم من ذلك فبالليل يسيرون وبالنهار يعملون في البيع والشراء
والسقي والطبخ وعلف ال بالسعي على ما يقوتهم فلا يكادون ينامون إلا قليلا وأما المستوقة والباعة والجمالون من فلاحي مصر فلهم قوة وفرط صبر على مكابدة أعظم من ذلك فبالليل يسيرون وبالنهار يعملون في البيع والشراء والسقي والطبخ وعلف الإبل وإصلاح أقتابها ومداواة جراحاتها فلا يكادون ينامون حتى القليل.
أقول قال شيخنا أبو سالم وقد أخبرنا عن بعض من اعتاد السفر في درب الحجاز من الجمالين أنه لم ينم من يوم خرج من مصر إلى أن رجع إلى مصر مائة يوم وهذا كالمحال عادة فان صح فهو من أغرب الغرائب ولعله كان لا يضطجع للنوم على هيئة القاصد لذلك بل يغفي إغفاءة تارة على ظهر بعيره وتارة في وقت انتظار حاجة أو فراغ من أكل أو ما يظاهي ذلك فإن كان مثل هذا فلا يستبعد انتهى.
وأما من لم يقصد الذهاب مع المصري من المغاربة فلا يخرجون إلى اليوم السابع والعشرين من شوال وينزلون بالبركة عند رحيل الركب المصري أو قبله بقليل.
قلت وهكذا كانت العادة وقد يؤخرون في هذه الأواخر بحسب تجهيزهم وتهيئة زادهم وما يحتاجون إليه لمسافة الدرب أمامهم ولله در العلامة الصلاح الصفدي (1) :
درب
الحجاز مشقة لكن إذا |
|
الجمال
هان تسهلت أهواله |
أصبحت
في تصريف جمالي على |
|
ما
يشتهي فكأنني جماله |
قد
كان خف على فؤادي لو غدا |
|
من
فوق ظهري بالسوا أحماله |
ويكون
طوعي في الذي أختاره |
|
لكن
قسا وتضاعفت أثقاله |
وقال أيضا في المعنى :
__________________
(1) هذه القطعة ساقطة من نسختين.
درب
الحجاز مبارك لكنه |
|
يحتاج
صبرا زائد الأجمال |
وغبونه
شتى ولا مثل الذي |
|
أصبحت
ألقاه من الجمال |
وقال أيضا :
غدا
سفر الحجاز كما تراه |
|
لأخلاق
الرجال بدا محكا |
فكم
من صاحب أمسى عدوا |
|
به
وصحيح ود قد تشكى |
وجمال
جميلك لا يراه |
|
وعكام
أتى من أرض عكا |
كما
أن المقوم في أعوجاج |
|
وحين
تقيمه بيديك دكا |
ثم بعد الأسفار تحملنا بحملنا ما لا مندوحة عنه في الأسفار فعوضنا الخيام من المسك ، وفوضنا إلى الله الأمر في المحرك والمبرك ، ونحن نتوقع تواتر الأذى ، ونتوقى توالي القذى ، فما وجدنا والمنة لله إلا اللطف الخفي والإعانة ، وتسهيل الطريق منه تعالى وسبحانه ، ونكبنا البركة ذات اليسار ، وشمرنا ذيول التيسار ، آمين الدار الحمراء ، مستمدين من مالك الغبراء والخضراء ، وهان علينا بذل البيضاء والصفراء ، بل سررنا بذلك لما أملناه ، وخف على النفس كل ثقيل لما قصدناه.
سررنا
وطبنا حين سرنا لطيبة |
|
ولم
نخش من طول المسير التماديا |
وقلنا
اجتهد يا سائق الركب إنما |
|
تهون
المنايا أن بلغنا الأمانيا |
وبركة الحاج المذكورة هي بركة واسعة مد البصر يتموج فيها ماء النيل العذب الفرات تنصب فيها الأسواق الحافلة بشاطئها والقهاوي المزخرفة والفساطيط المؤنقة ويخرج غالب أهل مصر لوداع الحاج والتفرج هناك والتنزه في بساتين ومقاصير على شاطئي النيل المنصب إلى تلك البركة وفي جانبها الغربي قرى متعددة في أحداها مسجد لسيدي إبراهيم المتبولي حسبما ذكره الشيخ الشعراني في الطبقات فنزلنا غربي
الدار الحمراء فاستهل لنا هلال ذي القعدة وهو كالسنان المنعطف فوق الصعدة.
انعطاف وتنبيه لما ظعنا من كفر حمام أردت أنا ومن اتبعني من الفضلاء السفر مع الركب المصري لما اشتهر من ظلم الركب الجزائري للناس وللهرج فيه أيضا حتى أن الإنسان يتمنى لم يقدم إلى الحج وان شيخ الركب ليس إلا يساعد الناس على ما هم عليه من ظلم وغيره وأنا لا أملك نفسي عند ظهور الظلم وساعدني الأخ في الله سيدي أحمد الطيب وسيدي أحمد بن حمود (1) وغيرهما من أفاضل الركب فلما ظعنا وأرنا الفرقة رحل جميع الركب وراءنا من غير تراخ إلى أن وصلنا إلى إمبابة (2) وجاهة بولاق فنزلنا فرادى ونزل معنا بعض الركب وبقينا أياما هناك غير أن الناس لم ينزجروا عن التعدي عن زرع الناس بل حصدوه ورعوه بالإبل والفلاحون يتشكون ويبكون ويتباكون فنهيناهم وزجرناهم بل ضربنا بعضهم فلم ينزجروا بل زادوا ظلما وعدوانا فذهبت للشيخ فقلت له ليس إلا الانتقال إلى بولاق فرحلنا وقطعنا النيل بأجرة كما هو العادة غير أن أهل الركب يقطع أكثرهم ويمتنع من إعطاء الأجرة فلما رأينا ذلك منهم وشاهدنا عدم توبتهم نزلنا فرقتين فالشيخ مع بعض الركب نزل محاذيا لبولاق ونحن نزلنا بين مصر وبولاق ثم أن من نزل معنا من لم ينكف عن الظلم والتعدي فاكترينا (3) عن رجل جندي غير أنه لما طلب قبض ثمن الكراء اتهمناه (4) فأتينا به إلى شيخنا الفاضل الكامل المحقق العلامة المدقق صاحب التصانيف المفيدة سلطان العارفين وإمام السالكين الشيخ البركة سيدي محمد الحفناوي نفعنا الله به وبأمثاله آمين فعاهده وتوثق جميعنا بحضرته.
__________________
(1) في نسخة حمودي.
(2) كذا في نسخة ولعله انبابة وفي ثلاث نسخ أم بابة.
(3) في ثلاث نسخ فلما اكترينا.
(4) في نسخة امهلناه.
نعم قد ألزمت نفسي أني لا أعطي دراهمي أحدا إلا بعد رفع الأحمال والدخول في السفر فأخذ ذلك الجندي الدراهم من بعض الحجاج اعتمادا على الشيخ المذكور فبعد يومين أو ثلاثة هرب (1) بالدارهم على أني بعثت له جملا بعشرين ريالا أبو طاقة والأجل مكة فذهب الجمل إلى أن وصل بولاق فرجع الجمل بنفسه من غير قائد ولا سائق وهو من خوارق العادة إذ من غفل لي دابته طرفة عين أخذت من غير شك فلما علمنا بهروبه ربطنا ولد أخيه وأعلمنا حاكم بولاق فحبسه وأعطى الحجاج ما وجد بين يديه من المال فلعناه وقسمناه بينهم فصار لكل نصف ما أعطى إذ قد أحاط الدين بجميع ماله.
نعم فلا تغتر أيها الحاج بحلاوة اللسان من الشياطين ولا بإظهار المودة ولا بكثرة الإيمان فإنهم ذئاب في ثياب وكذا أن أتوا لك بهدية لا تقبلها منهم فإنهم يريدون التحيل بالوصول بها إلى مالك فتقع في شبكة لا مخرج لك منها فلا يعتبرون عهدا ولا مودة ولا يمينا ولا صحبة ولا شيخنا ولا وليا إلا المكر والخديعة فلا يرجى منهم إلا الخيبة والخسران والنكث والعكس ولا ينجو منهم إلا من اشترى إبلا لنفسه وحمل عليها وإلا فقد قطعوا الطريق وأسبابها لأنهم أن قدروا على أخذ المال تحيلا فعلوه وإلا أخذوه بإعطاء رشوة لأصحاب المخزن من الدعاوي الكاذبة والفجور وإظهار الشكوى بلسان الباطل وغير ذلك من فضائحهم (2) فلم يبق إلا النصرة بالله والاعتماد عليه ليحفظك من شرهم وبسبب ذلك انقطعنا عن الركب المصري.
نعم اجتمعنا وتشاورنا فظهر لنا السفر مع سلطان فزان وحاكمه لما ظهر لنا فيه
__________________
(1) في ثلاث نسخ إلا وهرب.
(2) في نسخة فظائعهم.
من الحكم والعدل فتعينت أنا والفاضل الزاهد الورع سيدي محمد الشريف النوفلي الطرابلسي للمشي إليه لطيلون إذ هو نازل هناك فلما وصلنا إليه أخبرناه بالسفر معه وأخبرناه بالسبب ففرح وسر بنا سرورا عظيما فلما رحل رحلنا معه ونزلنا عليه خارج مصر وبعد ذلك اختلط معنا (1) ركب الجزائر ثم رحلنا معه في النهار إلى البركة ليذهب مع الشيخ كل من يريد ركبنا فبتنا جميعا فلم يزالوا على النهب والتعدي في البركة ذلك اليوم وبتنا جميعا والركب الفزاني نزل حده فلما ظعنا صبيحة ذلك اليوم تأخرنا إليه أعني جميع من يتبع سيدي أحمد الطيب وسيدي أحمد بن حمود (2) وسيدي محمد الشريف وزابر هذا الكتاب فاجتمع أهل وطننا أعني من الجزائر إلى قسنطنية معنا وما بقي إلا أهل عامر وقصر الطير وأولاد عبد النور وأولاد سعيد بن سلامة ومن تعلق بجميعهم وكذا أهل بسكرة وأهل مدكال وأهل المسيلة وأهل الصحراء وأهل الزاب وغيرهم الكل مع الشيخ سيدي محمد المسعود وقد رفع منهم ما رفعت الأرض من أعباء الثقلين جزاه الله عن المسلمين خيرا.
تنبيه وقد زرنا في هذه الحجة شيخنا الفاضل الكامل سلطان العارفين ، وإمام الطريقة والسالكين ، الجامع بين الحقيقة والشريعة ، سيدي محمد الحفناوي ، والشيخ الصالح ، والبدر الواضح ، نخبة العارفين ، ودرة الموحدين ، الشيخ الجوهري وزرت أيضا من بالأزهر من العلماء والطلبة وغيرهم واجتمعت مع أبي الحسن شيخ رواق المغاربة وأعارني الشيخ الحطاب شارح المناسك لخليل وهو شرح جليل قد سافرت به إلى مكة أحياه الله على السنة النبوية وأعلمته بشرحي على خطبة شرح الصغرى فلما رآه ورأى حاشيتي على المحقق المراكشي (3) السكتاني استحسن جميع ذلك وقد
__________________
(1) في نسخة اختلط علينا.
(2) في نسخة حمودي.
(3) في نسخة بإسقاط المراكشي.
شرح هو أيضا هذه الخطبة غير انه اختصره كثيرا ثم اجتمعت الطلبة وكلموني على مسألة الجوهر الفرد إذ عندنا معشر أهل السنة موجود وأما عند غينا فمستحيل لشبهات أوردها من منع فردها أهل السنة بأمور معلومة نص عليها غير واحد كابن التلمساني في شرح المعالم والسعد والإمام السنوسي وغيرهم أن البعض ممن يدعي التحقيق من الأفاضل المحققين يسلم أدلة المنع ويمنع أجوبة أهل السنة لتمكن الشبهة في قلبه فلما أوردوا تلك الأدلة فمنهم من فهم الشبهة فمنع جواب أهل السنة ومنهم من لم يفهم الشبهة ولا الجواب عنها ففتح الله علي بسد تلك الثلمة ومنع تلك الشبهة من أصلها ورفع ما عسى أن يرد من المحال على وجود الجوهر الفرد فأشرق علي نور العرفان حتى علم الحق كل من حضر وتعجب الكل في ردع (1) المفصح بها فصعق من حضر ذلك المجلس.
نعم شهدوا الفضل وانه باق وان الفتح والوهب لا ينقطعان أبدا حتى أن بعض من كان في المجلس لما أفاق من سكرة البغت أراد ببضاعة عقله وضعف ملكته أن يرد ذلك الجواب بالحل والنقض فلم يقدر لكونه سماويا إلهيا نزل من عند الله طريا ولو أن أهل المعقول (2) آمنوا وصدقوا بفتوحات القوم لفتح الله عليهم من بركات السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذوا بحجاب الجهل وأطوار البشر بغتة من غير تراخ فسكت لكسف نور شمسه.
نعم بعد ذلك طلب مني جميعهم قراءة الكبرى للشيخ السنوسي وقالوا لا بد أن تحضر الشيخ علي الصعيدي وقت أقرائه إياها وأنك لا بد أن تشتي عندنا فوافقتهم على أقرائها ومساعدتي لهم عليها فكل من سمع من الطلبة فرح وسر بذلك غير أن
__________________
(1) في نسخة ردي.
(2) في ثلاث نسخ القلوب.
منعني من الإقامة في مصر لما كان من الهرج والفتنة والنزاع بين الحجاج [والشيال لأن من دخل بولاق من الحجاج ربطوه وحسبوه ومن دخل منهم الركب ربطه الحجاج](1) فوقع هول عظيم وجميع الفضلاء يجري (2) بين الجميع بالصلح حتى خفنا على أنفسنا من كثرة الظلم الواقع من الجانبين غير أن الحجاج مظلومون بالنسبة للمال إذ أقرضوهم في الطريق فأكلوهم وأرادوا الزيادة منهم وأما الحجاج فقد ظلموهم بالضرب في الطريق والشتم وكل عمل قدروا عليه فانتقم الله من الجميع رزق الله الكل التوبة والندم على ما صدر من الجميع بمنه وكرمه.
وقد زرت في الحجة الثانية الشيخ البليدي وهو عالم فاضل محقق مؤلف وقد ألف حاشية على الشيخ عبد الباقي إذ رأيتها على هوامش الكتاب المذكور وأجازني في العلوم كلها وزبر ذلك بخط يده وقد حضرت عليه في الحجة الأولى بعض الدروس في الرسالة.
وزرت أيضا الشيخ الفقيه المقبول المنور العارف بالله تعالى إذ شرح خليلا شرحا مختصرا بالمزج وقد رأيته في داره وهو شرح مبارك لا بأس به وهذا الشيخ هو شيخنا الإمام العمروسي وقد أجازني أيضا غير أنه زبر الإجازة بعض تلامذته بإذنه وإملائه عليه وقد ختمها وكتب على ذلك بخط يده وطبع عليه بطابعه.
وزرت أيضا شيخنا المحقق العلامة المدقق خاتمة المحققين وإمام الإجلاء العارفين الشيخ خليل المغربي (3) وهو في العلوم بحر لا ساحل له وان العلوم كلها ضروريات عنده لا سيما علم المعقول وقد قرأت عليه القطب على الشمسية أعني
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط من نسختين.
(2) كذا في جميع النسخ.
(3) في نسخة الأزهري.
التصورات والعكوس والتناقض بحاشية السيد عليه وقد أجازني بخط يده في سائر العلوم نفعنا الله به والذي أخذنا معه عليه (1) هو الفاضل بالاتفاق والعلامة على الإطلاق سيدي أحمد بن عمار والفضلاء الإجلاء سيدي أحمد بن حمود وسيدي الصالح القصاري وسيدي أحمد الصديق الجزائري والفاضل المحقق البغدادي وفق الله الجميع آمين وأن محل القراءة الروضة المنورة والنخبة المشتهرة التي يستجاب الدعاء عندها وهو مسجد سيدنا الحسين (2) فقرأنا عليه قراءة بحث رضي الله عنه وأرضاه.
وزرت أيضا الشيخ العلامة والفاضل الفهامة الشيخ المؤلف ذا التصانيف المفيدة والتآليف العديدة شيخنا الملوي وقد أجازني في سائر العلوم وزبر ذلك تلميذه لأنه أقعد لا يقدر أن يقوم وهو مضطجع على سريره وقد كبر سنه بان عمره زاد على مائة سنة والذي رأيته من تصانيفه الشرحان الكبير والصغير على السلم والشرحان أيضا الكبير والصغير على رسالة السمرقندي في الاستعارات وكلاهما عندنا والأولان عند سيدي أحمد بن حمود وكذا نظم الموجهات وشرحها وهو ممن له الذوق السليم والطبع المستقيم رضي الله عنه وأرضاه آمين وقد سمعت انه حشى المراكشي على الصغرى وغير ذلك من تآليفه نفعنا الله به آمين.
وممن زرته أيضا وحضرت مجلسه وهو من المؤلفين والعلماء المحققين وقد صنف كثيرا وإليه النظر في وقتنا هذا في الجامع الأزهر بل إليه تشد رحال الطلبة بمصر من كل جانب وقد بلغ صيته علمه مشارق الأرض ومغاربها شيخنا سيدي علي الصعيدي وقد أجازني بخط يده في جميع العلوم وقد حضرت مجلسه في الفقه في
__________________
(1) في نسخة والذي أخذ معنا عليه.
(2) في ثلاث نسخ مسجد الحسنين.
مختصر خليل بشرح الشيخ الخرشي وهو يحشي فيه وقد كملت حاشيته الآن عليه في نحو الخمسة أجزاء وقد باحثته في بعض المسائل الفقهية في مجلس أقرائه إذ وجدته في السهو من الشيخ الخرشي المذكور فأورد على الشيخ الخرشي اعتراضات غير انه يغلظ عليه ويكثر من قوله كلام الخرشي فاسد فلما سمعت ذلك أصابتني غيرة عليه ولما وصل إلى قوله لا سنة خفيفة كتشهد (1) إلى قوله وإعلان بكآية إذ قال الشيخ الخرشي قوله وإعلان معطوف على قوله كتشهد إلى آخره فقال الشيخ علي هذا العطف فاسد وقال في بيانه أن التشهد متروك وإعلان ضده والعامل في المعطوف عليه هو العامل في المعطوف ولا يصح تسلط الترك على الإعلان لأن الترك هو العامل في التشهد فلما تم كلامه أغلظت عليه القول فلم يؤاخذني بذلك بل قال ما البيان فقلت له المعطوف في الحقيقة محذوف تقديره كتشهد وسر في بعض الفاتحة أي كترك تشهد وترك سر بأن أعلن وقد صور المصنف الشيء بضده لأن القراءة يكتنفها أمران السر والجهر ولا يترك أحدهما إلا بفعل ضده ولذلك قلنا المعطوف في الحقيقة محذوف كما سبق فسلم رضي الله عنه على يدي وقبلها وبعد ذلك لا يكتب قولة على الشيخ الخرشي إلا أن يعلمني بالبحث بها ومعه شخصان عالمان في غاية التحقيق وهما ضريران لا يكتب شيئا عليه إلا بعد أن يخبرهما ويختبرهما فان سلما نزاعه وبحثه كتبه وإلا فلا وقد أجازني أيضا كما سبق من الشيوخ غير أنه صاحب تواضع بان قال في نص الإجازة لست أهلا لأن أجاز فضلا عن أن أجيز إلخ رضي الله عنه وأرضاه ونفعنا ببركاته آمين.
ولقد رأى أيضا شرحي المذكور في هذه الحجة وأجازني بالتأليف أمدنا الله وإياه بمدده وجعلنا من عده وعدده (2).
__________________
(1) كذا في جميع النسخ وفي متن المختصر ولا لفريضة وغير مؤكدة كتشهد.
(2) في نسخة وجعلنا من حزبه وأوليائه.
وممن أجازني أيضا وزرته الشيخ علي الفيومي الفاضل العارف بالله ذو الأحوال المرضية والمحبة الصافية والحقيقة النبوية والواردات الإلهية والعلوم اللدنية والفتوحات الربانية وكذا عنده تفريد التوحيد وتجريد التفريد وسهم فهمه نافذ إذ علمه يطابق (1) علوم الإنسان الكامل وهو عبد الكريم الجيلي وفتوحات ابن العربي الحاتمي وشوارق عبد القادر الجيلي وأبو حفص عمر بن الفارض وأكثر عباراته في المحو والغيب والفناء وفناء الفناء وله شطحات وتحركات في الوجد وهو ممن يرقص وقد أنكر عليه شيخنا الحفناوي وغيره وقد علمت أن علامة الصديق انه لو شهد عليه ألف صديق بأنه زنديق لا يضره ذلك ومن علامته أيضا كثرة أعدائه وأنه لا يبالي به وقد ألف رسالات في التوحيد الخاص وعندي من تلك الرسائل رسالة في اسم الجلالة رسالة عظيمة بحيث يهتز من رآها ويخشع قطعا لأن فيها علوما لا تكاد توجد في غيرها إلا على سبيل التفريق والقلة وقد قال فيها وفي الخبر يا عبدي خلقت كل شيء لك فلا تتعب وخلقتك لأجلي فلا تلعب وبالجملة ما كان فيك ظهر على فيك كل إناء بما فيه يرشح وهو ممن يلقن أذكار الشيخ البدوي ويلبس الخرقة وقد حققت منه الكشف غير ما مرة وقد نهاني عن الصوم إذ كنت أسرده فلم يتيسر لي بعد إلا الفرض رضي الله عنه وقد أخذت عنه أيضا نفعنا الله به آمين.
وممن أخذت عنه أيضا واجتمعت به الشيخ البركة المحقق الفاضل الكامل الزاهد الورع المقتفي طريق النبي صلى الله عليه وسلم الشاذلي شيخنا ومن على الله ثم عليه اعتمادنا وانه من المتوكلين على الله حق التوكل وأن الجالس معه يحدث في قبله خشوع ويقين وإيمان قوي وحلاوة ووجد يعلم ذلك من حاله (2) وصحبته
__________________
(1) في نسخة وفهمة يافذ إذ علمه غير نافذ يطابق إلخ.
(2) في نسخة جالسه.
ورؤيته لا سيما إذ تلك أخذ القلوب ومن فارقه وغاب عنه أحب (1) الرجوع إليه بل يجد الإنسان الداعي والباعث إلى الرجوع إلى مشاهدته ومشاهدة حضرته وأني جربت من نفسي ذلك فلا أصبر عليه ولو لحظة فإن غبت عنه ساعة وجدت محركا يحركني [إلى الوصول إليه وأن كل هم وغم يزول برؤيته والاجتماع به فإنه يفيد صاحبه](2) بأقواله إن نطق وبأفعاله أن سكت وكله رضي الله عنه علم وحال فانه ينهضك بحاله ، ويدلك على الله بمقاله ، وقد اتقى رضي الله عنه جميع الشبهات ، وحلي بسائر الكمالات ، وقد تقدس رضي الله عنه المتشابه فضلا عن الحرام فلا يركن إلى ظالم ولا يقبل هديته وقد تحقق عنده حب النبي صلى الله عليه وسلم بدليل إتباعه واقتفاء آثاره صلى الله عليه وسلم وهو من أهل القدوة إذ جمع بين الحقيقة والشريعة جمعا متواطئا فلا نظير له في زمانه رضي الله عنه وقد أخذنا عنه الطريق ورسم الحقيقة وانه لقنا الأذكار وجددنا عليه العهد في الطريق الشاذلية المحضة وأجازني إجازة مطلقة في سائر العلوم العقلية والنقلية وقد بالغ رضي الله تعالى عنه في حبنا واعتقادنا ومن عجائب ما رأيت له أنه أمرني بالذهاب معه إلى زيارة الصالحين والأولياء العارفين والعلماء العاملين في القرافة الكبرى والصغرى ملازمته للأدب في الزيادة غاية قل أن يوجد مثله في ذلك وكذا معرفته للعلماء المؤلفين فلا يخفي عليه شيء من قبورهم كأنه هو الذي دفنهم فمهما وصلنا قبرا أو رأيناه إلا قال هذا قبر فلان وفي جواره قبر فلان وفي تجاهة القبلة قبر فلان أيضا إلى أن يعد الجهات والقبور فعلمت أن ذلك ليس من طريق الحفظ والتمرين بل ذلك إنما هو من طريق الكشف لاستحالة أن يكون ذلك من رسم الصفة لأنه من خوارق العادة قطعا.
هذا وأني قد شهدت أنوار صحبته في حال الزيارة معاينة ومع ذلك ما تركنا
__________________
(1) في نسختين أيس.
(2)؟؟؟؟
ناحية من النواحي إلا زرناها من الصبح إلى الظهر وقد رجعنا وصلينا الجمعة في الجامع الأزهر.
وبالجملة فالذي زرناه تلك المدة لا يزار إلا في أيام عديدة ومع ذلك وجدنا حلاوة ما وجدناها في غيرها من الزيارات فأني قد جبلت على حبها من صغري وقد كثرت مني غربا وشرقا وجوفا وقبلة بمعنى وجودها مني للأحياء والأموات فمهما ذكر لي ولي أو صالح أو عالم حيا أو ميتا إلا ذهبت إليه واقتبست من نوره لا سيما عمالة الجزائر فأني قد خضتها وبحثت عن أهلها بحثا شديدا تاريخا وسيرة وطريقة وحالا وكرامة لما رأينا من وقوع الإهمال في ذلك في وطننا فرسمنا كل ذلك رسما جيدا فحفظت من كل خلف وصف أسلافه ونقلت (1) من كل فرع أخبار أصله علما مني أنه لا يمجه السمع السليم والطبع المستقيم ريحانة لما (2) يجده المتأخر بعدنا ورحمة لما يحصل (3) له من اقتباس الأنوار في وطننا فما تركت من جهدي شيئا ولا في استطاعتي أمرا إلا حاولته في التفتيش عنهم والاستقصاء بالطلب والفعل في آثارهم لا سيما أهل بجاية فإنها مدينة عظيمة يكاد زيتها يضيء من علم أهلها وقوة أحوالهم وأنوار مواجدهم ومن أراد استقصاء أخبارهم فليطالع عنوان الدراية للغبريني ورياض الصالحين للثعالبي وغيرهما.
وكذا بالغت في الزيارة والاستقصاء لمدينة الجزائر وأرض الجدار أعني تلمسان وكذا مليانة التي تشرفت بالولي الصالح ، والقطب الواضح ، ذي الأحوال الفاخرة ، والكرامات الباهرة ، سيدي أحمد بن يوسف وقد سمعت أنه أخذ عن الشيخ زروق
__________________
(1) في نسخة بإسقاط ونقلت.
(2) في نسخة بإسقاط لما.
(3) في نسخة بإسقاط لما يحصل.
فصار يترقى حتى أخذ زروق عنه نفعنا الله بهم وأفاض علينا من بركاتهم وبركات أشياخهم.
وكذا الشيخ الكامل ، والولي الفاضل ، صبغة الله في أرضه ، وعين الرحمة في خلقه ، سيدي علي بن المبارك القليعي نفعنا الله به ومثله من تأتيه الوفود وتؤخذ عنه العهود الولي بلا ارتياب سيدي فرج القريب من الجزائر على شاطئ البحر فقبره معلوم وروضته ترياق مجرب وهو الذي أخبر عنه شيخنا ووسيلتنا إلى ربنا سيدي أحمد بن ناصر بأنه هو الذي أظهر الخلوة المزارة المتعبد فيها الأولياء تحت أبي شعيب (1) على شاطئ البحر في أرض مسراتة من عمالة طرابلس الغربية لبرقة وهي التي كان فيها الشيخ زروق.
وكذا البليدة وقد زرنا فيها الأكابر كالولي الصالح الشيخ سيدي الكبير وغيره نفعنا الله بهم آمين ومثلها المدية وقد زرنا فيها الشيخ سيدي محمد ابركان وغيره.
وكذا دلس وما قاربه وكذا جبال زواوة على اختلاف أنواعها ولم تكن بلدة أوسع منها كادت أن تلحق بمصر أو أعظم منها.
وكذا المسيلة وقد زرنا فيها الشيخ القطب الغوث سيدي محمد بن عبد الله بن أبي جملين وغيره.
وكذا زرت مدينة بسكرة وسيدي عقبة والنبي سيدي خالدا وغيرهم وسيدي عبد الرحمن الأخضري صاحب التأليف المشهورة والتصانيف المذكورة وقد زرت أيضا تبسة ومن فيها.
__________________
(1) في نسختين شعيف.
وكذا قسنطينة ومن فيها من الأحياء والأموات لا سيما سيدي سعيد السفري (1).
وزرت أيضا بونة أي عنابة ومن فيها لا سيما من يستجاب الدعاء عند قبره وهو أبو مروان وأولاد سيدي أحمد ابن الشيخ سيدي زروق لا سيما من كتب اسم محمد صلى الله عليه وسلم بقلم القدرة في يده اليسرى وهو من العلماء العاملين لا نظير له في المعقول والمنقول وقد حلاه الله بحلية القبول من رآه أحبه وهابه وقد جبل على السخاء والكرم فأخلاقه وخلقه أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وخلقه ما رأيت أحسن منه باطنا ولا ظاهرا وقد سألني فيه فأجبته بأنه إنما كتب الله بذلك (2) اليد إعلاما لنا أنك يمين كلك (3) فجهة اليسرى منك منفية عنك وسألني أيضا عن قوله تعالى في مريم واسجدي واركعي مع الراكعين وان كانت الواو لا تقتضي الترتيب إذ كلام البلغاء لا بد في سبقه بشيء من الحكمة.
قلت والله اعلم أن الله خاطبها أولا بسجودها نظرا لمقامها الخاص بها وخاطبها ثانيا بالركوع مع الراكعين نظر إلى حالها مع قومها لأن العارفين بالله تعالى قلوبهم مع الحق وأجسامهم مع الخلق فكانت مريم من هؤلاء المتمكنين الراسخين في العلم ولما سمع كلامنا هذا استحلاه وكتبه وكان أجود الخطوط وما رأيت خطا أحسن منه وانه أجازني رضي الله عنه في سائر العلوم النقلية والعقلية ودراهم دار الولاية من أعالي أسلافهم إلى الآن وان والده رضي الله عنه كان من المؤلفين وتآليفه كثيرة لا تحصى كثرة وقد نظم [مختصر] خليل بتمامه ونظم أيضا عقائد الشيخ السنوسي
__________________
(1) في نسخة الصفراوي.
(2) كذا في جميع النسخ.
(3) في نسخة كلا يديك.
الخمسة وقد رأيت له جوهرة نظما وكذا ياقوتة نظما ورأيت أيضا كتابا ألفه في أخبار العلماء السابقين وأوصافهم وذكر حكايات وأسماء الله وفوائدها وذكر الخضر وأمثاله حاصله كتاب عجيب وله كتاب حسن ذكر فيه السيد عكاشة انه ولي من أولياء الله وليس الصحابي المعلوم وقد شطّر البردة تشطيرا حسنا.
وبالجملة فمن رأى أولاد سيدي أحمد ابن الشيخ رأى أنوار فيهم وعناية كاملة لهم وفضلا عاما لديهم والآن في الحياة ولده الفاضل الكامل سيدي محمد وقد مكثت عنده نحو الجمعة نعم [كنت] ذلك الزمان مشتاقا للحج فقال على طريق الكشف انك تحج السنة ومع ذلك أني فقير والركب في البر قد انقطع من أمر الوباء في الجزائر وكان الأمر كما ذكر فأتى الله بولد سيدي أحمد بن يوسف وهو سيدي أحمد بن طيبة فذهب الركب معه والحمد لله رب العالمين.
وبالجملة فما رأيت أفضل من شيخنا الشيخ العفيفي أسبغ الله تلك النعم على أولاده وعلينا أجمعين بمنه وكرمه فقد أجاز أيضا ولدي محمدا وكان صغيرا ولقنه الذكر على طريق الشاذلية رضي الله عنه وأرضاه آمين وأحواله ونعوته لا تعد ولا تحصى ولا تضبط ولا تستقصى.
وممن أجازني سلطان العارفين ، وإمام المحققين ، شيخنا وعمدتنا العالم على الإطلاق ، وشمس الأنوار بالاتفاق ، الشيخ الحفناوي نفعنا الله به وبأمثاله وكتب الإجازة بخط يده رضي الله عنه في المعقول والمنقول.
وكذا لقنني الذكر على طريق أشياخه وأذن لنا في الإعطاء والأذن نعم كان فاضلا كاملا جامعا للعلوم النقلية والعقلية وجامعا بين الحقيقة والشريعة ويكاد أن يكون ممن يجدد الدين وما رأيت أحسن منه في إقراء العلم كأن الجواهر تخرج من فيه
وذلك منه من غير كلفة ولا صعوبة فالعلوم كلها طوع يده بحيث لا يحتاج إلى كبير مؤنة في استحضارها وقد حضرت في مجلسه المعلوم عند أقرائه الرحبية بالشنشوري يتمنى الإنسان أن يتجرد لصحبته لأخذ العلم منه بحيث لا ينظر إلى وال ولا ولد ولا صاحبة ولا غيرهم وله تآليف كثيرة وان نسبت إلى الشيخ يوسف أخيه فهي في الحقيقة له وعندي من تآليفه حاشيته على رسالة الوضع وهي حاشية عظيمة نعم حاله حال الملوك وقد قال أبو الحسن الشاذلي ومن الأولياء من يظهر على هيئة العظامة والجبر والانتقام لأن الله تجلى على قلوبهم بذلك فلا يصحب ذلك الشيخ من المريدين إلا من محق الله نفسه ومحاها والشيخ من ذلك القبيل فمن سلم له ولغيره وصدق أحواله وأموره انتفه به فلا تسمع لمعاصره من إنكار بعض الأمور عليه إذ قد جرت عادة الله مع أحبابه أنه يسلط عليهم أهل زمانه فلا بد لمتبع ما تحقق لمتبوعه فلا بأس في ذلك ولا قدح أصلا بل يزيد الصادق صدقا والمحق حقا.
وبالجملة فالشيخ أنوار الشريعة ظاهرة عليه ، وأنوار الحقيقة بادية لديه ، وهو من أهل الكشف تحقيقا وأني ذات يوم جلست معه فقال لي قدم بعض المغاربة مصر زمان كذا وكان من نجباء الطلبة وفي قلبه انه يختبر المحقق في الجامع الأزهر فيقرأ عليه ويأخذ العلم منه فصار يتردد في مجالس العلم ويبحث مع أهلها أبحاثا قوية حتى اشتهر في المسجد بتلك الأبحاث وما كان قصده إلا خيرا كما سبق قال ذات يوم أتاه رجل من أهل الخير فقال له لا تعد إلى مثل هذا وإلا هلكت أو سلبت أو كلاما هذا معناه أعلاما لي إذ حالي مثل حال هذا الرجل وقصدي كقصده لأني أتردد في الدروس بالبحث والسؤال حتى اشتهر أمري في المسجد فقال لي إياك ثم إياك فبعد ذلك لم أعد إلى ذلك أبدا وزال عني ذلك كله بل كنت مولعا بالنزاع ومحبا له غير أني بالإنصاف فكنت معافي بحيث لا أحبه ولا أرضاه أصلا بعد ذلك ببركات الشيخ وأن أحتمل أنه حصل له العلم بحالي وثبوته عنده غير أن الكشف أقرب إليه
وأيضا كان لا يأتي إلى المسجد ذلك الزمان إذ قد رفع ذلك من قلبي ببركاته رضي الله عنه وهو دليل على انه من أهل الكشف وأيضا أتى له شخص حديث السن نحو العشرين سنة في عمره جاءه من مسافة بعيدة كسبعة أيام أو أكثر والشيخ لا يعرفه ولا يعرف محله فقال له ذلك الرجل أتيت إليك لأدخل تحت طاعتك وأكون من أولاد قلبك فقال له الشيخ ارتجالا حتى تتوب من عقوق والدك إذ أنت على مدة طويلة عاق له وعاص من أجله فإن أردت اخذ العهد منا فكن على بروره وتب إلى الله من عصيانه فبكى ذلك الشخص وقال نعم منذ مدة طويلة وسنين عديدة وأنا على عقوقه وعصيانه (1) فصاح بالتوبة والاستغفار فعجبنا من حال الشيخ وأصاب ذلك الشخص عبرة بل أصابه بعض الغيب عن حسه فلا أصعب من حيرة البديهة وهيبة الفجاة.
وبالجملة فأحوال الشيخ ساطعة ، وعلومه نافعة وأسراره واقعة ، وآثاره رافعة ، وأهل السلوك قلوبهم خاشعة ، وأصحابه مطيعة سامعة ، وقد زحلق عن القوم (2) الأول ، وكل ملهوف وضعيف عليه عول ، رضي الله عنه ونفعنا به آمين.
وممن حضرت درسه الشيخ عمر الطحلاوي وقد جمع المعقول والمنقول وانه كالشيخ الحفناوي في كونه تخرج من فيه جواهر العلوم وعباراته سلسة تصدر من غير كلفة ولا تعب ولا تعسف قل نظيره في الجامع الأزهر وسمعت منه بعض الرسالة الوضعية وبعض التفسير وهو ذو الجلالين وقد سألته عند قوله في أن المعارف غير العالم هل وضعت وضعا جزئيا أو كليا وقد أوردت عليه كلام القرافي فتعجب من كلامه لأنه غير معهود به إلخ وكذا سألته أيضا في قوله تعالى : (وَلَقَدْ
__________________
(1) في نسخة نسيانه.
(2) في نسخة القرون.
نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) الآية لأن قوله إذ تقول للمؤمنين ظرف متعلق بنصر فلما ذكر ذلك قلت له إذا كان النصر حينئذ لم يكونوا أذلة أي في قلة فقيد النصر بالملائكة ليسوا على قلة في الظاهر ولا في الباطن فلما عجز عن الجواب صار يغالطني بكلام ليس من العلم وهي المغالطة الخارجية فلم أرجع إلى مجلسه بعد غير انه مشتهر بالتحقيق وهو من مشائخ المالكية الكبار.
وممن سمعت منه أيضا الشيخ العالم العلامة ، المحقق الفهامة ، ذو الأبحاث الرائقة ، والنكت الفائقة ، الشيخ الزياتي الشافعي بعض المسائل من النحو أعني كلام الأشموني وهو ممن يحب البحث والإنصاف فمهما أوردت عليه شيئا إلا قال بلزوم الإيراد وإنما ينظر الجواب عنه وهو ضرير في غاية التحقيق وقد اشتهر بذلك في الجامع المذكور وحضرت عليه أيضا دروسا في المحلي نفعنا الله ببركاته آمين.
ومن أشياخي الشيخ الفاضل ، والعالم الكامل ، إمام الجامع ، ذو الصدر الواسع ، الحافظ على الإطلاق ، والناقل بالاتفاق ، وله باع قوي في المنقول والمعقول وقد أخذ عنه كل من كان في زمنه من الشافعية والحنفية والمالكية وغيرهم فقد حقق المذاهب رضي الله عنه الشيخ سالم النفراوي ولقد علم من حاله أن كل من يحشي أو يشرح بفوائد غريبة أو نقول عجيبة إنما ذلك منه رضي الله تعالى عنه ونفعنا به آمين.
وقد قرأت عليه مدة مختصر السعد غير أنه ما رأيت مثله أبدا نعم لا يسأله أحد في المجلس لأن جميع ما يخطر ببالك إلا ألقاه في الدرس وإن بقي للإنسان شيء ألقاه عليه بعد الفراغ منه وأما أ ، ا فاسأله دائما وهو يجيبني من غير غضب ولا عنف لكوني غريبا من آل المصطفى صلى الله عليه وسلم وكان يحضر مجلسه نحو السبعين طالبا نعم لما رأوني اسأله ولا يمتنع من الجواب تعجبوا من ذلك وصاروا بعد ذلك يرغبون ويحبون مني دوام السؤال له بل تارة يأمرون بالسؤال وتارة بالإشارة إلى
ذلك لأن الشيخ نفعنا الله به ضرير أي أعمى ومع ذلك انه من أكابر الأئمة وأفضل علماء مصر فلا ترى أحدا في الجامع مثله لأنه شيخ الجميع كما سبق وإمام المحققين على ما تقرر واشتهر.
هذا وقد وقع بيننا وبين الوالد رحمه الله نزاع في بعض المسائل من مسائل الفقه فاستظهرت أنا والعلامة الفاضل والمحقق الكامل عمنا سيدي محمد الصغير أمرا والوالد جزم بفهم آخر وهو قول خليل وتفكّر بدنيويّ إذ ذكره في باب المكروهات فقال جميع من شرحه محل ذلك إذا درى ما صلى وإلا بطلت صلاته أي أن لم يدر ما صلى بطلت إلخ فقال الوالد يصدق ذلك أي عدم الدراية ولو بركعة واحدة لأنه لم يدر ما صلى فقلنا له في الرد عليه هذا يبنى على المحقق ويأتي بالمشكوك فيه لأن قولهم أن لم يدر ما صلى إلخ إذا صدرت منه أفعال كثيرة ولم يظبطها أصلا ولم يتحقق عنده ولو ركعة فهنا تبطل الصلاة لأن الفعل المضارع في سياق النفي كالنكرة في سياقه يفيد (1) العموم فلما ذكرت ذلك له أجابني بما قال به أبي نعم عندنا أنه لا بد لمن يضبط شيئا من الصلاة بمنزلة من صدرت منه أفعال أجنبية منها فتبطل صلاته غير أن الشيخ ابن أبي جمرة ذكر في مسألتنا هذه قولين والله اعلم.
حاصله علمه مشهور ، وتحقيقه مذكور ، وقد حضرنا موته في الحجة الثانية وقد ازدحم الناس على الصلاة عليه بان لا تجد موضعا في الجامع الأزهر إلا وهو عامر فقد أتى للصلاة عليه أكثر أهل مصر ومات فجأة رضي الله عنه وخطب الإمام عليه على المنبر خطبة عظيمة بأن ذكر علمه وحاله ونسبه وهو متصل نسبه (2) بالشيخ أحمد الرفاعي أفاض الله علينا من بركاته وجعلنا في زمرته وخرجت مع جنازته مع بعض
__________________
(1) في نسخة لا يفيد.
(2) كذا في جميع النسخ.
الطلبة فوقع الازدحام على نعشه أي سريره الذي حمل عليه حتى أن بعض الولاة أقام شواشا يدفعون عنه نعم لم يفيدوا شيئا فلما خرجنا إلى القرافة الصغرى لم نر جنازة ولا قبرا ولا قبره من كثرة الخلق فمن الجبل إلى مصر لا ترى موضعا خاليا يكاد من خرج لجنازته أن لا يحصى كثرة وانه لا يقع ذلك الجمع أصلا في بلد من البلدان فلو كان في غير مصر ما ظننت أن يتفق جمع مثله ولا عمارة تساويه ولا محلا يأويه نفعنا الله به وبأمثاله آمين.
وممن أخذت عليه المحقق المدقق الكامل ذو الفضائل والفواضل والحافظ الورع الزاهد المدرس صاحب الأنوار والعوارف والأسرار شيخنا سيدي أحمد الأشبيلي تلميذ الشيخ الحفناوي وهو ممن ظهر عليه آثار الفضل في ابتداء أمر الشيخ وقد اشتهر حاله في الحرمين الشريفين علما وحالا وسرا وقد كان من المحققين فقرأت عليه بعض مختصر السعد في البيان قراءة تحقيق ما رأيت مثله بتدقيق المسائل وتحريرها وفي آخر أمره كان ملتزما للحرم الشريف رضي الله عنه ونفعنا به.
وفي الحجة الأولى اجتمعت مع الولي الصالح والعالم الواضح فكان ديدنه وشأنه الهجرة للعلم من داره في الإسكندرية إذ كان ملازما لإعطاء العلم في الأزهر وكان فاضلا فقيها متكلما بيانيا مفسرا أصوليا نحويا لغويا أديبا حاصله قد جمع المعقول والمنقول والحقيقة والشريعة واعيا للمذاهب الشيخ الصباغ السكندري نفعنا الله ببركاته آمين بمنه وكرمه.
وكان ممن يحضر مجلسه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة يقظة وقد سمعت ذلك ممن سمع منه والذي سمعت منه هو الفاضل العدل الثقة المبرز في العدالة والعالم الفقيه المحدث المفسر صاحب المنقول والمعقول سيدي أحمد زروق نجل الشيخ المؤلف البركة سيدي أحمد بن الشيخ العنابي المتقدم ذكره قال غير أن
ذلك ارتفع عنه مدة وسبب ذلك أن بعض الناس من أصحاب الشرطة من الظلام جاء ليقرأ عليه ويحضر مجلسه فخطر لهذا الشيخ أعني الشيخ الصباغ كيف يحضر هذا من أصحاب الشرطة مجلسي والنبي صلى الله عليه وسلم فيه مع أصحابه أي استعظم ذلك فلما علم الجميع منه ذلك قام أبو بكر فقال له ألم تعلم أن هذا من أمته صلى الله عليه وسلم وتبعه عمر بأن قال قوله ثم عثمان كذلك ثم علي كذلك ثم محمد صلى الله عليه وسلم وقال بمقالة الجميع ثم قال الصباغ المذكور فصرت لا أراه صلى الله عليه وسلم إلا في النوم وأراه كما تراه الرعاة وقد كان أذن لي في الكلام معه وبعد هذا أن رأيته لا أتكلم معه.
يؤخذ من هذا أن العبد لا يحقر أحدا بين عينيه ولا يذمه بقلبه ولا يفر من مجالسته ولا من مخالطته إن جاء طالبا للخير كائنا من كان ولو كان ممن يجاهر بالمعاصي ولعله يكون بمخالطتك وحضوره معك تائبا راجعا إلى الله تائبا إليه نادما على ما صدر منه مقلعا فتكون سببا في صلاحه وقد قال صلى الله عليه وسلم ولئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم أو كما قال وأما ازدراؤه وغمصه بين عينيك أو التحاشي عنه بحيث لا يسمع منك كلاما من الخير أو تقول هذا لا يجالس مثلي ولا يكون في زمرة الأخيار تعظيما لجانبك أو جانب من كنت معه فكبر وبطر عن الحق فالذي يجب عليك أن تنقذه مما هو فيه بأن تداويه بالوعظ والزجر إن كان لا يفر (1) وإلا فباللين حتى يرجع عما هو عليه ومع ذلك أعتقد أنه أولى منك إذ من كان على شر أولى ممن كان على خير ويقول أنا فإن الطاعة لا تكون مع الكبر والعجب ورؤية العمل للنفس واستحسانها له والمعصية لا تكون معصية مع الذل للنفس وانكسار القلب من أجلها أي المعصية.
__________________
(1) في نسخة يفرق.
حاصله خواطر الحق بينة وخواطر الباطل ظاهرة مضلة فمن راعى خواطره رعي إذ لا يرعاها إلا سعيد ولا يهمل نفسه وخواطرها إلا شقي والعياذ بالله تعالى.
حاصله الشيخ الصباغ صبغة الله لخلقه ورحمة للعالمين في أرضه لا سيما الغرباء والضعفاء والفقراء فلا تجد أحدا في زمانه يرحم الأمة المحمدية مثله رضي الله عنه وقد كان رضي الله عنه أكثر زمانه في مصر مجردا عن أهله إذ أهله في الإسكندرية وهو في مصر يعلم الناس ليلا ونهارا وبركاته قد عمت الخلق جميعا فلا ترى نصوحا للأمة مثل وقد حلاه الله تعالى بحلية القبول فمن رآه أحبه وقد صدق عليه قوله تعالى سيجعل لهم الرحمن ودا.
وبالجملة فكل من أخذ عنه العلم أو الطريقة إلا ظهر عليه آثار الفضل وحلي بحلية العارفين ونعت بنعت الزاهدين وكان ممن يخشى الله ويتقيه نفعنا الله به وقد حضرت عليه دروسا في العلم ومع ذلك تعلقت به رضي الله عنه وأرضاه وان أخلاقه وخلقه أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وخلقه كان غير منقبض جدا ولا منبسط كذلك بل إلى البسط أرجح والبسط مقام محمود فلا يكون صاحبه إلا منتفعا به بخلاف صاحب القبض يقل نفعه في جانب الرحمة وإنما يغلب ضره وهلاكه فلا يصلح للمريدين والذي يصلح لأهل السلوك هو صاحب البسط أفاض الله علينا من بركاته وجعلنا من أهل زمرته بمنه وكرمه.
وممن أخذت عليه القراءات السبعية إفرادا الأستاذ المحقق والفاضل المدقق سيدي أبو القاسم الربعي (1) القسنطيني إذ قرأت سورة البقرة والفاتحة عليه وأظن أن الشيخ البغالي من أشياخ أشياخه وقد سمعنا انه قرأ على شمهورش الطيار وهو قد
__________________
(1) في نسخة الربيعي.
أخذ قراءته على النبي صلى الله عليه وسلم وهو من أهل الصلاح قطعا وقد أجازني أيضا نفعنا الله به.
وممن اجتمعت معه وصاحبته أيضا وهو من أهل الله حقا وكان عالما فاضلا صاحب حال ووج وشوق له كشف قوي وفتح إلهي ووارد صمداني وله كلام في الحقائق رائق وإذا ورد عليه كلام في الفتوحات تكلم به من غير كلفة ولا تعب وقد جعل كتابا عظيما في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على نهج دلائل الخيرات غير انه لا يكتب تآليفه إلا إذا وجدها في سره رضي الله عنه وهو الولي الصالح والعارف بالله الواضح سيدي الهاشمي المغربي إذ اجتمعت معه في الحجة الأولى وسبب معرفتي إياه أني وجدت رجلا فاضلا عليه سيمة طيبة يقرأ عند باب الجامع الأزهر وتعلق قلبي به فجلست عنده فوجدته يقرئ في ابن هشام أعني المحاذي على الألفية بشرح السيد خالد أعني التصريح وحاشية الشيخ يس عليه فما رأيت مثله في التحقيق وحسن العبارة نعم كلامه عليه حلاوة وطلاوة سيدي إبراهيم نجل الشيخ سيدي علي شعيب التونسي وقد اجتمع في هذه النخبة العلم والصلاح والعبادة والمجاهدة وقد قيل لي أنه غلب عليه القيام والصيام كأنه لم يبق لسواه فيه نصيب فقد كان كله لله رضي الله عنه ونفعنا به وان العلوم النقلية والعقلية طوع يده.
حاصله محاسنه لا تعد ولا تحصى ولا تضبط ولا تستقصى نعم كنت حينئذ أسرد الصوم وواصلت نحو ثلاثة أيام من غير أكل طعام إلا إذا أفطرت على الماء القراح فلما ورد علي اليوم الرابع تغيرت نفسي وتحركت طلبا للطعام فكنت في المجلس أتردد هل أزيد اليوم الرابع كذلك أو أذهب لرفقتي في بولاق لتحصيل الطعام معهم أو أبيت في الأزهر صبرا حاصله تشوقت نفسي للطعام وإلى تحصليه فلا ختم المجلس السيد إبراهيم المذكور تفرق أهل مجلسه فبقيت هناك والله اعلم ساعة زمانية
ثم قمت فدخلت المسجد وإذا بالفاضل المذكور سيدي الهاشمي واقف معي فأعطى لي نحو رطل من تمر معجون معه شيء من الرغيف حاصله أتاني بما يكفي الإنسان الجائع فقال من يتوكل على الله ويعتمد عليه لا يتحير في أمر العيش ولا ينتظر غير الله تعالى فتعجبت من كلامه واطلاعه على ما بنفسي وما رأيته قبل قط فكأنه حاضر في قلبي فعلمت أنه ولي من أولياء الله تعالى فرغبت في صحبته وإذا هو راغب مني فتعلق بي تعلقا كليا فأعلمت به الأخ في الله والمحب من أجله صاحب الكشف أيضا والصدق تحقيقا سيدي محمد الشريف البلغيثي الطرابلسي وابن عمي سيدي محمدا صالحا وتلميذي سيدي محمدا الجوادي فتلعق الجميع به ظاهرا وباطنا ثم أنه لم يفارقني إلى أن سافرنا إلى الحج فنفعنا الله به آمين.
ولما رجعنا من الحج وجدناه ينتظر جماعتنا خارج مصر ثم ذهب بنا إلى داره رغبة ومحبة وفرحا وسرورا فأقمنا عنده ثلاثة أيام ومع ذلك ما ترك أحدا منا يخرج من داره أصلا.
هذا وأني كنت لا آكل سمنا ولا لحما ولا أداما فإن رمت شيئا من ذلك خرج عقلي فلما وصلت داره فأتى بكل ما منعت منه فقال لي كل ولا تخف قلت خفت زوال عقلي إذا جربت نفسي في ذلك فقال لي كل فأنت مأمون من كل ما تخافه بإذن الله تعالى فأكلت وما صار لي شيء من ذلك بإذن الله تعالى فعلمت أن له حالا قويا مع الله تعالى ثم كان معنا كذلك إلى أن سافرنا إلى بلدنا نعم مرضت مرضا في مصر وأشرفت فيه على الموت وكنت حينئذ في الوكالة فيضيق علي الحال مع الوحشة إذ أصحابي ربما خرجوا وتركوني وحدي فحين يتقوى التوحش علي وإذا به وارد يؤنسني ويقول لي لا تخف فإن الله يعافيك أو كلاما هذا معناه.
والحاصل أن هذا السيد من أكابر الصالحين والعلماء العاملين فينبغي أن تشد
إليه الرحال نفعنا الله به وبأمثاله وأما من زرته مت الصالحين ، والعلماء العاملين ، فكالشيخ العارف بالله المبصر بنور الله وهو من الواصلين حقا ، ومن العارفين صدقا ، من له كشف تام ، ونفع عام ، الشيخ كشك (1)
(2) فإنه رضي الله عنه يحكى عنه انه ما دخل أحد مصر من أهل الله غالبا إلا سلبه وكان له التصرف التام وقد أخذني حال غيبتي عن إحساسي أظنه خارج مصر غير أن المواهب تجري على لساني فضبط مني أصحابي كلاما على هذا الشيخ وأنا غير مستحضر له غير أني ذكرت كلاما على طريق النظم في شأنه والآن طال عهدي به أو على غيره والله أعلم.
ثم إن تلك الورقة التي فيها ذلك الكلام حملها سيدي محمد الشريف المذكور معه بحيث لم يرها أحد فلما اجتمعنا معه رضي الله عنه قال له مد لي تلك الورقة فتعجبنا منه ودعا لنا من قريحة قلب وعزيمة همة فعلمنا أننا قد نلنا منه ما لا يحصى كثرة وأنا زرنا في مصر أولياء وصلحاء قد تعذر علينا ضبط أسمائهم لغلبة النسيان على البشر أفاض الله علينا من فضلهم وجودهم وإحسانهم.
وممن اجتمعت معه أيضا في هذه الحجة المنور على الإطلاق ، والولي العارف بالاتفاق ، صاحب الجذب الإلهي ، والحال الناهي ، والوجد الزاهي ، العالم بالحقائق ، والراسخ بالدقائق ، المنفق من الفتح ، من قد جبل على الصفح ، أنوار معارفه مشرقة ، ولوائح أسراره رائقة ، فقد توقى في أوقاته ، وتشكل روحانيا في سماواته ، فكاد أن يكون من عالم الأمر لطافة ، فغالبه بشر وقلبه ملك ف الخلافة ، أن امتحنته وجدته لم يرق أحد مرقاه ، ولا سلك شخص مسلكه وحيدا في مثواه ، أن تكلم أغرب ، وأن أفصح أعرب ، جدير بما يقول ، وعندي هو أكثر ما نقول ، الشيخ محمود الكردي نفعنا الله به وبأمثاله وقد اعتقدنا فيه أكثر مما نقول لأن ما خامر القلوب فعلى الوجه
__________________
(1) كذا في جميع النسخ ولعله كوجك أو كوجوك.
(1) كذا في جميع النسخ ولعله كوجك أو كوجوك.
تلوح أثارة والأسرة تدل على السريرة وما كان فيك ظهر على فيك.
وقد سمعنا الأخ في الله سيدي محمدا الشريف يذكر عنه أمورا يكاد أن يكون صاحب وقت إذ لا غرابة في صدور مثلها من مثله.
حاصله لا يخفى عليه شيء في الكون وله اسراءآت بروحه متعددة كثيرة ومجاهدات عظيمة يكاد العقل أن يحليها منها ما سمعت انه مكث أربعة عشر عاما ما شرب ماء.
حاصله مجاهدته قوية عظيمة وتتبعها كثير نعم لما اجتمعنا معه أخذ بمجامع قلبي وكلامه كله طب نبوي وترياق مجرب ولو ساعدنا الحال ما فارقناه طرفة عين لأنه كنز لا يفنى والله اعلم انه ممن يقلب الأعيان فعند مجالسته تزول الهموم والغموم وقد حصلت فيه علامة الولاية وهو انه إذا رأيته تذكرت الله تعالى وانه أيضا لا يفتر عن ذكر الله تعالى ومن أعطي الذكر فقد أعطي منشور الولاية ومن سلب شيئا من الذكر فقد عزل عنها ولا تسمع من يعترض على مثله من أهل زمانه فإن ذلك شقاوة والعياذ بالله تعالى فقد جمع وأوعى ولا غرابة في كون التلميذ أعظم من شيخه إذ شيخه الشيخ الحفناوي كما سبق في الشيخ زروق مع سيدي أحمد بن يوسف.
حاصله أن الشيخ المذكور بلغ الغاية في الترقي والمجاهدة رضي الله عنه وأرضاه ولا جعله آخر عهد بيننا وبينه آمين ليتم ما أردناه.
وممن اجتمعنا معه أيضا وزرناه من لاح نوره ، واشتهر أمره ، وارتفع صيته ، العالم الفاضل ، المحقق الكامل ، العبقري الحافل ، الذي هو البحر من غير ساحل ، من رآه تحقق صلاحه وولايته بلا ناقل ، الشيخ الجوهري نعم أهل مصر اتفقت كلمتهم على انه ولي من أولياء الله تعالى وما حصل من الجود من الله عليهم ، والفضل
لديهم ، إنما هو لوجود مثله وكفى به علما وعملا وخشية وإتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم واقتفاء آثاره عليه الصلاة والسلام وقدوة للأمة المحمدية نفعنا الله به وبأمثاله آمين وأظن أنه ممن لا يشقى جليسه نعم أنوار الولاية تلوح على وجهه من غير شك فهو محقق الفلاح والنجاح فلا تجد أحدا يسوء ظنه فيه بل قد حلاه الله بحلية القبول وكذا أطلق السنة الخلق بالثناء عليه عموما والسنة الخلق أقلام الحق متع الله المسلمين بطول حياته وجعل البركة في أيامه وأفاض علينا من بحر أنواره بمنه وكرمه.
وممن اجتمعت معه وزرته مرارا الشيخ الصالح ، والولي الواضح ، الشيخ الغرياني نفعنا الله به وبأمثاله وهو ممن ظهر عليه الفضل والخير والناس أفواجا في مصر تتبعه تقتبس الأنوار والفتح منه وتتوسل بجاهه وقد اشتهر عند أهل مصر أيضا أنه هو الحارس للركب فإن أهل الخير جعلوه رقيبا عليه ومأمونا من أجله فلا يقع مكروه به لوجهه والظن منا به كذلك نفعنا الله به وبأمثاله رضي الله عنه وأرضاه ورزقنا العافية في الدنيا والآخرة مع كفاية همهما بمنه وكرمه.
هذا وأن مصر قد حشيت بأولياء الله وأنهم فيها كالنجوم في السماء فالمستور فيها أكثر من الظاهر إذ الخامل فيها أكثر من أن يحصى والغالب أن أسواقها لا تخلو منهم فمن أزيل عنه الحجاب رآهم عيانا.
وبالجملة فأحوالهم كمثل بحر ووجودهم كثير فهم ينبتون فيها دائما لا تنقطع آثارهم ، ولا تغيب شموسهم وأقمارهم ، فعلى من دخل مصر أن يجعل معتمده عليهم فإن بحث عنهم وجدهم لا سيما أن كان بصدق الطلب فوطن مصر ليس كغيره رضي الله عن أولياء الله أين كانوا ونفعنا الله بهم وجعلنا في زمرتهم آمين.
وممن اجتمعت معه في مصر أيضا الفاضل المحصل ، والعالم المؤمل ، الفقيه المفسر ، المحدث المخبر ، المنطقي الكلامي ، المؤرخ الأصلي البياني ، المرتقي أعلى رتب التدقيق الجامع بين الحقيقة والشريعة الشيخ المنور التلمساني ، تلميذ الشيخ القطب الرباني ، والعارف الصمداني ، سيدي أحمد الحبيب الفيلالي نفعنا الله بجميعهم آمين وقد كان يقرئ الكبرى في رواق المغاربة واجتمع عليه خلق كثير من مصر ومن المجاورين وغيرهم غير أن الغالب منهم مقصودهم البركة ومعه التحقيق من غير شك.
وكان الشيخ العمروسي يحضر درسه ومع ذلك أنه شرح خليلا وكان الشيخ خليل المغربي (1) قد وقع بينه وبين الشيخ نزاع في بعض المسائل في الكبرى في كلام الشيخ السنوسي فلما طال نزاعهما وقد ظهر لنا ما ظهر للشيخ خليل قلت الحق مع الشيخ خليل فلما خرجنا قال لي والله لقد أساءني نصرك للشيخ المذكور فأجبته بما هو حاصله أن الحق أحق أن يتبع وما ذكره هو الحق والله تعالى اعلم فلما علم الشيخ خليل منه ذلك انقطع عن مجلسه وقبل ذلك أوردت عليه مسائل من العلوم منها في البيان على من يقول في قولهم أنبت الربيع البقل انه استعارة بالكناية أي شبه الربيع بالفاعل الحقيقي الذي هو الله تعالى في كونه منبتا فحذف المشبه به وهو الله وأثبت له شيئا من لوازم المشبه به وهو الإنبات لأنه من فعل الله تعالى فالحق أن يسند إليه ثم أن الربيع فاعل حقيقي ادعاء ومبالغة في التشبيه أي فرد من أفراد الفاعل الحقيقي ثم استعير الربيع للخالق الذي هو الله تعالى بأن جعل اسما من أسمائه على مذهب السكاكي إلخ فقلت له يلزم من ذلك أن يكون اسما من أسماء الله تعالى وأسماء اله توقيفية فلا يجوز إطلاقه عليه بناء على ذلك القول لأنه تصرف في الذات ولا
__________________
(1) في نسخة الأزهري.
يتصرف فيها إلا الله تعالى وكذا على القول الأخر لأنه لفظ يوهم النقص فلا يجوز أيضا فتحير في الجواب بعد جهد جهيد في الوصول إلى الإشكال فضلا عن الجواب على أن الادعاء في الاستعارة كاف في انفكاكه.
قلت هب على انه كذلك فلا يسمن ولا يغني من جوع لأن الكلام في إطلاقه على ذاته وهو حاصل قطعا على هذا المذهب لأن المستعار هو الربيع فيكون إطلاقا على الذات من غير شك وأما على القول بأن المستعار هو الفاعل الحقيقي والمستعار له هو الربيع فلا يلزم فيه شيء كما علمت ويظهر لك من قولهم أنشبت المنية أظفارها قيل أن المنية استعير لها السبع إلخ أو أنها فرد من أفراد السبع ثم استعير اسم المنية له على ما اشتهر بينهم وعليهما فانبت الربيع البقل على كونه استعارة بالكناية وأما على القول بأنه من المجاز في الإسناد فلا يلزم فيه شيء أصلا فلم يأت بجواب رأسا.
أقول فيه والله اعلم أن التحقيق في الجواب هو أن ذلك الإطلاق ليس المقصود منه التسمية لله تعالى باسم الربيع وإنما المقصود التشبيه لأن الاستعارة مبنية عليه وإن كانت تباين التشبيه في الاستعمال والله تعالى اعلم.
ومنها أني أوردت عليه أيضا من علم الكلام مسائل عديدة فلم يفصح عن جميعها بجواب وأن أجاب عن البعض فلا يسلم من أمور ترده.
حاصله أن الأسئلة باقية إلى الآن فالسؤال الأول العلم بالوقوع تابع للوقوع ولو كان الوقوع تابعا له لدار كما ذكره الشيخ السنوسي في الوسطى فسألته عن بيان الدور وعن معنى هذا الكلام فوجدته كأنه ما سمعه قط فلم يتعب نفسه في شيء أصلا فلما علمت منه ذلك تبين لي أنه لا خبرة له به رأسا والكلام فيه معلوم وإنما اختلفت عبارة الجميع في تفسيره وبيان معناه وإلا فهو كنار على علم إلا أن التحقيق
أن العلم بقدوم زيد يوم الخميس تابع لقدومه بالفعل ولو كان القدوم بالفعل تابعا للعلم بالقدوم لدار وهو محال لأن القدوم بمنزلة التصور والعلم به كالتصديق وقد علمت أن التصديق تابع للتصور ولو كان التصور تابعا له لدار وهذا معناه والله اعلم ذكره بعض أفاضل المحققين وقال بعضهم إرادة قدوم زيد كما سبق متبوع والعلم بقدومه تابع لإرادة قدومهم ولو كان العكس لدار نعم العلم بالأشياء [كلها سابق تعلقا على إرادتها وأما العلم بوقوع شيء فهو](1) مسبوق بإرادة وقوعه وغير ذلك أنظر القاضي زكرياء على الرسالة القيشرية.
والسؤال الثاني في أن البصر في حقنا يتعدد بتعدد المبصرات فما لم تره فلمانع قام بالعين فلزم عليه أن الجزء الواحد قامت به أبصار وموانع وهي أضداد يستحيل اجتماعها في محل واحد فلم يتفق له الجواب أيضا كأنه رضي الله عنه وان حصل له العلم تحقيقا فقد طال عليه العهد برؤية الكتب لما علمنا من حاله انه ذهب للسيد الشيخ المعلوم ذي الطريقة المشهورة والأنوار الظاهرة والكرامات الحاضرة والأحوال الباهرة وكيف لا وهو من ذرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقد سرت (2) فيه روحانيته صلى الله عليه وسلم فاشتغل عنده بالأسماء وخواصها حتى نسي العلم وقد مكث عنده مدة طويلة أكثر من عشر سنين فأثر فيه ذلك النسيان.
أقول في الجواب أن الموانع والأبصار وإن كانت متضادة بحسب المعنى غير أن ما تعلق به البصر غير ما تعلق به المانع فلا تضاد ذكر هذا الجواب بعض المحققين من الأفاضل.
فإن قلت إنما يتم لو تعدد المحل فلما كان المحل واحدا وقام فيها المتضادات
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسختين.
(2) في ثلاث نسخ سارت.
امتنع لأن المانع مضاد لأصل البصر وضد المثل ضد.
قلت نعم غير أنه إنما يلزم في غير المتعلق كالألوان والأكوان لأن اللون إذا قام بمحل منع قيام ضده به فإن قام السواد مثلا بمحل واحد منع قيام البياض به وأما قيام بصر زيد في جزء من محل عين عمرو فلا يمنع من قيام مانع بصر بكر فيجتمع المانع والبصر في محل واحد غير أنهما مختلفان تعلقا كما ترى وهذا كلما مررت بهذا المحل إلا خطر لي هذا الإشكال في صميم القلب فادفعه بما سبق من الجواب غير أن في القلب منه ما ذكرنا فتأمله منصفا والله اعلم.
والسؤال الثالث والرابع بالنسبة لعلم الكلام في تعلق علم الله بالمحال هل تعلق به تصورا أو تصديقا وهو سؤال قوي فقد زلت فيه الأفاضل والفحول فلم يفصح لي بالجواب أيضا نعم تعل علم الله بنفي الشريك وشبهه من كل محال وإنما الخوض في علمنا الذي يتعلق تصورا وتصديقا وأما علم الله فمنزه عن ذلك وان بقي فيه نوع خبط (1) غير انه خوض في ما لا يليق به تعالى إذ أكثر من هذا مستحيل عليه تعالى.
والسؤال الخامس في قول السيد الخرشي في شرح خطبة خليل وحمد المؤلف العام وشكره الخاص في مقابلة قول البراذعي على ما خص وعم من نعمه فما للبراذعي ترق وما للمؤلف محتمل له وللتدلي فقال في تقرير ذلك ونسبه لابن مرزوق أن الأصوليين اختلفوا هل الخاص أفضل أو العام في ذلك قولان فإذا بنينا على أن العام أفضل فقول البراذعي ترق لأنه بدا بالخاص ثم العام وأما قول خليل فيحتمل القولين فإذا كان العام أفضل فهو تدل وإن كان العكس فترق.
قلت هذا منقوض لأن البراذعي كخليل أي عبارتهما معا تحتمل القولين فلا
__________________
(1) في نسخة خطب.
فرق بينهما والتفريق بينهما تفريق بلا مفرق وهو من التحكم قطعا.
حاصله قد اتحد نسبة القولين إلى كلام الإمامين أي نسبة واحدة فلما ذاق هذا وحققه سلم الإيراد لم يفهم وجه الترقي والتدلي.
فقلت له ولمن حضر من العلماء في الجواب أن الترقي في كلام البراذعي انه بدا بالأخص إذ هو أقل إفرادا ثم العام إذ هو أكثر فهو ما تزايد من النعم يحتمل أن يكون على الحامد نفسه فيقدر حمدا يوافي ما تزايد علي وفي قوله والشكر له على ما أولانا من الفضل إلخ النون للتشريك أي علي وعلى غيري فيكون عاما.
حاصله أن الحمد خاص كما سبق والشكر عام فهو ترق فكأنه قال يوافي ما تزايد علي والشكر على ما أعطاني أي لي ولغيري فيكون ترقيا كما للبراذعي أو يكون تدليا وهو الظاهر فإن حمد المؤلف عام أي يوافي ما تزايد من النعم علي وعلى غيري وشكره خاص فبدا بالعام ثم الخاص وقد تقرر أن العام أكثر إفرادا من الخاص فهو تدل قطعا وبالجملة فكلام خليل يحتمل التدلي والترقي غير أن التدلي فيه أظهر.
فإن قلت قول الخرشي وحمد المؤلف العام وشكره الخاص إلخ مناف لهذا التقرير لكونه جزم بقوله وحمد المؤلف فما هذا منك إلا شبه تناف لكلام خليل.
قلت ولا منافاة إن شاء الله تعالى لأن جزمه بذلك على الظاهر من الاحتمال ما سبق فتأمله منصفا وقد جعلت في رسالة على نحو ما سبق فاستحسن الجواب كل من حضر المجلس وهذا الذي قررت شيء فتح الله به علي في هذا المقام إذ كل من يمر به يستهوله ويستصعبه وإنهم لا ينفصلون عنه كبير انفصال.
وقد أوردنا هذا الكلام على الوالد رحمه الله لأنه افقه زمانه وما رأيت مثله في
الفقه إذ انه في التحقيق بمكان فاستصعبه غاية ولما سمع بما فتح الله به علي شكر الله على ذلك وفرح بسببه فرحا عظيما.
والسؤال السادس في النحو وهو قولنا في قول ابن مالك :
وصالحا
لبدلية يرى |
|
في
غير نحو يا غلام يعمرا |
ونحو
بشر تابع البكرّي |
|
وليس
أن يبدل بالمرضي |
أما بشر تابع للبكري فهو ظاهر المنع لأن البدل على نية تكرار العامل ولا تصح هنا لأن المحلى بالألف واللام لا يضاف إلا لما هو كذلك وهنا ليس كذلك وأما يعمر بالنصب فأعرابه عطف بيان صحيح لكونه تابعا للمنادي المضموم لفظا المنصوب محلا فنصب وأما إعرابه بدلا فلا يصح لأنه على نية تكرار العامل والعامل هنا ياء النداء كأنه قال وذلك قول الشاعر [وهو المرار الاسدي]
أنا
ابن التارك البكري بشر |
|
عليه
الطير ترقبه وقوعا |
يا غلام يا يعمر فيضم مع أنه لم يقع مضموما غير أن هذا لا يظهر كونه علة للمنع وأما المثال الأول فقد ظهر فيه علة المنع وأما المثال الثاني فليس له علة للمنع غايته مخالفة ما نطق به المتكلم وذلك ليس بمنع فليس من باب القراءة لأن القراءة سنة متبعة فيصح حينئذ عطف البيان فيه وكذلك البدل أيضا فلا تأثير لمتابعة ما نطق به المتكلم من النصب فيجوز حينئذ اعتبار الوجهين قطعا البدلية وعطف البيان فتأمله منصفا.
وقد استخبرت عليه أناسا غربا وشرقا فلا أجد أحدا يقول غير ما ذكرناه من وقوع النطق به منصوبا وإنما اسأل الناس هل أجد أحدا منهم حفظ هذا اللفظ وهو يا غلام يعمر من الشعر وانه وقع بالنصب رعيا للقافية إذ لو ضم لخالف الحرف
الروي في القصيدة لأنها منصوبة فلو ضم لوقع فيه المخالفة المذكورة.
أقول جميع من شرح الألفية لم ينبه على هذا السؤال ولا على الجواب نعم أنا أظن أنها من قصيدة شعر رويها منصوب فلو ضم على البدلية لأنه على نية تكرار العامل لوقع الخلف فيها غير أني لم أطلع على انه من الشعر فانظر رحمك الله لعلك تطلع عليه في ديوان الشعراء فيزول اللبس فيما وقع فيه الكبس من سائر الطلبة المسئولين عنه انتهى.
والسؤال السابع عن الكيمياء أي عن الأكسير فقال أمره إذ قال أنه مستور بشعرة فعلمت من كلامه أنه يعرفه وأشار لي أيضا ببيانه فتغافلت عنه ظنا مني انه لا يعرفه.
والسؤال الثامن سألته ومن حضر عما نقله الشيخ إبراهيم الشبرخيتي في شرحه لخليل في باب الجنائز من أن الموت عرض قائم بيد ملك فمن مسه بها مات وهو انه عرض والعرض إذا قام بمحل أوجب الحكم لمن قام به لا لغير من قام به وهنا أوجب الموت لغير من قام به وأما من قام به فلم يمت وهي اليد التي قام بها والقضية العقلية (1) يستحيل تبديلها عقلا فلن ترتفع فتحير الكل في الجواب.
نعم فلا جواب عنه على مقتضى القواعد العقلية غير أن المعتزلة خالفوا في هذه القضية وأمثالها لكنه لا يكون جوابا فإذا علمت هذا علمت أن كون الموت في مخلوق عند المس باليد التي قام بها الموت ليس من إعطاء الصفة الحكم لغير من قامت به بل أن الله أجرى عادته أن يخلق الموت في الحي عند ذلك المس فيخلق عنده لا انه (2)
__________________
(1) في نسخة النقلية.
(2) في نسخة لأنه.
أوجبه وصف الموت القائم بتلك اليد ولا أنه به فالحاصل أنه يخلق عنده لا به ولا أنه موجب الحكم المذكور إلخ وأما اتصاف اليد بالموت فلا مانع منه أيضا أن قام به الموت حقيقة.
فنقول أنها ميتة وتلتزم ذلك على قواعد العقل ومع ذلك متحركة حركة اضطرارية فإن الميت يتحرك بتحريك من غيره إياه.
حاصله أن اليد وإن ماتت فلا مانع من أن يحركها الله بمحرك كما يتحرك الميت بغيره تحرت خرق عادة لأن الحياة ليست شرطا عقليا في الألوان والأكوان والحركة وإنما الحياة شرط عقلي في الإدراك لا غير وقد توقف في هذا السؤال جميع من رأيناه ولقيناه من أكابر العلماء غربا وشرقا نعم وقد من الله علي بالفتح في هذا المقام الذي يستهوله ويستصعبه ويقول بإحالته كل من سمعه أو مر عليه فلا تستحقر فان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وممن توفق في هذا السؤال أيضا الشيخ علي الصعيدي وغيره انتهى.
والسؤال التاسع قد سألته عن التناقض الذي بين المذاهب لأن النبي واحد والملة واحدة ومع ذلك تناقضت الأحكام وتضادت والقائل بها في الواقع واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم والواحد مثلا لا يقول في صلاة واحدة باطلة صحيحة كيف وأن مالكا يقول بأن الصلاة التي بسمل المصلي في أول الفاتحة مكروهة وان تركها أولى ويلزم من ذلك صحة صلاة تاركها قطعا وإما الإمام الشافعي فيقول ببطلانها أن تركت لأنها آية من الفاتحة ومن ترك آية عمدا بطلت صلاته ومذهب مالك أنها ليست آية من الفاتحة فيا عجبا كيف تكون الصلاة في دين واحدة باطلة غير باطلة هذا على من يقول أن المذاهب كلها على الحق في الواقع إذ قال الإمام الشعراني يجب على كل مسلم أن يعتقد أن الأئمة الأربعة كلهم على
الإصابة في نفس الأمر فيلزم أن بطلانها وصحتها حق وهو باطل لما علمت من أن اجتماع النقيضين محال وأما من يقول أن الإصابة بحسب ظن المتجهد فلا كلام أو أن حكم الله هو ظن المجتهد في حقه وحق مقلده فلا قدح أيضا وإن المصيب واحد غير أن الله لم يكلفنا بتعيينه فلم يبق إلا ثوب التناقض فيما إذا حملت الإصابة لكل في نفس الأمر ولذا قال الإمام المذكور حصلت لي وقفة منذ أزمنة متطاولة في مثل هذا التناقض إلى أن دخلت الخلوة ففتح الله علي بأن بعض الأئمة شدد وبعضهم رخص إلخ ما ذكره.
وهذا الجواب لا يغني شيئا لأن مالكا قد كرهها مطلقا وذلك ليس لمقلده فقط والشافعي أوجبها على كل مصل باجتهاده إلخ.
فلما ذكرت ذلك بحضرة شيخنا الشيخ العفيفي وجماعة من العلماء فمنهم من فهم السؤال وصار ينظر في الجواب عنه ومنهم من لم يصل إلى السؤال فضلا عن أن يجيب والشيخ المذكور فهم السؤال وأنكر وجود قولة بإصابة الجميع في نفس الأمر للأصوليين.
نعم قلت قد كان ذلك في المحلي فلما أتوا بنسخة منه وجدناه كذلك وأنكروا ما ذكره الشعراني بأن قالوا لم يذكره فإذا بشيخنا العفيفي قد أخرج كتابه فأصبناه كذلك أيضا فبعد ذلك سلم الكل الإيراد إلا الفاضل سيدي أحمد بن عمار مفتي الجزائر قد أنكر وصادر عن المطلوب غير انه لم يقصد عنادا وبعد ذلك سلم رضي الله عنه وعن الجميع آمين.
ولا غرابة أن يمن الله على بعض الناس بالجواب وقد من الله علينا بالجواب بما هو حاصله أن ترك البسملة في الصلاة مبطل على مذهب الشافعي وغير مبطل عند
مالك وذلك تناقض قطعا نعم الإصابة بحسب الثواب ونفي العقاب إذ كل من المذاهب مصيب في نفس الأمر بحسب الثواب في صحة العبادة على من يقول بها وعدم العقاب على من يقول ببطلانها وفسادها وأما في الواقع عند الله فأما صحيحة أو فاسدة لاستحالة الجمع بين صحتها وفسادها في علم الله وإنما يصح ويثبت في علمه تعالى أحد المذهبين فقط لما علمت من عدم اجتماع النقيضين فحينئذ فترك البسملة في الصلاة أما أن يوجب خللا عند الله في الواقع كما هو مذهب الشافعي أو لا يوجبه كما هو مذهب مالك فالحق في الإصابة في علم الله أحدهما دون الآخر وأما بالنسبة للثواب وعدم العقاب فكلاهما صحيحان يعتد بهما في ظاهر الشرع لأن مالكا يرى أن البسملة ليست آية من الفاتحة ولذا قال تركها لا يوجب خللا بل التلبس بها مكروه لما فيها من التلبس في قراءتها في أول الفاتحة وإيهام أنها منها وهي ليست كذلك لأدلة عنده قولية وفعلية من أهل المدينة لأنه يقدم عمل أهل المدينة وذلك قاعدة من قواعده ولذا جزم بأنها ليست من الفاتحة فإذا كل كذلك عند الله فالحق معه ظاهرا وباطنا وإلا فيحصل الثواب من تلك الصلاة المتروك فيها البسملة وإن كانت في علم الله فاسدة فإصابته حينئذ بحسب الثواب عليها وعدم العقاب على ترك البسملة وإن كانت فاسدة بسببها تركها في علم الله تعالى.
حاصله أن مالكا مصيب فيما أما بحسب علم الله وغيره وأما مصيب في الثواب عنها وعدم العقاب على تحمل المفسد في على الله تعالى وهذا معنى إصابته.
وبالجملة فهو مصيب قطعا في صحة الصلاة ثوابها وأما مصيب في الثواب وعدم العقاب فقط وإن كانت فاسدة في علم الله تعالى وهذا معنى الإصابة في كل مذهب وذلك مطلقا أي في العمليات والعبادات وعلى هذا تحمل الإصابة في نفس الأمر وإلا فالتناقض ظاهرين لا ينكره عاقل فضلا عن عالم وكذا مذهب الشافعي
في حمل الإصابة فيما يناقض غيره من المذاهب فإذا قلنا بفساد الصلاة عنده بترك البسملة أما عند الله تعالى فتكون فاسدة ظاهرا وباطنا وإما أن تكون فاسدة بحسب رأيه واجتهاده بالأدلة الواردة في ذلك أي بأنها آية من الفاتحة فيكون حينئذ أما مصيبا في نفس الأمر وفي الظاهر فقط.
وحاصله أن إصابته أما بحسب علم الله أنها فاسدة بتركها أو بحسب الظاهر من الأدلة فيكون مصيبا قطعا غير انه إن كان مصيبا في فسادها بحسب علم الله فيكون مالك مخطئا بحسب صحتها غير انه مصيب بحسب الثواب وعدم العقاب وأما أن يكون مالك هو المصيب في صحتها بتركها في علم الله تعالى فيكون الشافعي مخطئا في فسادها بحسب علم الله وإنما يكون مصيبا في فسادها بحسب الظاهر من الأدلة ويكون حال من ينتمي إليه يعاقب ولا يثاب عليها أيضا لمخالفته ما دل عليه الحديث أنها آية من الفاتحة ومن تعمد ترك آية منها عوقب وآثم.
فإن قلت قد اجتمع الثواب والعقاب في صلاة واحدة لأنك حملت الإصابة على ذلك قررت منه من اجتماع النقيضين وقعت فيه فهو مشترك الإلزام قطعا.
قلت السؤال قوي غير أن لطف الله موجود وكرمه معهود وفتحه ممدود فلا منع أن يجعل الحق حيث شاء.
أقول وعلى الله اعتمدت أن الصلاة إذا كانت صحيحة عند الله مع ترك البسملة فالفساد حينئذ ليس إلا في الظاهر ومخالفة الظاهر ضعيفة لا سيما مع عدم التعيين فيه فلا أقل أن يكون مع ما عند الشافعي من الحكم بفسادها بحسب الظاهر من الأدلة من أنها آية من الفاتحة غير مجزوم به ولا مقطوع به أصلا لا سيما على ما تقدم أن صحتها هو الواقع في علم الله تعالى فيكون بطلان الصلاة بتركها أمرا خفيفا لما لم
يكن في علم الله تعالى فخف أمره وتيسر حاله فكأنه معفو عنه فالالتفات إليه التفات إلى حال الأدلة واعتبار لقواعد اجتهاده فيصير العقاب والفساد أمرا عارضا غير موثوق به إذ المعتبر ما عند الله من الصحة فيها بتركها فيكون الشافعي مصيبا بحسب الأدلة أنها آية من القرآن أي آية من كل سورة فيلزم أن تكون آية من الفاتحة فعلى من اجتهد ولاحظ أنها آية من الفاتحة من غير أن يعتريه شك في ذلك بأن كان عنده ظن قوي بأنها آية من القرآن ففساد الصلاة بتركها ظاهر وهو مصيب من هذه الحيثية ومعاقبا على تركها عقاب أقله توبيخ وتفريع على مخالفة الشافعي في ظنه أنها آية من الفاتحة إذ المعتمد على مذهبه لا بد أن يعمل به وإلا عوقب عليه لأن العمل بمقتضى المذهبين تناقض والإصابة فيهما مستحلية إذ لا يمكن الجمع بين النقيضين.
وبالجملة فالإصابة على المذهبين هو أن لا مؤاخذة على كل من عمل بهما وعلى هذا تحمل الإصابة في نفس الأمر ولا شك أن كل مجتهد في المظنونات بشروط الاجتهاد غير مؤاخذ في نفس الأمر وكذا مقلده وأن أخطأ بحسب علم الله تعالى بخلاف المجتهد في الاعتقاد فلا بد أن يكون مصيبا في نفس الأمر وإلا عوقب هو ومقلده لأن الناس مكلفون فيها بالعلم واليقين ولا يصح فيها الظن القوي ولذا كان المصيب في العقائد واحدا لأن العلم له وجه واحد والمطلوب فيها العلم بالاحتمال فإذا علمت هذا علمت صحبة إصابة كل مجتهد في الفقه في نفس الأمر بحسب عدم المؤاخذة فيه عند الله تعالى فمن صلى حينئذ بغير بسملة كما هو مذهب مالك لا مؤاخذة وكذا على مذهب الشافعي أن يسلم وظن أنها آية من الفاتحة نعم كذا كل مذهب في الفقه.
حاصله أن التناقض الواقع بحسب المذاهب الفقهية إن كانت مدونة ومقتفية مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة يجب أن يحمل كل رأي منهم على الإصابة في
نفس الأمر بمعنى أن من عمل بمقتضاها غير مؤاخذ شرعا وإن كان المصيب في علم الله وأحدا إذ لا يمكن الإطلاع عليه إلا بالوحي أو الأدلة العقلية وقد تعذر ذلك أما الوحي فقد انقطع به صلى الله عليه وسلم وكذا الأدلة العقلية لأن هذه الأحكام نقلية ولا مجال للعقول فيها فإن كان كذلك فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها وترجيح المصيب من المجتهدين فيها تحكم نعم يصح فيما ظهر فيه المدرك أو كثرة القائل نعم فلا يكون ذلك دليلا على انه في علم الله تجب الفتوى بالراجح والعمل به وأما في العمليات فالمصيب فيها واحد والعمل بما في علم الله انه الحق واجب والبحث على ذلك بالأدلة العقلية لازم متحتم والمعتقد على خلافه مأثوم أو كافر وأن اجتهد بإمكان التوصل إلى ما في علم الله من المعتقد الصحيح بالأدلة العقلية.
فظهر ذلك أن المصيب فيها بحسب المؤاخذة واحد بخلاف المجتهد في المظنونات صح أن يكون كل مصيبا بحسب عدم المؤاخذة هذا وهو التحقيق في الجواب والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.
ولتعلم أن الله قد من علي بفتح منه وإلا فهذا المحل يستهوله كل من مر عليه ويستصعبه فلا ينفصلون عنه إلا على بطلان القول بالإصابة في نفس الأمر وإنما الإصابة بحسب ظن المجتهد وان ظنه هو حكم الله في حقه وحق مقلده كما هو تحقيق في فن الأصول والإصابة لكل فلا لما علمت من التناقض والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان غير أنك قد سمعت الجواب عنه الله هو الفتاح العليم.
والسؤال العاشر والله اعلم هو برهان القطع والتطبيق إنما يستحيل في الحوادث دون القديم إذ قولهم ما دخل في الوجود متناه وذلك والله اعلم في القديم والحادث وأظن أن المحقق ابن التلمساني في شرح المعالم قال أدلة ذلك أي إحالة التسلسل في الحوادث خالص بها لتوقف وجود بعضها على وجود بعض قبلها وأما القديم فلا
لعدم السبقية فيه ولهذا قال ابن التلمساني المذكور وتبعه المحقق المراكشي في حاشيته على الصغرى وكذا اليوسي في حاشيته على الكبرى أن كمالاته تعالى لا نهاية لها بحسب الواقع وإنها صفات موجودة قائمة بذاته غير متناهية ودعوى الإجماع أن كل ما دخل في الوجود قديما أو حادثا متناه منقوض بمذهب الإمام الصعلوكي في قوله أن علمه تعالى يتعدد بتعدد المعلومات ومعلوماته غير متناهية لأن الإجماع لا ينعقد بدونه إلخ ما ذكره الشيخ اليوسي فظهر لك أن الأدلة العقلية غير جارية فيه وكذا الإجماع لما ذكر الصعلوكي وكذا ابن الحاجب في تعدد القدرة سلمنا الإجماع غير انه دليل ظني.
قلت سلمنا ذلك غير أن عدم إحالته ممنوع وسند المنع أن أمر الكمالات عدد وكل عدد أما أن يكون زوجا أو فردا أو غير زوج ولا فرد أو زوجا فردا وكل ذلك لا يصح لأنه أن كان زوجا أو فردا فهو متناه وأما غير زوج ولا فرد فمستحيل وكذا زوجا فردا فمستحيل أيضا فإذا علمت هذا علمت استحالته في القديم أيضا وإن كان هذا الجواب أفحاميا إذ أكثر أدلة الكلام أفحامية أو اقناعية.
نعم حصول الفائدة للناظر من هذه الأبحاث إشكالا وجوابا ظاهرا للمعتني بالعلم والراغب فيه وإما غير فضائع فيه كتعليق وعاء فيه مسك للحمار أو نثر الجواهر للدجاج.
وبالجملة فأمر مصر وحالها من يوم عمارتها إلى الآن أمر غريب وعجائبها في العلوم والمعارف والعوارف والولاية لا تحصى وغرائبها كادت أن لا تستقصى فمن اختبرها وعاين بعض أحوالها حصل له اليقين الخاص والعبرة العظيمة.
ومن عجائبها في كل شيء أنك إذا رأيت شيئا عظيما ثم رأيت شيئا أعظم منه
نسيت الأول ثم كذلك إلى هلم جرا.
نعم أحوال مصر داخل المدينة وخارجها كافية في الاعتبار إذ في أهلها وأسواقها ودكاكينها وأزقتها وديارها ووكلاتها قهواتها ومساجدها ومدارسها وعجائب قرائها وعلمائها وصلحائها وطلبتها وفقرائها وظلامها وبطارقتها وأهل شرطتها وجنودها وعساكرها وأمرائها وكثرة خلقها وكذا سحرتها وزناديقها وكذلك كثرة اليهود فيها مع النصارى وكذا مقابرها في القرافة الصغرى والكبرى وكذا عجائب ما فيها من البنيان وأعجب من ذلك ما فيها من العلماء المؤلفين والأولياء الصالحين ممن يستجاب الدعاء عند الجميع وكذا خارج المدينة ففيه من القصور والغرف وصهاريج من الماء وكذا ما في داخلها من الحمامات والأفران على أن سعة الديار فيها وعلو أسوارها وتزيينها بالنحاس والذهب والفضة فبعض الديار إن كان أحد في طرفها والأخر في الطرف الآخر لا يسمع كلامه بل وقد لا يرى له شخصا فإن رآها بعض الناس غاب عن حسه لما أصابه من مشاهدة رونقها يكاد المرء أن تكون عنده الجنة عجائب وغرائب لا تكاد توجد في غيرها من البلدان أيا كانت هذا الذي سمعته بعد أن دمرها الله وغيرها بسبب الفسوق والعصيان على أنها الآن قد كثر فيها الظلم حتى سمعت من الشيخ العارف المحقق الفاضل سلطان الموحدين شيخنا الشيخ الحفناوي يقول في حجتنا هذه إن ظلم ولاتها قد وصل كل جنس من أجناس الآدميين حتى بلغ ظلم الحاج المغربي والعلماء والطلبة والفقراء والأشياخ والصناع والتجار والمجاورين وسائر الناس قاطبة ولذلك ابتلاهم الله بالشقاق والفتنة فكانت مصر لمن غلب وقد قال صلى الله عليه وسلم لم يكن شيء أسرع بصاحبه كالظلم.
فإذا علمت هذا علمت أن والي بولاق قد تعدى على ركبنا أهلكه الله وأخلى منه الأرض وكذا معينه يمسك جماعة بعد جماعة من الحجاج ويلقيهم في السجن فإن
أخذ منهم شيئا من الدراهم سرح لهم من غير أن يدعوهم أحد للشريعة عدو نفسه إلا أنه لا يقدر أن يربط من الركب هو وغيره من الولاة وإنما يربطهم من الأسواق وقد نجاني الله منه والحمد لله.
وسبب ذلك الشيالة أي الحاملون للحجاج فيشتكون إليه بباطل قصدا منهم أن يأكلوا ما عليهم من الدين الذي أقرضوه وتسلفوه منهم إذ كيدهم عظيم فإننا سلمنا منهم في الطلعة والهبطة لقوة الركب فلم يغن عنهم ما أرادوه من إتلاف أموال الحجاج بالباطل عند أمير الحاج من مصر فلم يوافقهم على الظلم ولما وصلوا إلى مصر رجعوا إلى فعلهم الردي غير أنهم لم يأخذوا شيئا منهم وإنما ذلك الظالم هو الذي أخذ منهم.
نعم ما خرجنا من مصر حتى أوقع الله بها فتنة عظيمة وغلاء قويا ببركة الحاج.
ذكر خروجنا من مصر
ولما ظعنا من البركة نزلنا الدار الحمراء وهي لا ماء فيها بل إنما يأتي الحاج بالماء من النيل يصحبه إلى أن يصل دار عجرود أو يجاوزه إذ ماؤه قبيح لا يشربه إنسان إلا خرج من حينه بل يغير طبيعة شاربه فلما يسلم شاربه من مرض البطن فيستعدون الماء تلك المرحلة إلا الفقراء فيضطرون لشربه فلا يسلمون منه غالبا بل الطعام الذي يطبخ به تصيبه مرارة فلا يؤكل إلا بشدة الجوع.
نعم الذي عنده وسع في ماله وقوة في زاده يشتري الماء العذب إذ يأتون به من النيل فيباع في الأسواق إذ أسواق الركب المصري كثيرة لا يمكن عدها إذ فيها كل خير مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وترغب فيه الناس إلا كان فيه سواء كان نازلا أو سائرا فإن من لم يصحبه زاد من طعام وشراب وعنده فلوس يشتري كل ما يحتاجه منه غير أنه يشتريه بزيادة الثمن وإنما الرخاء فيه بكثرة ما يباع فيه من المطاعم والملابس والفواكه والخضر حتى يحكم الإنسان ويجزم أن مصر خرجت برمتها وما فيها إذ تجد الطبائخ من أنواع الأطعمة والأشربة والأغذية أحسن مما يوجد في الأمصار الكبار ومع ذلك هم سائرون فالمضطر الجائع يجلس عند الطباخ ويأكل عنده ما يحتاجه بثمنه فتجتمع نعمتان الاستراحة والشبع بل عنده نعمة شاملة كأنه حاضر في سفر ونزهة في كدر وعبرة في ضرر ورحمة في سفر.
انعطاف إلى ما كنا بصدده وهو أن عجرودا هذا قد يوجد فيها بعض المياه العذبة في نواحيه وكذا في نواحي الدار الحمراء غير أنها ليست في كل الأوقات ولا أنها تكفي الحاج ومع ذلك لا يعلمها الحاج وإنما يخبر بها بعض الأعراب.
ولذا قال شيخنا سيدي أحمد بن ناصر المذكور ما نصه قرب هذه الدار مررنا
على واد به ماء طيب بآبار قريبة القعر يحفر الإنسان بيده فينبع له الماء قريبا بحيث تتناول الدابة منه بفيها من غير كلفة وأخبرني بعض من كثر ترداده في هذه الطريق أن هذا الموضع يجدون به الماء ولو في الصيف هذه الأزمنة وهذه السنة زاد الماء فيها كثيرا من كثرة الأمطار ونداوة الأرض إلى أن قال وهو عن يمين الذاهب لعجرود فسرنا ومررنا كذلك على واد به فيعان من ماء يسيل سيلا تاما من المطر بإزاء عجرود فقلت لأعرابي حجازي هذا الماء طيب فقال مجيبا نعم زي الشهد إلى أن قال وماء عجرود يضرب به المثل في القبح واشتهر بذلك مع وجود ما يضاهيه كثيرا في مياه الدرب إلا أنه لما كان أول ماء يرده الحاج قبل أن يألف مشاق الطريق مع اعتياد الناس قبل ذلك لمياه النيل ووجود فضلة منه لا يكادون يسيغون منه جرعة إلا وهمت بطونهم بالرجعة.
وفي هذه المورد حصنان متقاربان مبنيان بأوثق بناء يترك الناس فيهما ما استثقلوه من الأزودة والأمتعة إلى الرجوع وكثيرا ما تعطب المؤمن من الإبل في هاتين المرحلتين بجد السير وثقل الأحمال إذ لم يخفف منها شيء والإبل قد ألفت الراحة بمصر ويغلب عليها السمن وكثير من الناس لا يشفقون عليها فيحملونها فوق طاقتها ولا يرخون عليها في المشي لما يتوقعون من خوف اللصوص على من تأخر فكل واحد يريد أن يتقدم وقد لطف الله بنا عادة عودناها تعالى في جميع الأحوال فنتأخر عن الركب ونكون في أخرياته فنسير على مله بإبلنا وينضم إلينا من ضعف من الناس أو تأخر لغرض فكان لنا في ذلك وللناس خير كثير فلم نر ما رأى الناس من المشاق وموت الإبل وفي أحد الحصنين اللذين هناك بئر كبيرة تسني دائما بالبقر ويخرج الماء من البندر إلى برك ثلاث خارجات اثنتان صغيرتان والثالثة كبيرة وبهما عسكر لا يفارقهما أبدا وكذلك غيره من البنادر في كل سنة يأتي قوم فيذهب الذين كانوا يه ولهم جراية من بيت المال على ذلك ولو لا لطف الله بالعباد بوجود هذه
البنادر في الطريق لما قدر أحد على سلوكها مع كثرة مخاوفها وقلة مرافقها ولكن الله سلم أنه عليم بذات الصدور ومن هنا يعدل عن طريق الحاج ذات المصانع ذات اليمين للنابعة والمصانع سواري مبنية في سبخة لا يظهر فيها أثر الطريق وكذا في الرمل القريب منها فجعلوا تلك الأعلام المبنية ليستدلوا بها على الطريق وجعلوا في رؤوس الأبنية حجر مستطيلا خارجا لناحية الطريق ليستدل بها الماشي ليلا وربما علقوا على بعض الأعلام مصابيح ليلا لبعد ما بينها وبين كل علم وعلم نحو فرسخ أو أقل أو أكثر في محالها وعلى هذا الطريق يسلك الحاج المصري والمغربي دائما إلا في أوان الحر وخوف العطش فيعدلون إلى النابعة عن طريق المصانع وهي واد كبير ذو رمل به احساء كثيرة تزيد على المائة بل أينما حفرت مقدار قامة أو أقل وجدت ماء حلوا باردا في غاية الحلاوة كأنه ماء النيل ربما يتوهم أنه أحسن منه شرقي مدينة سويس.
وهي مدينة صغيرة ذات أسواق ومساجد ووكالات مستطيلة على شاطئ البحر المالح الذي يأتي من الهند وهناك يقف بين جبال شامخات وبينه وبين البحر الرومي نحو مرحلتين قاله الشيخ أبو سالم في رحلته.
قلت وذكر المقريزي أن ما بينهما هو البرزخ الذي ذكره الله تعالى في كتابه في قوله تعالى : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) وبهذه المدينة ترسى السفن التي تأتي من جدة ومكة واليمن فيها السلع التي لا تحصى والبضائع التي لا تستقصى ومن هناك تحمل إلى مصر في البر.
قلت وهي بموضع مدينة القلزم التي ينسب إليها هذا البحر وبالقرب منها غرق فرعون قال المقريزي في خططه وقد عرف بهذا البحر وذكر في تفاصيله وان مبدأه من البحر الكبير المحيط بالأرض المسمى ببحر الظلمات لتكاثف البخار
المتصاعد منه وضعف الشمس عن حله فيغلظ وتشتد الظلمة ويعظم موج هذا البحر وتكثر أهواله ولم يوقف من خبره سوى ما عرف من بعض سواحله وما قرب من جزائره وفي جانب هذا البحر الغربي الذي يخرج منه البحر الرومي الجزائر الخالدات وهي فيما يقال ست (1) جزائر يسكنها قوم متوحشون كما أن في جانبه الشرقي مما يلي الصين ست جزائر أيضا تعرف بجزائر السيلي نزلها بعض العلويين في أول الإسلام خوفا على أنفسهم من القتل ويخرج من هذا البحر المحيط ستة بحار أعظمها اثنان وهما اللذان ذكر الله تعالى في كتابه في قوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) وفي قوله تعالى : (بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ) فأحدهما من جهة الشرق والآخر من جهة الغرب فالخارج من جهة الشرق يقال له البحر الصيني والبحر الهندي والبحر الفارسي والبحر اليماني والبحر الحبشي بحسب ما يمر عليه من البلدان وأما الخارج من الغرب فيقال له البحر الرومي وأما البحر الهندي الخارج من جهة الشرق فيبدأ خروجه من مشرق الصين وراء خط الاستواء بثلاث عشرة درجة ويجري إلى ناحية الغرب فيمر على بلاد الصين وبلاد الهند إلى مدينة كتبانة (2) وإلى التبر (3) من بلاد مكراف (4) ينقسم هناك قسمين أحدهما يسمى بحر فارس والآخر يسمى بحر اليمن فيخرج بحر اليمن من ركن ينزل خارجا من البحر يسمى هذا الركن رأس الجمجمة فيمتد من هناك إلى مدينة ظفار وساحل بلاد حضر موت وإلى عدن فإذا انتهى إلى باب المندب يخرج بحر القلزم والمندب جبل طوله اثنا عشر ميلا وسعة فوهته قدر ما يرى الرجل من البر تجاهه فإذا فارق باب المندب مر بجهة الشمال بساحل زبيد فإذا وصل إلى القلزم انعطف من جهة الجنوب ومر إلى القصير
__________________
(1) كذا في جميع النسخ وفي الرحلة الناصرية ليست.
(2) كذا في أربع نسخ وفي نسخة كنبانة وفي الرحلة الناصرية كبتانة.
(3) كذا في أربع نسخ وفي الرحلة الناصرين وأما في نسخة فتبت.
(4) في الرحلة الناصرية مكران.
ومن القصير إلى عيداب إلى بلد الزيلع وهو ساحل بلاد الحبشة ويتصل برا وطول هذا البحر ألف وخمسمائة ميل وعرضه من أربعمائة ميل إلى ما دونها وهو بحر كريه المنظر والرائحة وأما البحر الرومي فقد تقدم أن مخرجه من جهة الغرب وهو يخرج في الأقليم الرابع بين الأندلس والغرب سائرا إلى القسطنطينية وإذا خرج هذا البحر مر شرقا في بلاد البربر وشمال الغرب الأقصى إلى وسط بلاد المغرب على إفريقية وبرقة والإسكندرية وشمال التيه وأرض فلسطين وسواحل بلاد الشام ثم يعطف من هناك إلى العلايا وانطاكية إلى ظهر بلاد القسطنطينية حيث ينتهي إلى البحر المحيط الذي خرج منه وطول هذا البحر خمسة آلاف ميل وقيل ستة آلاف وعرضه من سبعمائة (1) ميل إلى ثلاثمائة وفيه مائة وسبعون جزيرة عامرة.
وذكر بعض أصحاب السير من الفلاسفة أن ما بين الإسكندرية وبين بلادها أي وبين القسطنطينية كان في قديم الزمان أرضا تنبت الجميز وكانت مسكونة وكان أهلها قوما من اليونانية وكان لاسكندر خرق إليها البحر فغلب على تلك الأرض وكان فيها فيما يزعمون الطائر الذي يقال فه فقنّس وهو طائر حسن الصوت وإذا حان موته زاد حسنا في صوته قبل ذلك بسبعة أيام حتى لا يمكن أحدا يسمع صوته لأنه يغلب على قلبه من حسن صوته ما يميت السامع وانه يدركه قبل موته بأيام طرب عظيم وسرور فلا يهدأ من الصياح وزعموا أن بعضا من الفلاسفة أراد أن يسمع صوت فقنس في تلك الحال فخشي أن هجم عليه أن يقتله حسن صوته فسد أذنيه سدا محكما ثم قرب إليه فجعل يفسخ من أذنيه شيئا فشيئا حتى استكمل فسخ الأذنين في ثلاثة أيام يريد أن يتوصل إلى سماعه رتبة بعد رتبة ولا يسمعه في أول مرة فيأتي عليه وزعموا أن ذلك الطائر هلك ولم يبق منه ولا من فراخه شيء هجم عليه
__________________
(1) في الرحلة الناصرية تسعمائة.
ماء البحر وعلى رهطه بالليل في الأوكار ولم تبق له باقية ويقال أن بعض الفلاسفة أراد ملك من الملوك قتله فاعطاه قدحا فيه سم ليشربه واعلمه بذلك فظهر منه مسرة وفرح فقال له ما هو هذا أيها الحكيم فقال له هل أعجز أن أكون مثل فقنس انتهى كلام المقريزي مع بعض حذف ولو الإطالة بما لم يكن لنا بصدده لاستطردنا ذكر البحور السبعة ومواقفيها وكيفية مجاريها في أمكنتها وإنما تعرضنا لهذين لأن لهما تعلقا بطريق الحاج ومجاورتهما له ذهابا وإيابا والله الغفور بفضله وطوله.
قال شيخنا أبو سالم.
تتميم قد ظفرت بمصر برسالة للشيخ البكري وأظنه شيخنا محمد ابن الشيخ زين العابدين ذكر فيها منازل الحج ودياره ذهابا وإيابا وحقق قدر ما في كل مرحلة من الساعات والدرج والدقائق وصعوبتها وسهولتها بنثر بليغ وعبارة رائقة وذكر في كل منزلة شعرا يتعلق بأحوالها فأردت أن اقتطف منها ما يكون في أذن هذه الرحلة شنفا إذ كلامي بالنسبة إلى كلامه لا يعد معه صنفا ولما كانت المنازل التي ذكرها قد لا تتفق مع منازلنا ومراحله تزيد أو تنقص عن بعض مراحلنا لم أذكر في كل مرحلة ما يناسبها من كلامه فأخرت ذلك إلى آخر مرحلتين أو ثلاث أو أزيد فاخترت لإدراج كلامه المراحل التي فيها البنادر لأنها في الغالب متفقة فإذا جاء ذكر بندر من البنادر ذكرت من كلامه ما يتعلق بالمراحل التي قبله ليكون ذلك أسهل لمطالعته وأبقى لرونق كلامه من التقطيع وكثير التوزيع.
قال فلنذكر الآن من كلامه ما يتعلق بالمراحل التي قبل عجرود فأقول قال الشيخ البكري رضي الله عنه فأول المنازل البركة المباركة ، التي توحدت في مشارق أنوارها ومشارع شوارع أقطارها عن المشاركة ، وقصرت عن أوصافها ذوو اللّسن ، وجمعت بين الماء والخضرة وقدوم الوجه الحسن ، فهي مخضرة الأكناف ، بديعة
الأوصاف ، قد مدحت أطيارها ، ونفحت بالنسائم أزهارها ، وبها الخيام منصوبة ومرفوعة ، والخيرات لا مقطوعة ولا ممنوعة ، مع وقوف أشائرها على الأقدام ، يستدل بضوئها في الليل من له على القدوم إقدام ، كأنها في جنح الليل نجم الثريا إذا اقترنت بالنثرة ، أو الأكليل إذا قارن الزهرة ، وبها سوق يساق إليه بدائع البضائع ، التي يحتاج إليها المسافر في أكثر الوقائع ، ما قصد نحوه قاصد ، إلا وعاد منه موصولا بالصلة والعائد ، وكان هذا النعيم المقيم مسامرنا ومسائرنا في الذهاب والإياب ، إلى أن رجعنا إلى بركة الحاج ثانيا ولاقينا الأحباب ، قال الشاعر :
في
بركة الحج ترى |
|
نخلا
زها لكن عجب |
زبر
جدا يحكي وما |
|
ثماره
إلا ذهب |
فيها
نسيم رائق |
|
بلطفه
يشفي الوصف |
والطير
فوق مائها |
|
يشدو
بأنواع الطرب |
فيا
لها من بركة |
|
تبلغ
القلب الأرب |
عوذتها
من طارق |
|
وغاسق
إذا وقب |
وبعد ما كملت الركائب ، واجتمع بعد التفريق نجائد النجائب ، وانقضى مقام المقيل ، ونودي في ذلك المكان الرحب بالرحيل ، وحمل المحمل الشريف ، وفارق المربع والظل الوريف ، وسار الركب سير السيل ، وتسابقت العيس لجهات الخير كأنها الخيل ، حتى وصل إلى قرب البويب المعروف بالتصغير ، وفي الحقيقة هو باب الدرب ومفتاح المسير ، فاجتمع شمل الركب في ذلك المكان ، ورجع المودع في خبر كان ، فاستراح الناس والبهائم ، واستيقظ بسهر الليل كل نائم ، ثم أطعمت الجمال العلائق ، وقطع الحجاج من تلك المحطة العلائق ، ومدة المسير في تلك المرحلة ، ثلاث ساعات مكملة ، ثم نادى منادي الرحيل ، فسار الركب إلى أن أصبح مقاربا للبئر الطويل ، وهو المكان المعروف بالمصانع ، ومطلب راحة الناس في الإقامة لو لا
الموانع ، وبه تقطير الجمال وضبطها في سير الركوب ، واحتياج الماشي من تعبه إلى الراحلة والركوب ، فيا له من يوم تقطر فيه الدموع ، ويطول فيه الوقوف والوقوع ، وتشرب فيه الفقراء كاسات الردى ، لشدة ما يحصل لها من جور الجنود واعتداء الاعتدا ، فما من فقير إلا ويحتاج إلى غني يسعفه ، وإلى عادل من ظلامته ينصفه ، قال الشاعر :
قد
أتينا إلى محل المصانع |
|
فاصنع
الخير فيه إن كنت صانع |
وانفع
الناس في كثير جميل |
|
على
تلقى خيرا كثيرا ونافع |
واعلم أن عدة درج المسير ، إلى هذه المنزلة ست ساعات على التحرير ، ثم قام دليل الركب للمسير ، وأمر الناس من تقطيع أزمة الجمال بالتقطير ، فسرنا طول ليلنا إلى الأسفار ، واسترحنا بالوصول إلى عجرود عن مشقة الأسفار ، فوصلنا إلى بندر عجرود ، وماؤه ملح أجاج غير مورود ، فأتانا أهال بندر السويس ، وعطفوا علينا انعطاف الأغصان في الميل والميس ، وأهدوا إلينا الأخطاب للمشاعل ، والأغنام للمآكل ، وعدة درجة هذه المرحلة المبهجة ، سبع وثمانون درجة ، انتهى كلام الشيخ البكري.
فلنرجع إلى ذكر مراحلنا ، وحيث انتهى سيرنا ، فأقول لما قضى الناس من هذا البندر الأوطار ، وعانقوا أعناق التسيار ، وجدوا السبخة لكثرة ما توالى عليها من الأمطار ، بركة واحدة من جميع أرجائها والأقطار ، فنكبوها وعدلوا ذات اليسار ، ونزلنا بعد ما توغلنا في الرمل مغيربان ، في أفيح بسيط وأوسع مكان ، ثم ارتحلنا من ذلك الموضع يوم السبت وبلغنا وادي الرمل قبل الظهر ووجدنا به غدرانا من الماء غدرها السيل ، لما جر عليها الذيل ، وللناس إليه أي ميل ، وأدركنا الركب التونسي هنالك ، وكان قد خرج من مصر قبلنا لما تأخرنا للتوارك ، كما ذكرنا وسرنا حتى
خلفناه وراء ظهرنا ، فأرحنا ركبنا ، ونزلنا لصلاة الظهر ، وإراحة الظهر ، ولما بلغنا ركبنا وكنا في أخرياته وزالت الشمس ، ولم يبق في زوالها لبس ، إذنا لها ، ثم أقمناها ، فصليناها جماعة ، وكان ذلك لأهلها أربح بضاعة ، فتمطينا مطايا المسير ، وشمرنا لقطع المراحل أبلغ تشمير ، حتى أنخنا بغربي وادي السدرة والخروبة ، والسرقة في تلك الليلة من كل ناحية من الركب أعجوبة ، ولكن الله تعالى سلم وفده ، فرد على السارق في نحره كيده ، فأخذوا بغلة لسيدي أحمد بن أطاع الله وضايقوهم عليها ففروا عنها وأخذها صاحبها وسمي الوادي بشجرة كبيرة من الخروب ومن السدر في أصل الوادي ثم ارتحلنا من هناك يوم الأحد رابع ذي القعدة الخامس والعشرين من دجنبر الرابع عشر من الليالي وسرنا مع الوادي برهة ومررنا بالعقبة المشرفة على التيه وقت الضحى ونزلنا (1) بعد أنا جاوزناها في أوائل التيه في انتظار الركب وتناول الأغذية وهي عقبة فيها بعض صعوبة إلا أنها سويت حتى صارت طريقا بينا (2) ومنها ينزل إلى أرض التيه وهي أرض مقفرة موحشة طويلة عريضة معطشة قد امتدت فيها الطرق امتداد السطور في الطروس ، لم يلحقها على قدم العهد الدروس ، وهذا المحل من المحال التي تعظم فيها المشقة أيام الحر وقد تتلف فيه أنفس كثيرة بالعطش.
قال أبو سالم وقد وقع لنا مثل ذلك في سنة تسع وخمسين ارتحل الناس من عجرود ظهرا ولم يمروا على النابعة فبتنا ليلتين بلا ماء إلا ماء عجرود الذي لا يتجرعه الضمآن ولا يكاد يسيغه فلم نصل إلى أرض التيه حتى اشتد الحر وقل الماء في اليوم الثالث ومات بعض الإبل وجعل الناس يعصرون ما في بطون الإبل من الفرث ويشربونه وفي ذلك قلت :
__________________
(1) في نسختين وصلينا.
(2) في الرحلة الناصرية لا حبا وفي العياشية مليحا.
ولم
أنس بالتيه يوما به |
|
تفاني
الحجيج صدي وولوها |
وان
يستغيثوا يغاثوا بماء م |
|
عجرود
كالمهل يشوي الوجوها |
قلت وكذا يشتد أمره في زمان الشتاء لأن أرضه عراء لا حطب فيها وقد تتلف به النفوس من البرد وأما عامنا هذا فسلكناه في أطيب هواء ولا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة ووجدنا به اصفرار غدران من الماء في أخاديد ما كفى الله به شر العطش وأوامه فتوسطنا التيه فنزلنا بعيد المغرب.
والتيه كما في خطط المقريزي أرض بالقرب من آيلة لا يكاد الراكب يصعد إليها لصعوبتها إلا أنها مهدت في زمان جاروبة بن أحمد بن طولون وهو مقدار أربعين فرسخا في مثلها ويسير الراكب مرحلتين في فحص التيه حتى يصل بحر فاران وفيه غرق فرعون وفيه تاه بنو إسرائيل أربعين سنة لم يدخلوا مدينة ولا أووا إلى بيت ولا بدلوا ثوبا وفيه مات موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ويقال أن طول التيه نحو من ستة أيام واتفقوا أن الممالك البحرية لما خرجوا من القاهرة هاربين في سنة اثنتين وخمسين وستمائة وطائفة منه بالتيه فتاهوا فيه خمسة أيام ثم تراءى لهم في اليوم السادس سواد على بعد فقصدوه فإذا مدينة عظيمة لها سور وأبواب كلها من رخام أخضر فدخلوها وطافوا بها فإذا هي قد غلب عليها الرمل حتى طمر أسواقها ودورها ووجدوا بها أواني وملابس وكانوا إذا تناولوا منها شيئا تناثر من طول البلى ووجدوا في صينية بعض البزازين تسعة دنانير ذهبا علها صورة غزال وكتابة عبرانية وحفروا موضعها فإذا حجر على صهريج ماء فشربوا منه ماء ابرد من الثلج ثم خرجوا ومشوا ليلة فإذا طائفة من العربان حملوهم إلى مدينة الكرك فدفعوا الدنانير إلى بعض الصيارفة فإذا عليها أنها ضربت أيام موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ودفع لهم في كل دينار مائة درهم وقيل لهم أن هذه المدينة الخضراء من مدن
بني إسرائيل ولها طرفان رمل يزيد تارة وينقص تارة أخرى لا يراها إلا تائه والله تعالى اعلم ثم ظعنا منه يوم الاثنين وغلسنا الرحلة وانفرد عن الركب مسائره بإزائه رجل من أهل توات مع ولده وعبده بعد ما حلموا على جملهم ولقوا جماعة من المتلصصة فأخذوا الجمل وما عليه وهو كل ما يملك وذلك مقدار ثمانمائة مثقال تبرا بعد ما شجوه فخر صريعا نسأل الله السلامة والعافية التامة فالله يخلف له من فضله الفياض أنه الكريم الوهاب وأتينا بنرد النخيل قرب الزوال ووجدنا الركب التونسي نازلا واستقرت بهم الدار وحططنا الرحال وتسابق الناس لسقي الجمال والبغال وصادفنا فيه بقية من السوق به بعض الفواكه الشامة أتى بها أهل غزة مثل الزبيب الفاخر الحلو ونحو ذلك وذلك عادتهم أبدا يتعرضون للركب هنا ذهابا وإيابا بالكثير من أنواع الفاكهة الشامية.
وهنالك بندر حصين فيه بئر ماء عذبة كثيرة لا تنزح أبدا يسقى منها بالبقر إلى برك خارج الحصن وهي ثلاث بركات مثل ما بعجرود إلا أن هذه أكبر وقد وجدنا الماء فيه فاضلا عن الكرب المصري وأخذ الناس منه حاجتهم وهو من المواضع التي يصعب فيها الماء إذ ليس فيه إلا بئر واحدة فإذا شرب المصري ما في البرك وقعت الزحمة على البئر فلا يصل الناس إلى الري إلا بعد تعب شديد ومشقة فادحة واتفقت الأركاب المغربية على الذهاب وعدم البيات به فلما قضوا منه الغرض ، ووفوا الحق المتفرض ، سرنا ونزلنا بعيد المغرب وقل في ركبنا الفلاحون فضبط أمر الركب بعض ضبط.
قال الإمام أبو سالم وقد كانوا في غالب السنين يكثرون عليهم في الركب المغربي فرارا من جور عساكر المصري فيكثر ضجيجهم وخصوماته فلا يكاد ينضبط للركب المغربي أمر من كثرتهم فيه فيرحلون في غير أبان الرحيل ويتبع الأخر الأول
من غير تأن لا سيما في محل الضيق والخوف ولا يبالون بما أتلفوا من أنفسهم وأموالهم خشية التأخر والمزاحمة على القرب من أول الركب لغلبة الجبن والخوف عليهم إذ لا يعرفون في بلادهم قتالا ولا مدافعة عن الأنفس والأموال لكونهم رعايا أن شتموا مروا ، وأن ضربوا فروا ، وكلما نقص الله من جهدهم وجرأتهم ، وبطش أيديهم زيد في ألسنتهم ، حيث لا يخافون فيبالغون في الشتم والسب حتى لا يكد سامعهم يملك نفسه فإذا رأوا من هم بضرب خضعوا وقالوا عافية يا مغربي عافية ويقولون المغاربة مجانين لا يعرفون إلا الضرب وكان الضرب عندهم أبعد بعيد يصدر من شخص عاقل ولعمري انه لكذلك في حق كل مسلم لمسلم ولكن الغريزة الغضبية لا سيما ممن لم تذلله الأحكام ، ولم تكسر من سورته شدة الأيام ، لا يملكها إلا الأقوياء وهي لا تنتهي دون أبلغ عقوبة تمكنها نسأل الله تعالى أن يكفينا شرها ، ويسخر لنا أمرها ، أنه سميع مجيب انتهى.
قال البكري في رحلته من عجرود إلى النخيل ثم سرنا إلى النواظير ورأس وادي المنصرف ، وهو واد بكثرة الرمال والكثبان قد عرف ، ليس به ماء ومرعى ، وإنما عيون الناس بمضيق أرجائه ترعى ، قال الشاعر :
نزل
الركب بوادي المنصرف |
|
وعلى
لقياه كم مال صرف |
نحمد
الله الذي جئنا له |
|
وجميع
الهم عنا منصرف |
ثم سرنا إلى وادي القباب ، وهو واد فسيح الرحاب ، تهيم به قلوب الأحباب ، ويتذكر به عهد زينب والرباب ، لا سيما اجتماع الأصحاب ، في مواطن البعد والاغتراب ، قال الشاعر :
شافنا
وادي القباب المرتضى |
|
في
اسمه وهو فسيح في الربى |
فوصلناه
وقد قلنا عسى |
|
بعده
نأتي إلى وادي قبا |
وميقات المسير إليه عشر ساعات على التمام ، وبعد إقامتنا به إلى وسط النهار تهيأنا للقيام ، ثم نادى المنادي بالرحيل ، فسرنا إلى وادي تيه بني إسرائيل ، وهو واد واسع الفضا ، يعتبر فيه بأحوال من مضى ، ليس فيه ماء ترده الأنام ، ولا ظل سوى ظل بني إسرائيل من الغمام ، قال الشاعر :
لا
تسلكنّ بوادي التيه منفردا |
|
بلا
دليل ترى وقع الردى فيه |
فما
سمعت كلاما من أخي ثقة |
|
في
الناس إلا وقال أحذر من التيه |
ومدة المسير إليه عشر ساعات ، حررها أهل الميقات ، ثم سرنا إلى قلعة تحل الحصينة المحمية ، وتعجبنا من كثرة الفواكه الشامية ، من سفرجل ورمان ، وعنب على اختلاف ألوان ، والخيرات الكثيرة ، وما يحتاج إليه من الذخيرة ، والفساقي المملؤة بالماء البارد ، المعدة للغادي والوارد ، قال الشاعر :
إلى
نخل الحصينة سر حميدا |
|
ترى
فيه المنى والخير باقي |
ولا
تشك الظمأ لفقد ماء |
|
فساقيها
مقيم بالفساقي |
ومدة المسير إليه ست ساعات محررة ، وخمس من الدرج مقدرة ، انتهى كلامه رضي الله عنه.
رجوع وانعطاف إلى التعداد لمراحلنا والائتلاف ثم فوضنا الأخبية ، وحلمنا الامنية ، من منزلنا الذي جاوزنا النخيل إليها في صر شديد ، وبرد متزايد جديد ، تخال الأيدي منه رميت بالشلل ، والأرجل نظمت بالسلا والاسل ، قال الشاعر :
رحلنا
العيس نمشي في هواء |
|
له
برد على الغادي يشقّ |
فما
في الركب إلا من تراه |
|
له
حنك بسورته يدقّ |
ولم يزل الهواء كذلك إذا سد منه منخر جاش منخر ، وعم ببرده المفرط المتقدم
والمتأخر ، وسرنا ولم يزل البرد ساحب أذياله ، إلى أن حان وقت العصر فاشرف جرحه على اندماله ، فصلينا صلاة العصر ببئر الصعاليك وتسمى ببئر البارود وهي بئر كبيرة طويلة مطوية بحجر وبناء متقن في أصل واد وبجانب البئر أثر بناء وبركتين إلا أنه لا عمارة عليه وماؤها باردا إلا أنه قبيح لا يكاد الشارب يسيغه فتقدمنا ونزلنا بعد المغرب ثم ارتحلنا منه بعد صبح يوم الأربعاء سابع ذي القعدة الثامن والعشرين من دجنبر سابع عشر الليالي في اشتداد القر ، وتزايد الصر ، ولما تعالى النهار تراءت للركب خيل وإبل للمحاربين (1) فأخذ الناس حذرهم ، وكفى الله شرهم ، ثم تبين بعد ذلك أنهم سلم للحاج لا حرب لهم وإنما أغاروا على بعض أعدائهم وأكلوا والتقوا مع الحاج وبتنا بسطح العقبة.
انعطاف ورجوع إلى ما عليه ركبنا وإنما نقلت كلام شيخنا سيدي أحمد بن ناصر وما رأى في هذه المراحل وما رآه فيها من العجائب والاعتبار حتى يعلم الإنسان أنه لا يسلك تلك الطريق أحد إلا بفضل الله وقوته والسلامة فيها من المعاطب من أكرم الكرامات لا سيما زمان الحر وزماننا هذا لزيادة ظلم الظالمين ، وعتو المجرمين ، ومكر الجمالين ، وسرقة الحجاج وصولة تحيلهم إلا من أجاره الله برحمته وقد وصلنا بندر عجرود بعد صلاة العصر في يوم حر شديد وعجرود هذا كثر ماؤه غير أنه لا يمكن شربه من قوة قبحه وتغير مائه وبتنا هناك ونزل رحلنا في حرف الركب وبعد جواز ثلث الليل وإذا بالسراق أتوا إلينا أي إلى ناحيتنا فرفعوا جملا للحاج عبد الله الشباخي (2) وقد كان جمال شيالنا وكذا عندي جملان أمرت عند النوم بزوالهما من ذلك الموضع إلى موضع آخر فأتوا إليهما فوجدوا المكان فارغا ووجدوا هذا الجمل هناك ولم يكسب صاحبه إلا هو فذهبوا به نعم بنفس رفعه استيقظ جيراننا وممن
__________________
(1) في الرحلة الناصرية الحراميين.
(2) في نسخة الشياخي.
استيقظ ابن عمنا خالي عبد العزيز الشريف فذهب في أثارهم وكذا أنا تبعته وقد جاء بعض الناس في أثرنا وذهبنا في ظلمة الليل في ذلك الوادي حتى لا نسمع صوت الركب ولا عرفنا أثرهم فلم يرجع أحد منا حتى أيسنا من لحوقهم فرجعنا خائبين.
فلما أصبح الله بخير الصباح ظعنا منه وسلكنا طريق اليمين إلى النابعة لكثرة مائها وعذوبته وقلته في الطريق الميسرة ولما انفصلنا عن دارنا سبقنا أنا والفاضل أخونا في الله سيدي أحمد الطيب في غيم شديد ورياح شديدة حيث لا يمكن الركوب معها فلحقنا الفاضل الكامل الأخ الشقيق والودود الصديق سيدي محمد الشريف البلغيثي النوفلي والفقيه الأديب سيدي محمد بن عزوز وسيدي الحاج أحمد المسراتي الجميع على البغال والحالة أن الركب تأخر عنها كثيرا بحيث لا نرى له أثرا فنزلنا على البغال في موضع منخفض على الريح نرتقب الركب فصلى من صلى منا الضحى واطمأن بنا المجلس إلى أن لحق الركب ونحن كذلك حتى دخل السبحة فركبنا ولحقناه ثم سرنا كذلك إلى قرب الزوال فنزلنا النابعة في رمل عظيم بين آبارها المحفورة إلا أنها مملوءة بالرمل إلا البعض منها غير أن التي عذب ماؤها عذبا شديدا لم ينزل عليها الركب لأن ماءها يكاد أن يكون كالنيل.
وبالجملة فماؤها عذب وأن اختلفت عذوبته فاشتغل الجميع بالسقي إلى أن ملئوا أسقيتهم فسقوا واستقوا مع كثرة الهرج من الحجاج لقلة الحكم من الأمراء إذ لا يقدرون عليهم لكثرتهم وكثرة تعصبهم غير أن فضل الله عليهم لما لم يكن فيهم قتال وموت ذريع حسبنا الله منهم ونعم الوكيل.
وظعنا منه حين تنفس الصبح فانفصل ركبنا بخير وعافية فسار في تلك الرمال وهي كالجبال ترى كثيبا منه تقول لا يخرج منه أحد على خير فإذا دخلتها خرجت منه على أحسن حال ونحن كذلك إلى أن وصلنا إلى دار بعدها فنزلنا بعد العشاء ومنهم
من نزلها بعد المغرب ونحن والحمد لله في جماعة لا نسير إلا آخر الركب صونا للضعفاء ومن بقي رحله وقد بقي رحل ولد الشيخ الناصح والقطب الواضح سيدي محمد بن عبد الله بن أبي جملين المسيلي الغوث فرفعناه على بغالنا إلى أن لقينا صاحبه سيدي أحمد فرفعه وبعد ذلك والحمد لله سرنا ساعات فدخلنا التيه الذي تاه فيه بنو إسرائيل وقد سبق ما فيه من الكلام ما أوحشه من موضع وأصعبه من محل لكثرة حره وشدة أمره مع انعدام الماء فيه وقد كثر فيه الهلاك من العطش زمان الحر فلا تجد من يسخى بالماء إلا من قوي يقينه وغلب عليه الرقة والشفقة والرحمة والخوف من الله تعالى ترى القوم فيه صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية من ثوران الحر في ذلك الموضع إلا أن رحمة الله واسعة ورأفته قوية ونعمته بالحجيج شاملة خصوصا أهل المعرفة بالله تعالى فلا تراهم فيه وفي غيره مما هو نظيره في الصعبة إلا كالعرائس تتلألأ وجوههم نورا وتنبسط أثار محبة الله في طلعة خدهم علما منهم أن غاية أمرهم غيهم عن اليم ما هم فيه وهو بيت الله وحرمه وكذا حضرة الله وحضرة رسوله صلى الله عليه وسلم وحرمه أيضا فلما شهدوا مطلوبهم غيبهم ذلك عما لا قوه من العذاب وبعد تلك المرحلة وصلنا بندر النخيل فنزلنا عند الضحى الأعلى والله اعلم في فرح وسرور لما سلمنا من أرض التيه.
وقد مات لنا واحد من أصحابنا وهو رجل من العامة رجل صالح مديم للصوم كثير الصمت قليل الاضطراب فلا ترى عليه إلا آثار الخير دائما وهو الحاج محمد بن مدشر اسمامة من قرى بني ورثيلان وبندر النخيل بندر عظيم فيه عسكر كما في عجرود وفيه أسواق فكل ما تريده موجود لأنه يأتي من ناحية الشام أناس بذلك أي من بيت المقدس وقربها محل فيه أبسط الخيرات وأنواعه الملذوذات لا سيما الفواكه في زمانها فلا ترها في غير ذل المحل والشكر لله تعالى وهذا البندر رحمة للحجاج فوضعوا فيه أمتعتهم تخفيفا ورحمة بالإبل إلى أن يرجعوا وكذا اشترى من
خصه الإبل أو بدله فلما أصبح الله بخير الصباح ظعنا منه عند الضحى فلما انفصلنا تأخر بعض من أحبابنا وهو الحاج بلقاسم الحربيلي ثم اليعلاوي يشتري جملا من بعض العرب فتأخرنا مع فاشتراه فلما أقبض الدراهم لصاحبه هرب الجمل فتبعته على بغلتي حتى آيست من لحوقه وخفت اللصوص من الحراميين ورجع سيدي أحمد المسراتي على فرسه ولحقه ثم وقع الصياح في آخر الركب أن فلانا وأصحابه قد أخذه اللصوص فرجع البعض إلينا بأسلحتهم فلم نر إلا خيرا والحمد لله حتى لحقنا بالركب وصاروا يحمدون السلامة لنا لما علمت من كثرة عطب الطريق وكثرة محاربيه ولصوصه فلا ترى أحدا تأخر إلا أخذ وسلب أو هلك فالحمد لله علينا نتأخر نحن معاشر الإخوان عن الركب كثيرا واللصوص في آثارنا فلا نرى منهم ما يكره فلم يسلب أحد إلى أن وصلنا إلى مكة المشرفة ثم كذلك نسير والحمد لله حتى قربنا بئر الصعاليك فبتنا من الحجاج من سقى من البئر المذكورة وهي عميقة جدا وماؤها بارد فكاد أن يكون كالثلج إلا أنه قبيح لا يكاد يساغ من مرارته وفي أثاره بناء قديم ولما ظعنا سرنا بعد في أودية وشعب صعبة في يوم قوي ريحه واشتد أمره فلا تنفع فيه استراحة ولا نزول ونحن كذلك سائرون إلى قرب سطح العقبة فنزلنا وبتنا في خير وعافية ومات بعض من أهل وطننا فدفناه ليلا.
ولما صبح الله بخير الصباح ذهبنا إلى أن بلغنا سطح العقبة فانتظر الحجاج بعضهم بعضا يسيرون على قدم واحد فاستعدوا بأسلحتهم وافترقوا فرقا فمنهم من سبق ومنهم من تأخر ومنهم من توسط خوفا من متلصصي العرب لكونهم في الغالب لا يتركون الشر في ذلك الموضع فنحن معاشر ركبنا لم نر منهم أحدا والحمد لله غير أن كل من كان من أهل الركب إلا نزل ولو كان من أهل المخدرات فيسيرون على أرجلهن ولو نساء الملوك فرأينا نساء السلاطين ذاهبات على أرجلهن وأنا والحمد لله عيالي ما نزلوا أبدا نعم جعل الله البركة في الجمل الذي حمل اثنتين من
النساء في المهيا (1) وهو يسير كأنه ليس في ذلك المحل الصعب والمنة لله فتعجب كل من رأى ذلك وذلك كله من فضل الله تعالى علينا فلما انفصلنا وانحدرنا من العقبة إلى ساحل البحر اشتغل الناس بالغداء فلما فرغوا منه اخرجوا أسلحتهم وأمامهم من البارود واجتمعوا على قدم واحدة وقدموا أمامعم سلطان فزان بالبارود واللعب بالخيل وكذا الناس على الأرجل إرهابا لعرب العقبة إذ العام الذي قبل عامنا أخذوا ركب المغربي لقلته وقلة سلاحه وبينما نحن كذلك وإذا عسكر من الركب المصري خرج ولقينا برعود من البارود والخيل تعلب والناس كذلك إلى أن وصلنا إلى البندر فتعجب كل من كان في ذلك من أهل ذلك الوطن من العرب ومن تسوق من غيره حتى بلغ ذلك أقصى عرب الحجاز فلا تجد سارقا يدور بنا ولا قاطع طريق ليلا ونهارا خوفا من الركب المغربي لكثرته وكثرة سلاحه لا سيما الركب الجزائري نعم الركب المصري يخاف منا ومع ذلك هو في قوة عظيمة أمد مروره ثماني ساعات كما رسمه من اعتنى بذلك بالدرج فكل عام أمير الحاج من مصر يربط من الركب المغربي ويفعل فيه ما شاء إن شاء قدمه وإن شاء أخره وإن شاء زاد في الكراء زاد وغير ذلك من ظلم الغزّ (2) أما عامنا وركبنا هذا فليس عليه حكم ولا له عبرة على أن ركبنا تعصبوا وقالوا إن أبى إلا أن يحكم علينا منعناه وضربناه وفتناه فلما رأوا منهم ذلك فروا عن الحكم عليه فلا نقول إلا سلم سلم كما سمعت منه ذلك ومع ذلك أنه رجل حليم لا يرضى بالفساد ولا الظلم الكثير والحمد لله على ذلك.
قال شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر ما نصه ثم ظعنا بكرة يوم الخميس ثامن ذي القعدة التاسع والعشرين من دجنبر وثامن عشر الليالي وما تعالى النهار ، وتفتحت للشمس عيون الأزهار ، حتى رأينا عقبة ايلة وخبرها قد روع القلوب ،
__________________
(1) في نسخة المهيع.
(2) كذا في جميع النسخ.
ونوع المهابة لأمرها فما من الركب إلا من هو من لباس الصبر مسلوب ، فحصل هناك من الزحمة ، ما تقطعت به القلوب رحمة ، وتصادمت المحاف وتكسرت ، وبرزت أنياب النوق وتكشرت ، فما كان بأسرع من خمود أمرها ، وركود حرها وجمرها ، وهي عقبة كؤد ، صعبة الهبوط والصعود ، إلا أن الطريق بها منحوتة ، قد سويت في أكثر الأماكن الصعبة ، وبنيت حافاتها ببناء متقن.
ولما كان المحل معروفا بلصوص الأعراب وحرابتهم ، تهيأ الناس وأخذوا حذرهم وأبرزوا أسلحتهم ، وعبوا تعبيتهم ، خوفا من أعدائهم فإن الغالب لا بد أن يتعرضوا للركب في هذا الموضع لصعوبته وتقدمت طائفة من الحجاج بمدافعهم أمام الركب وتأخرت طائفة وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا فلم نر بها سارقا ولا غائرا ، ولا عاتيا ولا غادرا ، فانفرجت هذه الشدة ، وكفى الله منها مدية المدة ، فما زهقت روح ، ولا أثيرت جروح ، وخلص الناس من تلك الضغطة ، وخرجوا من ضيق القبض وجلسوا على بسطة البسطة ، ونزل الناس منها سالمين ، وقيل الحمد لله رب العالمين ، قال الشاعر :
كم
قد فككنا رقبة |
|
لا
اقتحمنا العقبة |
وكم
لنا من أمنية |
|
في
حجنا مرتقبة |
وبعد أن نزلنا من المنحدر الصعب جعلت الطريق تلتوي في شعاب كأنها أزقة يكثر فيها المخاوف والمتآلف فيرى البحر من بعيد فيظن أنه قريب ووصلنا البندر ظهرا ولم يبلغ الحاج إلى قرب العصر ووجدنا المصري به مخيما وأرسل إلينا أمير الحاج إمامه ، وأبلغنا سلامه ، واسمه إبراهيم أبو شنب وأقمنا بها الخميس والجمعة وفيها حصن حصين في قرية على شاطئ البحر في سفح الجبل وبها آبار كثيرة وفيها نخيل وسوق كبير يحضره أهل غزة وتأتيه العرب بالإبل والغنم والسمن والعسل والعلف
للدواب ووجدنا الفول فيها رخيصا أرخص ممن اكترى عليه من مصر وبتنا بها وبات المصري هناك وأوقد بالليل نيرانا كثيرة وضرب المدافع ورمى المحارق في الهواء ولها منظر عجيب ، وأسلوب غريب ، كأنها شهب النجوم يرمى بها من الأرض إلى السماء فتراها في الجو طالعة حتى ترى من أعالي هام شوامخ الجبال دونها ثم تنعطف راجعة كأنها ثعبان أحمر ثم يسمع لها صوت وتخرج منها شرارات من النار فإذا انقطعت تلك أتبعها بأخرى وخروجهن فيما نرى من نار زرقاء كأنها نار الكبريت تشتعل اشتعالا قويا فتطلع منها تلك الشهب ولا نعلم صنعة ذلك وهي من الغرائب والرمي بها وبالمدافع عادة المصري في كل منزل أقام فيه إذا أراد الرحيل قاله الإمام أبو سالم.
ثم ارتحل في الغد وأقمنا بعده ولم نر في مبيتنا ولا إقامتنا ما يسؤنا من سارق ولا غيره.
قال شيخنا أبو سالم وقد سألنا هناك وبحثنا عن القرية التي كانت حاضرة البحر هل بقي من رسومها شيء فقد ذكر المفسرون أنها ايلة فلم نجدد من يشفي لنا خبرها.
وقد ذكر لنا بعض الناس أن بأعلى الوادي أثر بناء كثير يشبه أن يكون مدينة ولعلها هي وقد أخبرنا كثير من متسوقة الأعراب الذين هناك أن وراء الجبل الكبير المشرف على القرية بلدة فيها نخل وماء إلا أنها خالية ويمكن أن تكون هي فإنها قريبة من البحر والعلم عند الله تبارك وتعالى.
قلت وفي الخطط للمقريزي أن ايلة مدينة في شاطئ البحر المالح سميت بأيلة ابنة مدين بن إبراهيم عليه السلام وقد كانت مدينة جليلة القدر بها التجارة الكبيرة
وأهلها أخلاط من الناس وكانت حد مملكة الروم في الزمان الفائت وعلى ميل منها باب معقود لقيصر قد كان مسلحته يأخذون المكس وبين ايلة وبين القدس ست مراحل والطور الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه الصلاة والسلام على يوم وليلة من ايلة وكانت في الإسلام منزل بني أمية وأكثرهم موالي عثمان بن عفان رضي الله عنه كانوا سقاة الحجاج وكان بها علم كثير وأدب ومتاجر وأسواق عامرة وكانت كثيرة النخل والزرع.
قال وكانت بايلة مساجد عديدة وبها كثير من اليهود يزعمون أن عندهم بردا للنبي صلى الله عليه وسلم وانه بعثه إليهم أمانا وكانوا يخرجونه رداء عدنيا ملفوفا في الثياب قد أبرزوا منه قدر شبر فقط.
ويقال أن ايلة هي القرية التي ذكرها الله في كتابه العزيز حيث قال : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) واختلف في تمييزها فقال ابن عباس وعكرمة والسدي رضي الله عنهم هي ايلة وعن ابن عباس أيضا أنها مدينة بين ايلة والطور وعن الزهري أنها طبرية وقال قتادة وزيد ابن أسلم هي ساحل من سواحل الشام بين مدين وعينوني.
وسئل الحسن بن الفضيل هل تجد في كتاب الله الحلال لا يأتيك إلا قوتا والحرام يأتيك جزافا قال نعم في قصة ايلة إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم انتهى المراد منه مع بعض حذف ولما التقينا بالمصري بالعقبة أخبرونا عن حالهم مع البرد وانه قتل منهم واحدا أو أثنين ليلة العقبة وقرب عجرود ما ينيف على خمسين نفسا وذكروا أن الإنسان يكون في حمل الخشب فيوجد ميتا بالبرد وعلى الدابة كذلك.
وحدثنا بعض حجاج القدس التقوا مع المصري في سطح العقبة أنه لاقوا من البرد والثلج والمطر ما يقضى منه العجب مكثوا يومين وليلتين ما أوقدوا نارا ولا قدروا عليها ولا أكلوا من كثرة المطر وأخبرني واحد منهم أنه عليه عدة لباس من الأقبية والقمص وجوخة فوق ذلك وبات من أول الليل إلى آخره واقفا ورجلاه داخلتان في الطين إلى ركبتيه والمطر يصب عليه حتى أفضى إلى لحمه وعاينوا من ذلك الموت الأحمر ونحن والحمد لله سلمنا الله من ذلك كله.
تتمة في ذكر كلام البكري من النخيل إلى العقبة قال ثم سرنا من النخيل إلى وادي القريض المشهور ، وهو واد ينبت به الشوك عوضا عن الزهور ، فكم آذى بشوكه أقدام ، وعطل من له على المشيء إقدام ، ولا سيما الفيحاء لاتساع أرضه ، وزيادة فضائه في طوله وعرضه ، قال الشاعر :
في
وادي القريض (1)
كم سائر |
|
من
غير نعل ثابت الكعب |
قد
صار كالأعجام من شوكه |
|
يرقص
من رقص على الكعب |
وسيرنا اثنتا عشرة ساعة كاملة ، محررة من الميقات متواصلة ، ثم سار الركب إلى بئر العلاء في التجريد ، وهي محطة ببئرها معطلة وليس بها قصر مشيد ، وبقر بها حدرة منحدرة (2) ، وأشجار أتل منتشرة ، وبجانبها فسقيتان ليس بهما منفعة ، فما ورد عليها حيوان ظمآن إلا وقام عند رؤيتها بالأربعة ، قال الشاعر :
إلى
بئر العلاء قد أتينا |
|
وفزنا
بالنجاح وبالهناء (3) |
شكرنا
للدليل وقد دعانا |
|
إلى
شيء يوصل للعلاء |
__________________
(1) في الرحلة العياشية في وادي فيحاء.
(2) في الرحلة العياشية حذرة وفي الرحلة الناصرية جدرة منحذرة.
(3) في غير الرحلة العياشية وبالثناء.
ومدة المسير ، إليه اثنتا عشرة ساعة بالتحرير ، وبعدها الجد إلى سطح العقبة في المسير ، وهو سطح واسع الأكناف ، متسع الجوانب والأطراف ، لا يوصل إليه إلا بالاستطاعة ، لأن مدة المسير إليه اثنتا عشرة ساعة ، ثم سرنا إلى العقبة ، وما أدراك ما العقبة ، فكم بها من حدرة ومضيق ، وجبال في شكل الحمرة والبياض وهي عقلة في الطريق ، وصعود وانهباط ، وعلو وانحطاط ، قال الشاعر :
عقبات
يسلك الناس بها |
|
بقلوب
لم تزل مرتعبه (1) |
قد
قطعناها بوقت هين |
|
لم
نرى فيها أمورا متعبه |
نحمد
الله الذي خلصنا |
|
فاسترحنا
من عقاب العقبه (2) |
فقطعنا تلك الحدرة الكبرى ، ثم سرنا إلى واد بشاطئ البحر وأحطت به خبرا ، وبجانب البحر مغائر ماؤها عذب فرات ، وآبار تسقي منها الناس بسائر الجهات ، ورأينا نخلا زاهية ، وقلعة حصينة عالية ، فأقمنا بتلك المنزلة ثلاثة أيام ، ونحن في زيادة إنعام ، وذبح أنعام ، وقد وردت الفواكه من غزة وأعمالها ، فنصبت للبيع وانخفضت (3) الأسعار ورفعت البواقي على أحمالها ، وبقلعتها يوضع البضائع ودائع إلى الإياب ، ومدة المسير تسع ساعات في الحساب ، انتهى كلام البكري.
وزرنا قبر الشيخ إبراهيم اللقاني في مقبرة هنالك محوط عليه بالأحجار على يسار الذاهب إلى منزل الركب وأوقفنا عليه مغربي ساكن في بندر العقبة نيفا وعشرين سنة ثم ارتحلنا من العقبة صبيحة السبت فسرنا في مسلك ضيق بين البحر والجبل لا يمر به إلا جمل أثر جمل كأنه مثل الصراط إلا أنه غير مستقيم وقلما يخلو
__________________
(1) في غير الرحلة العياشية متعبة وفي ثلاث نسخ متعبة مكررة وفي نسخة منتعبة.
(2) في الرحلة العياشية وارحنا وفي جميع النسخ اراحنا من عقبات.
(3) في الرحلة العياشية وانحبطت.
هذا المحل من لصوص يتعرضون للركب فتشتد أذايتهم وتعظم نكايتهم لا سيما عند البرج قرب بندر العقبة ولكن ذلك في الرجوع أكثر ولم نر فيه والحمد لله بأسا ولا بؤسا ووصلنا ظهر الحمار بعد الظهر ووجدنا أخريات المصري ووقفنا حتى غاب عنا وسار وصلينا العصر وهو بسيط من الأرض أحرش مرتفع يطلع إليه من مسلكين لا يخلوان من صعوبة وتحته على ساحل البحر إحساء كثيرة في وسط حدائق النخل وقلما يخلو من عمارة بعض ضعفة الأعراب لا سيما في وقت جذاذ النخل ويكون فيها في ذلك الوقت رطب جيد وماء هذا المحل كله عذب طيب قال شيخنا أبو سالم في رحلته ويسمى ذلك المحل في زماننا هذا حفائر النخل وخلفا البحر يمينا فسرنا ونزلنا بعيد المغرب في فسحة من الأرض بين جبلين ثم ارتحلنا منه يوم الأحد الأول من يناير حادي عشر ذي القعدة وبلغنا عش الغرب قبل الظهر وجاورنا دار المصري بشرفات بني عطية بموضع يقال له أم العظام وهناك أرجام كالشعاب عن يمين الذاهب.
ذكر العبدري في رحلته أن ذلك قبر الشفاف والشفاف رجل كان يقطع الطريق على الحاج هناك في غابر الزمان وقصته مشهورة في رحلة العبدري ومن وراء الجبل الذي على يسار الذاهب بلد واسع فيه ماء جار وأرض مخصبة وربما عطش الركب في ذلك المحل فيأتي العرب بماء يبيعونه ونزلنا قبيل مغيب الشفق وبنو عطية هم عرب هذا البلد.
قال الإمام أبو سالم ويقال لهذا المكان يعني الشرفات عش الغراب.
غريبة تزعم العرب أن الإبل تنفر في هذا المكان ويقولون أنها تسمع صوت
سقب (1) ناقة صالح وانه في ذلك الجبل وأن هنالك الصخرة التي دخل فيها لما عقرت أمه فالإبل إذا وصلت إلى ذلك المكان تسمع صوت العشار فتنفر ولا أدري من أين لهم ذلك وهو بعيد إذ ليست هذه ديار ثمود الذين عقروا الناقة وهم قوم صالح على نبينا وعليه الصلاة والسلام ثم منه يوم الاثنين وصلينا العصر (2) بالمكان المسمى بمغائر سيدنا شعيب على نبينا وعليه الصلاة والسلام في حش ملتف ملنا إليه لأجل الحريم الذي معنا وهي احساء كثيرة في مضيق بين جبلين فيها نخيل وماؤها طيب حلو خفيف نافع وعادة أعراب مدين أن تسوق الأركاب هنالك بأحمال كثيرة من أنواع العنب وغيرها من الفواكه وتنخفض أسعار ذلك كله وبينها وبين مدين مسيرة نصف يوم وهي بلدة بساحل البحر كثيرة الفواكه والمياه الغزيرة وسكانها أعراب أهل بادية وكانت قبل ذلك مدينة ويذكر أن أثر البناء باق فيها إلى الآن.
قال شيخنا العياشي وعلى يسار منزل الركب خارج المضيق مغارة يقال أن فيها كان شعيب على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام يأوي بغنمه وبإزائها بئر كبيرة معطلة وبجانبها بركة ويقال إن هنالك كانت البئر التي سقى منها موسى عليه السلام غنم شعيب عليه السلام وفي ذلك الوادي دوم طويل كأنه نخل صنوان وغير صنوان وعريش كثير في الوادي وهو محل مخافة فلما يخلو من لصوص الأعراب.
قلت ولمدين أخبار وأثار ذكر المقريزي منها نبذة ولما صلينا العصر بالمغارة كما تقدم تجاوزنا ونزلنا بين العشاءين في بسيط أفيح ثم ارتحلنا منه يوم الثلاثاء ونزلنا عيون الأقصاب بعد العصر وهو ماء جار في مضيق بين جبلين في محل كثير القصب
__________________
(1) في الرحلة العياشي صغب ولعله صقب وهو السقب وزنا ومعنى.
(2) في غير الرحلة الناصرية يوم الاثنين وصلنا المصري.
والديس وفي أعلى الوادي نخل وأرض صالحة للحرث فلما يخلو ذلك المحل من أعراب نزول به فيكثر الخوف ويعظم ضررهم لا سيما مع نزول الليل فيأخذ الناس حذرهم فيطلعون الرماة إلى أعلى الوادي مراقبين حتى يأخذ الناس حاجتهم من الماء ويكتفوا فيأتي الرماة لمنازلهم على شفير الوادي عند منزل الركب مسجد بني بالحجارة المنحوتة ومنبر بإزائه.
ثم ارتحلنا منه يوم الأربعاء إلى أن قال إلى بندر المويلح وبنينا الأخبية بحيث تقرب الأمواج من الأستار وماء هذا البندر كثير حلو فيه آبار كثيرة وبساتين حسنة ونخل وهناك حصن كبير وفيه عسكر وأمير وتخزن فيه الميرة والفول كثيرا وعلى بابه سوق كبير يوجد فيه غالب المحتاج وبه موسى حسنة تنزل بها السفن القادمة من السويس والقادمة من جدة ومن القصير.
تتميم قال البكري رضي الله عنه في ذكر المراحل من العقبة إلى المويلح ثم سرنا إلى مرحلة يقال لها ظهر الحمار ، وهي محطة عالية كثيرة الأوعار ، يصعد إليها من عقبتين ، واليمنى أوسع من اليسرى في المسلكين ، قال الشاعر :
صعدوا
على ظهر الحمار لعلهم |
|
أن
يبلغوا بعصودهم كل الأمل |
تعب
الحمار من الطريق وطولها |
|
ومديدها
واجتث من بعد الرمل |
حتى
الجمال به شكت يا هل ترى |
|
يقبل
(1)
به عذر الحمار أم الجمل |
ومدة المسير إليه ثمانية من الساعات ، محررة عند أهل الميقات ، ثم سرنا إلى بين الجرفين ، وهو مكان كأن الجبال قد قسمت به شطرين ، يحترز منه أن يقذف بالحجاج ، في أيام السيل إلى البحر المالح الأجاج ، قال الشاعر ملغزا فيه :
__________________
(1) في الرحلة العياشية به تلت ياهل ترى نقبل.
وخمسة
أحرف في اللفظ تقرا |
|
فإن
صحفتها صحت بحرفين |
وإن
أسقطت خامسة فتبقى |
|
ثلاثة
أحرف من أصل ألفين |
ومنها إلى الشرفة ، وهي بطول السير متصفة ، تتعب فيها الجمال ، ولو رحلت بلا أحمال ، لما فيها من الوهاد ، والطلوعات الشداد ، وخلفت جبالها قبيلة بني عطية ، المعروفين بالسرقة والأذية ، قال الشاعر :
إذا
ما جئت للشرفة |
|
ترى
العربان مختلفة |
وأما
العيس فاجعلها |
|
بحسن
الحفظ متصفه |
فان
منعت بحارسها |
|
وإلا
فهي منصرفه |
ومدة المسير إليها خمس عشرة ساعة من غير ريب ، وبعدها المغار المعروف بمغار شعيب ، وهو غار يتبرك به الناس ، وترى فيه الحظ والإيناس ، وبه الماء العذب والنخيل ، وشجر المقل والإثل والظل الظليل ، قال الشاعر :
قد
وصلنا إلى مغار شعيب |
|
فرأينا
المياه كالأنهار |
فاستقينا
من مائه واشتفينا |
|
وظفرنا
بغاية الأوطار |
وذكرنا
بغاره غار ثور |
|
من
حوى للصديق والمختار |
خير
من أنزل الإله عليه |
|
ثاني
اثنين إذ هما في الغار |
ومدة المسير إليه ثمان عشرة ساعة ، محررة عند أهل الصناعة ، ثم منها إلى عيون القصب ، إذا نظر إليها العاجز أذهبت عنه الوصب ، لأن خضرتها نضرة ، والأشجار بها منتظمة ومنتشرة ، قال الشاعر :
قد
وصلنا لعيون القصب |
|
واستراح
القلب بعد النصب |
وعيون
الماء فيها قد جرت |
|
كسيول
الغيث بن القصب (1) |
فجلسنا
بصفاء حولها |
|
وظفرنا
عندها بالأرب |
وتشوقنا
لشاد مطرب |
|
يتغنى
بعيون القصب |
ورأينا مجاورا لتلك العيون ، نسوة من العرب يوصفن بحسن العيون ، ويتعاجبن بظفائر الشعور ، فيمنعن من عقل الحب الشعور ، كأنهن الأقمار ، وكأنما نبتت في وجناتهن الأزهار ، فكأن قطع المفاوز والأوعار ، كالمتنزهات في الرياض والأزهار ، قال الشاعر في بدوية اسمها ساكتة :
بروحي
أفدي ظبية بدوية |
|
لها
وجنة فيها الأزاهر نابته |
إذا
رمت منها أن تكلمني غدت |
|
تكلمني
ألحاظها وهي ساكته |
ومدة المسير إليها أربع عشرة ساعة وثلاثة من الدرج ، يتعب في سيرها من ركب ومن درج ، ثم ارتحلنا منها إلى بندر المويلح المشهور ، ورأينا بساحله المراكب من السويس والطور ، فيا له من بندر فاق البنادر ، يأتي إليه الوارد والصادر ، وبه جملة من الكروم ، التي تذهب برؤيتها الهموم ، وبمخازن القلعة تودع الودائع ، وإلى سوقها تساق نفائس البضائع ، من ثمار تجلبها العرب ، وزلابية عجينها كاللجين فإذا قليت أشبهت الذهب ، وبهذا البندر رجل من أرباب الأحوال ، حاز رتبتي الجلال والجمال ، صاح مجذوب ، تميل إليه محبة القلوب ، وله أسرار ظاهرة ، ومكاشفات باهرة ، يعتقده الناس ، ويحصل لهم بهم الإيناس ، لا يعرف الدرهم ولا الدينار ، ولا يقبل إلا القوت عند الاضطرار ، لباسه جبة من صوف ، ورأسه في غالب الأوقات مكشوف ، إن نطق تكلم على الخواطر ، وإن صمت نطقت عليه ألسنة الناس بالثناء العاطر ، ويكسوه المارة العدد ، فيقبلها ويعطيها لمن وجد ، لأن من رآها عليه ، يطلبها فيدفعها إليه ،
__________________
(1) في نسخة الغصب وفي أخرى الغضب.
وهذا شأن الكرام ، الذين قطعوا علائق الدنيا على الدوام ، فأقمنا بهذا البندر ثلاثة أيام ، وبعدها طوينا المضارب والخيام ، ومدة المسير ثلاث عشرة ساعة ، وخمس من الدرج في علم الصناعة ، انتهى كلام البكري إلى أن قال.
ونزلنا بالموضع المسمى بدار أم السلطان قبل الغروب وبه آبار عذبة المياه ، تستلذه الأفواه ، على انه سخن ولكنه سريع الانفعال للهواء وهي محدثة وأحلى ما في الدرب من الماء ومثلها ماء النبط أخبرني بعض كبراء أعراب هذه النواحي أن الأمير إبراهيم الففاري هو الذي تسبب فيها وانه طلع للحج وبعث إلى أخيه بمصر وقال له أن الماء الطيب بهذا المنزل إن مت فاحفره وأكد عليه في ذلك ومات بمكة لما حج وحفر أخوه آبارا ولها نحو من عشرين سنة والمحل قبل لا ماء به انتهى كلامه إلى أن قال.
ومررنا بالمضيق الموسوم بشق العجوز وسايرنا البحر المالح عن يسارنا جبال سلمى وكفافة ومررنا ضحى بقبر سيدي مرزوق الكفافي على ساحل البحر عليه أعواد قد علم بها عليه والناس يتبركون به وطلعت الشمس فارتفعت حارة ونزلنا بندر الأزلم قبيل الاصفرار ووجدنا به شرذمة من الأعراب يبيعون الحشيش والغنم وبه ثلاث آبار كبيرة محكمة والبناء وماؤها غزير إلا أنه زعاق يصلح للإبل ولضرورية الناس من غسل ونحوه ولا يسيغه إلا المضطرون قال الشيخ أبو سالم وعلى يسار البندر بعيدا عن الآبار حسى أي ماء حي محفور في الأرض ليس بمطوي ماؤه أحسن من ماء الآبار إلا أنه قليل ولا يعرفه الكثير من الناس وهذا البندر قليل الجدوى لقبح مائه وقربه من المويلح ومن الوجه هما أتم منه منفعة فليس فيه كبير فائدة وقد انهد ما في داخله من البيوت وتثلم بعض سوره والخلاء أقرب إليه من العمارة شعر :
إذا
لم يكن فيكن ظل ولا جنى |
|
فابعد
كن الله من شجرات |
انتهى ثم ارتحلنا منه إلى أسطبل (1) عنتر وفيه ثلاث آبار قليلة الماء وهو حلو طيب للشراب وأما الإبل فلا تكاد تطمع فيه.
ثم مررنا بوادي الأراك وهو واد واسع يأتي من ناحية الشمال والبحر عن يمينه قريب منه وفيه كثير من شجر الأراك الأخضر الناعم ثم يسير الماشي في مضائق بين فدافد من جبال ذات حدور وصعود إلى أن يصل إلى بندر الوجه وفيه حصن حصين في حرف واد كبير يخرج بين جبلين والناس يتهيئون النزول في أصل الوادي إذا كان الوقت وقت السيول فيرتفعون عن جنبي الوادي وفي الوادي عدة آبار بعضها أحسن من بعض والتي فوق البندر أحسن من التي تحته وداخل البندر بئر تسنى بالبقر وتصب في ثلاث برك لصق حائطه أحداهما من بناء الأمير رضوان في آخر أيامه واثنتان من بناء مملوكه الأمير غيطاس عام تولى إمارة الحاج بعد مولاه والبرك الثلاثة ملاصقة لسور البندر.
قال أبو سالم وفي أعلى الوادي بين الجبلين ماء يسمى الزعفران وماؤه طيب إلا أنه قليل فإذا كثر الزحام على الآبار طلع إليه أهل الجرأة من الناس وربما هجمت عليهم العرب هناك فيقع بينهم قتال إلا أن الموضع قريب من البندر فيغاثون واستقى الناس ما احتاجوا إليه وأوردوا إبلهم بالغوا في حمل الماء [وتعاهدوا أسقيتهم وأوثقوا أوكيتها ولم يألوا ما ملئوا من الأوعية وباتوا ليلتهم في الآبار إذ نزحت وكابد الناس لذلك مشقة فادحة](2) لأنهم استقبلوا المياه القبيحة والمسافة العويصة التي ليس في الدرب أصعب منها لتوالي المياه القبيحة فيها وبعد العمارة
__________________
(1) كذا في بعض النسخ وهي لغة في الاصطبل بالصاد.
(2) ما بين القوسين ساقط في الرحلة العياشية.
ووحم هوائها وسوء أخلاق أعرابها (1).
قال أبو سالم وهذا البندر آكد البنادر إلى الخزن لأن الركب في الإياب قد يسبق الملاقي من مصر إلى هذا المحل فيغلى فيه الفول والطعام غاية حتى تعجز عنه الأثمان في بعض الأوقات وفي حجتنا عام تسعة تجاوزناه لقلة مائه ونزلنا قرب العشاء بعد مجاوزته بأميال إذ لم نجد به شيئا من المنال.
قال الشيخ البكري في ذكر المراحل من المويلح إلى الوجه ما نصه ثم سرنا من المويلح إلى دار أم سلطان ، التي هي لعرب البادية أوطان ، ونزلنا بوادي سلمى وكفافة ، وحصل مزيد الأمن بعد المخافة ، وخلف جبلها الغربي البحر الأصيل ، وبجانبه القسطل البري وهو كثير طويل كالنخيل (2) ، وحفائر مائها عذب بارد ، يشرب منها الغادي والوارد ، قال الشاعر :
إن
وادي سلمى بهي بهيج |
|
حيث
فيه قبر الولي المسمى |
صاحب
السر والمعارف مرزوق م |
|
الكفافي
طاب روحا وجسما |
فإذا
جئت قبره قم فنادي (3)
|
|
وتوسل
بجاهه ثم سل ما |
فأقمنا بتلك المرحلة الإقامة المعتادة ، وحصل لنا ببركة الشيخ مرزوق في الرزق الزيادة ، ومدة المسير كاف تمام ، وعددها معروف من غير اتهام ، ثم سرنا إلى بندر الأزلم ، ولا يرغب فيه من بحقيقته يعلم ، فماؤه ملح أجاج ، ما شربه إنسان إلا أحتاج إلى العلاج ، فأقمنا به من غير إقبال ، ورحلنا منه بعد الزوال ، ومدة المسير إليها ست
__________________
(1) في الرحلة العياشية وبعد العمارة وشدة الحر (الحرب) لقربها من بلاد الحجاز بل غالبها منه وسوء أخلاق عربها.
(2) في الرحلتين العياشية والناصرية القسطل البري منتظم كالنخيل.
(3) كذا في جميع النسخ وفي الرحلتين قبره فتأدب وهذه الرواية أصوب.
عشرة ساعة محررة ، وخمس من الدرج مقدرة ، ثم سرنا إلى مرحلة تسمى أسطبل عنتر ، وقد اختفى بها العربان للأذى وتستر ، والمسير إليها بين جبال صاعدة ، وحدورات وأوعار متقاربة ومتباعدة ، وبها آبار عذبة ، يود كل ظمآن شربة ، قال الشاعر :
إن
جئتا للأسطبل لا |
|
تغفل
به عند النزول |
وأحذر
من العرب الذي |
|
بجباله
أبدا تصول |
واعلم
فديتك انه |
|
صعب
ولكني أقول |
قد
سمي الإسطبل من |
|
عرب
به شبه الخيول |
ومدة المسير ثلاث عشرة ساعة (1) في العدد ، صحيحة الضبط والسند ، ثم سرنا منه إلى وادي الأراك ، وهو واد ليس لانفراد محاسنه اشتراك ، وبعده دخلنا بين جبال وأوعار ، ومضيق وأحجار ، وحدرات طوال ، وصعودات وتلال ، حتى نزلنا ببندر الوجه المبارك ، وصار حصنه متقاربا متدارك ، فرأينا به الآبار الخالية ، وحفائر الماء العذب غير خالية ، فأقمنا به إلى قبيل العصر ، وقد زال من الناس الحصر ، قال الشاعر :
قد
دخلنا بندر الوجه الذي |
|
فيه
قوت كل عام يختزن |
وشربنا
من مياه عذبة (2)
|
|
شربها
يجلو عن القلب الحزن |
نحم
الله الذي أسعفنا |
|
ورأينا
ذلك الوجه الحسن |
ومدة المسير إليه سبع عشرة ساعة وثلثا ساعة بالإجماع ، حررها أهل العلم والاطلاع ، انتهى كلامه رضي الله عنه.
__________________
(1) في ثلاث نسخ عشر ساعات وفي أخرى بإسقاط عشر.
(2) في الرحلة العياشية عذبت.
ثم منه إلى الأكره وهو واد كبير تأتيه السيول من بلاد بعيدة ويذكر أن سيل المدينة المشرفة على من تشرفت به أفضل الصلاة والسلام وأزكى التحية والإكرام يصل إليه وماؤه قبيح جدا إلا أن يكون عقب سيل فيحسن وبه احساء كثيرة وأشجار ملتفة ووجدنا جل ماء آباره جيدا لقرب العهد بالسيل وسقى الناس منه وأخذوا من مائه ما ليس لهم عنه بد وسقوا إبلهم وتجاوزه قبل الظهر وباتوا غربي بئر الدركين ثم ارتحلنا منه وبلغنا بئر الدركين مع طلوع الشمس وهو منزل الحاج المصري وسمي بذلك لأنه بين درك أعراب مصر وأعراب الحجاز فإن ما بعده من عمل الحجاز وفي درك أعرابه إلى أن قال.
ولما بلغنا العقبة السوداء وهي عقبة صغيرة في حرة سوداء ذات أزهار وأشجار ويقال إنها أول أرض الحجاز ولا يبعد ذلك فإن من هنالك تخالف الأرض ما قبلها وتباين الجبال ما سواها ويشتد شبهها بجبال الحجاز السود ويتقوى الحر إلى أن قال.
وهذه المرحلة والتي قبلها يشتد فيها الحر وهي أرض سهلة مطمئنة ليس فيها جبال إلا ما يتراءى عن شمال المار بها والبحر يتراءى عن يمينه وفيها غياض من شجر الطلح وهي من أنواع الكلأ الذي ترعاه الإبل كثيرا إلا أنها تترك للرعي فإن المحل مخوف تغير فيه أعراب بلي وجهينة وغيرهما إلى أن قال.
نزلنا الحوراء بعد المغرب وتفرق الناس في مياهها وهي على حفائر على ساحل البحر يحيط بها ديس كثير وفيه ملوحة كثيرة (1) والقريب العهد بالحفر أجود من غيره وكلما طال في القرب خبث والإكثار منه يورث إسهالا مفرطا كماء الاكره والأزلم وعجرود والحاج منها راق على تلال واديها وأكامها وروابيها لكون المحل محل
__________________
(1) كذا في جميع النسخ وفي الرحلتين العياشية والناصرية قليلة.
الغارات إلى أن قال ومن أمثال الحاج لا رجال إلا رجال الحوراء ولا جمال إلا جمال الدورة ويعنون بالدورة الرجعة يعني لا يعد صابرا من الجمال (1) إلا من صبر في حالة الرجوع من الحجاز إذ هو آخر السفر ومحل قلة العلف ومنه ذاهبين مع واديها الكثير الأشجار من أراك وغيره ثم يعدل الحاج يمينا إلى الوادي المسمى على السنة الحجاج بوادي العقيق.
قال شيخنا أبو سالم ولا مناسبة بين الاسم والمسمى بل تسميته بوادي العقوق انسب لشدة جرأة أعرابه على السرقة فإنهم من أجرأ الناس على ذل ثم منه إلى النبط وبه آبار محكمة البناء بالحجر المنحوت وماؤها عذب حلو غزير في الغالب.
قال أبو سالم وغزارة ماء أودية الدرب إنما يكون بحسب كثرة المطر وقلته فإذا حمل الوادي ولو مرة في السنة غزر ماؤه سائر السنة ومنهم إلى الخضيرة مرحلة لا ماء فيها ولا في الخضيرة إلى الينبع حاصله يومان لا ماء فيهما ومن النبط إلى الخضيرة واد حار وهو مكان يتشوق الناس فيه ويموتون عطشا إلا إذا وجد فيه ماء المطر وهذا الوادي قد وافق فيه الاسم المسمى قلما تخلو سنة من شدة تقع للحجاج فيه من عطش أو موت وهو واد كبير طبق ما بين جبلين لا سعة فيه من النبط إلى الخضيرة فإذا اشتد الحر في النهار حجبت الجبال عنه الهواء البحري فينعكس غربيا أو شرقيا صاعدا من الوادي أو منهبطا فيصير سموما محرقا ولا ماء هناك فربما أتلف الناس فيه العطش المهلك وربما أحدث ذلك سمية الأبدان بقبح الهواء مع حرارته فتموت المئون بل الآلاف من الخلق في أسرع مدة فيأخذ الرجل الماء فلا يضعه من يده حتى يموت.
__________________
(1) في الرحلة الناصرية الرجال.
قال الشيخ أبو سالم ووقوع ذلك في الإياب كثير وفي الركب المصري أكثر وقد غمرتنا فيه والحمد لله ألطافه تعالى الخفية ، وحضرتنا منته ومواهبه السابغة الوافية ، فلم نر به بأسا في الحر ولقر والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وتنزل البركات.
ونزلنا مغيب الشفق قبيل الخضيرة وصلينا بها الصبح وقطعنا الوعرات السبع المسماة على ألسنة الحاج بسبع وعرات وخرجنا إلى متسع من الأرض وبلغنا ينبع النخل غروب الشمس ولما قربنا مضيق ينبع تأخر كثير من الصعاليك فخرج عليهم المحاربون وجردوا صعلوكا فصاحوا ورجع إليهم بعض الحجاج فهربوا وجلسوا تحت أحجار ورموهم ببنادق ورماهم الحجاج فكفى الله شرهم واستبشر الناس بقدومهم الينبع لأنها أول بلاد الحجاز العامرة وفيها قرى كثيرة ومزارع ونخيل وعيون جارية وذكروا أن عمرانه متصل نحو ثلاثة أيام والقرية التي ينزل بها الركب هي آخر القرى التي من ناحية البحر وليس بعدها إلا ينبع البحر الذي هو المرسى وغالب أهل القرى يأتون إلى هذه القرية التي ينزل بها الحاج للتسوق وتعمر هناك سوق كبيرة يوجد فيها غالب المحتاج وتجلب إليها البضائع والسلع ذوات الأثمان ويجلب إليها من الثمار والفواكه والحبوب والفول شيء كثير وهناك وجدنا أخبار المدينة ومكة زادهما الله تعالى تشريفا وتعظيما ، وتبجيلا وتكريما ، ووجدنا أيضا أخبار سائر بلاد الحجاز وتعرفنا على رخصها من غلائها وخصبها من جدبها ومن هناك تجلب الميرة للمدينة الشريفة لأن السفن الجالبة للطعام من مصر ما كان منها للمدينة يرسي بينبع البحر وما كان منها لمكة يتجاوز إلى جدة فإذا وصل الطعام إلى الينبع حمل منها إلى المدينة تحمله أعراب تلك الناحية من بني سالم وجهينة ويتداركون بالطريق من هناك للمدينة.
قال شيخنا أبو سالم وأكبر جبال تلك الناحية جبل رضوى وهو المشرف على
بلاد الينبع وليس هو الجبل الصغير الذي هو بجانب الينبع بل هو الجبل الكبير المشرف عليه وإلى هذا البلد كانت غزوة العشيرة من غزواته صلى الله عليه وسلم ومسجد القرية الآن هو مسجد العشيرة المعدود في المساجد التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
قال السيد السمهودي ما نصه ومسجد العشيرة معروف ببطن الينبع وهو مسجد القرية التي يزلها الحاج المصري ولابن زبالة (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مسجد الينبع بعين بولا.
قلت وعنده عين جارية لكنها لا تعرف بهذا الاسم انتهى.
وقد دخلنا هذا المسجد وقلنا فيه حتى صلينا الظهر والعصر وتوضأنا من هذه العين وعليها نخيل وفي الينبع ملتفة ناعمة ووجدنا بها العام يبس ماء العين وانهدم بعض سقف المسجد وذبلت النخل وفي الينبع مزاراة على تل مرتفع لأبي الحسن النفاتي وقبر الحسن المثلث فوق القرية لم نصل إليه لبعده وذعارة عرب البلد يزار من بعيد بالنية وبهذا البلد موطن طائفة من الأشراف ومنهم شرفاء بلدنا القاطنون بسجلماسة.
قال البكري في ذكر المراحل من الوجه إلى الينبع ما نصه ثم سرنا من الوجه إلى مشرف (2) النعام ، ثم إلى حدرات واكام ، وأماكن يرى منها البحر الأجاج ، وشدة تلاطمه بالأمواج ، ثم إلى حدارت كبيرة المقدار ، كثيرة الصخور والأوعار ، ونزلنا في مرحلة يقال لها بركة اكره ، وهي أرض بها حفائر ماء تكره ، ماؤها مر المذاق ، من تقيد
__________________
(1) كذا في الرحلتين العياشية والناصرية وفي ثلاث نسخ زياله وفي نسخة زياد.
(2) في الرحلة العياشية مفرش.
شربه حصل له الإطلاق ، وهي مرحلة لا تراح بها النفوس ، ولا يضحك بها العبوس ، قال الشاعر :
يا
من أتى اكره في سيره |
|
ابشر
بنيل القصد والمنه |
لا
تكره المكروه في اكره |
|
فبالمكاره
حفت الجنة |
ومدة المسير إليها تسع ساعات بتمامها ، وثلث ساعة ثابتة في أحكامها ، ثم سرنا منها إلى مرحلة يقال لها الحنك ، ولها من بين القرى اسم مشترك ، بين فضاء واسع المجال ، ومراعي أعشاب للجمال ، إلا أنها خالية من الماء للوراد ، والإقامة بها إنما هي على طريقة السير المعتاد ، ومدة المسير إليها أربع عشرة ساعة من الزمان ، حررها أهل الإتقان ، ثم سرنا منها إلى العقبة السوداء المشتهرة ، وقطعنا مفاوزها ونزلنا بالحوراء النضرة ، وهي مرحلة رملها غزير ، ومخاطبها كثير ، وبها شجر الأراك الأخضر ، والماء من حفائر رملها يتفجر ، قال الشاعر :
جئنا
إلى الحوراء وهي محطة |
|
فيها
الأراك نزاهة للرائي |
ناديت
خل قف بها متأملا |
|
وانظر
لرمل مغمر بالماء |
واغنم
زمانا مقبلا بسعوده |
|
فيه
اجتماع الشمل بالحوراء |
ومدة المسير إليها في جمل الإعداد ، حررها أهل الإرشاد ، ثم سرنا منها إلى مفازة نبط ، وهي حد عربان جهينة في الشيل والحط ، وبطرقها مضائق وحدرات ، وجبال راسيات شامخات ، وشجر أثل كالنخيل ، وحفائر ماء عذب يشفي العليل ، قال الشاعر :
وفي
اكره والتي بعدها |
|
مرارة
ماء تزيد القساوه |
فجئنا
إلى نبط نشكر الظما |
|
فانعشنا
ماؤها والطلاوه |
ولما
صبرنا على مرها |
|
فاعقبنا
صبرنا بالحلاوه |
ومدة المسير إليها عدد كاف ، وهي عشرون ساعة من غير اختلاف ، ثم سرنا إلى طراطير الراعي ، وهي مكان تحمد فيه المساعي ، وهي جبال سود فوق الجبال ، وتسمى أيضا بالأباطح كما يقال ، ثم إلى واد يسمى وادي النار ، وهو واد بين جبال ووعر وغبار ، ثم نزلنا بالخضراء وقيل الخضيرة بالتصغير ، وهي من أعمال بندر الينبع في المسير ، قال الشاعر :
أنظر
إلى الخضراء واغنم بسطها |
|
تلقى
رباها نزهة للرائي |
فلرب
حشاش شكا من همه |
|
قد
زال عنه الهم بالخضراء |
ومدة وصولنا إليها في المسير (1) ثم رحلنا منها واستقبلنا دار البقر ، ورأينا أول الوعرات قد ظهر ، وهي سبع وعرات كبيرة ، أصعبها الأولى والأخيرة ، بين كل وعرة فضاء وبعده عقلة في الطريق ، ويليها شفاء جبل هائل ومضيق ، ثم أنخنا الركاب ببندر الينبوع ، وهو أول بلاد الحجاز في الذهاب وآخرها في الرجوع ، به حدائق ونخيل ، وعيون بين زروع تسيح وتسيل ، وكان به سور ، منيع وجامع مفرد وسيع ، وبيوت فسحة الرحاب ، فآل أمرها إلى الخراب ، وبه الآن سوق الحجاج ، يأخذون منه الذخيرة عند الاحتياج ، وبه أفران وحيشان كبار ، وعشش تسقى فيها القهوة من أيدي الجوار ، قال الشاعر :
حبذا
بندر ينبوع وما |
|
في
رباه من رياض وعيون |
وسقاة
من ملاح نهد |
|
يصرّ
عن الصب من نبل العيون |
فارتحل
عنهن واذهب وانتصح (2)
|
|
فإذا
خالفت أذهبت العيون |
__________________
(1) بياض في الرحلتين العياشية والناصرية وكذلك في ثلاث نسخ وفي نسخة معلومة بلا ضير والغالب على الظن أن هذه الزيادة من الناسخ.
(2) في ثلاث نسخ واتضح وفي الرحلة العياشية وانتظم.
وجميع تلك الأسواق خارجة عن المساكن ، ويعم نفعها الساكن والظاعن ، فنصبنا بهذا البندر الخيام ، وأقمنا به ثلاثة أيام ، ومدة المسير إليه سبع عشرة ساعة في العدد ، محررة في ميقاتها صحيحة السند ، انتهى كلام البكري.
ثم رحلنا من الينبع ومررنا على السقائف ودار الوقدة ثم كذلك من الرمل المشرف على بدر ثم كذلك إلى أن نزلنا بدرا وسمي هذا المنزل دار الوقدة لأنهم يوقدون فيه الشمع الكثير يستصحبه الناس معهم من مصر لذلك ويبيعونه في الركب ويجعلونه على اقتاب الجمال بالليل فترى الركاب كله كأنه من أعظم المساجد المسرجة مصابيحها في أحد المواسم.
قال أبو سالم وشاع عندهم أن الصحابة في غزوة بدر أوقدوا هناك نيرانا كثيرة فنحن نشتبه بهم وتلك غفلة منهم وخطاء من وجهين أحدهما أن وقوع الأمر بإيقاد النار الكثيرة إنما كان في غزوة الفتح بمر الظهران كما هو معروف في كتب السير وأما بدر فلم يقل فيها أحد بذلك وثانيها لو سلم أن ذلك وقع فيها فقد كان لإرهاب العدو وإظهار قوة المسلمين وكثرة عددهم فحيث لا ضرر فلا عدو له ولا شك أن الفرح بنصر الله أولياءه على أعدائه والاستبشار بالأماكن التي اعز الله فيها الإسلام أمر مطلوب مستحسن ما لم يؤد ذلك إلى محظور مثل اعتقاد أن الوقود سنة متبعة بل ربما ظن بعضه أنها من أفعال الحج فلتعظم بغير ذلك من فرح وسرور وصدقة وعبادة وأعلان بشكر وقد جاءني كثير ممن لا شمع عنده يستفتون ويقولون لا شمع عندنا فهل يلزمنا شراؤه ممن هو عنده ظانين أن ذلك من مناسك الحج وشعائره وكم مثلها من بدعة محدثة يرى الناس أنها من أعظم القربات نسأل الله أن يثبتنا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم المستقيمة التي لا ترى فيها عوجا ولا أمتا انتهى.
ثم إن الركب يتوسط وتوسطنا بين الجبلين جبل الرمل الكبير المشرف على بدر
يسرى الطريق والجبل الآخر يمناه فإذا بالناس يشرعون يريدون (1) الصعود لجبل الرمل أفواجا رجاء أن يسمعوا ما يوثر هنالك من صوت الطبل وزعم كثير من الحجاج أنهم يسمعونه هنالك.
تتمة ذكر الإمام ابن مرزوق في شرحه على البردة ما نصه ومن الآيات ببدر الباقية ما كنت اسمعه من غير واحد من الحجاج أنهم إذا اجتازوا بذلك الموضع يسمعون كهيئة طبل الملوك الوقت ويرون أن ذلك لنصر أهل الإيمان قال وربما أنكرت ذلك وربما تأولته بأن الموضع لعله صلب فيستجيب فيه حواجر الدواب وكان يقال لي انه دهس رمل غير صلب وغالب ما يسيري هنالك الإبل وإخفاقها لا تصوت في الأرض الصلبة فكيف بالرمل قال ثم لما من الله تعالى بالوصول إلى ذلك الموضع المشرف نزلت عن الراحلة أمشي وبيدي عود طويل من شجر السعدان المسمى بام غيلان وقد نسيت ذلك الخبر الذي كنت أسمع فما راعني وأنا أسير في الهاجرة إلا واحد من عبيد الأعراب الجمالين الذين كانوا معنا يقولون أتسمعون الطبل فأخذتني لما سمعت كلامه قشعريرة بينة وتذكرت ما كنت أخبرت به وكان في الجو بعض ريح فسمعت صوت الطبل وأنا دهش مما أصابني من الفرح أو الهيبة أو ما الله اعلم به فشككت وقلت لعل الريح سكنت في هذا الذي في يدي وحدث مثل هذا الصوت وأنا حريص على طلب التحقيق بهذه الآية العظيمة فألقيت العود من يدي وجلست إلى الأرض أو وثبت قائما أو فعلت جميع ذلك فسمعت صوت الطبل سماعا محققا أو صوتا لا أشك انه صوت طبل وذلك من ناحية اليمن ونحن سائرون إلى مكة المشرفة فظللت أسمع ذلك الصوت يومي أجمع المرة بعد المرة ولقد أخبرت أن ذلك الصوت لا يسمعه جميع الناس انتهى.
__________________
(1) في الرحلة الناصرية يهرعون يتجشمون.
وقال الإمام المرجاني رحمه الله تعالى ولقد ضربت طبلخانة (1) النصر ببدر فهي تضرب إلى يوم القيامة نقله عنه السيد السمهودي في تاريخه الكبير والصغير.
قال شيخنا أبو سالم وقد كثر كلام الناس في هذه المسألة وإذا ذكر من يوثق به كابن مرزوق وغيره أنهم سمعوه فالصحيح أن بعض الناس يسمعه دون بعض وقد مررت ببدر سبع مرات وأنا في كلها ألقي البال لذلك فلم أسمع شيئا اتحققه وفي هذه المرة سمعنا بعد ما قربنا من البندر صوت طبل محقق فإذا هو طبل بعض أمراء الركب كان متأخرا وراءنا وتحققنا ذلك بجلوسنا مر بنا وكثير من الناس ممن لم يتحقق ذلك زعم أنه الطبلخانة المذكورة وقد سألت عن هذه المسألة محقق زمانه شيخنا أبا بكر السجستاني رضي الله عنه فقال لي كنت حريصا على تحقيق ذلك ولقد مررت ببدر نحوا من سبع وعشرين مرة فلم أسمع شيئا أتحققه والعلم عند الله.
قلت وهذه المسألة مثل ما شاع على ألسنة الحجاج أنهم يرون الأنوار مشرقة من يوم قربهم من الينبع ويقولون أن وادي النار اسمه وادي النور لأجل رؤيتها منه فحرف الناس التسمية وقد ألقيت البال لذلك فكلما قالوا أنهم رأوا الأنوار نظرنا فإذا هو بروق تخفق من بلاد بعيدة وتحققنا ذلك بظهروه مرات كثيرة في غير ناحية المدينة وتارة في ناحيتها ويتصل خفقانه حتى يقرب إلينا فنتحقق انه برق وتظهر أمارات أخر تحقق ذلك مثل رؤية غيم متراكم وأصوات رعد وأرض الحجاز معروفة بكثرة الرعد والبرق وكثير من الحجاج يصممون على أنها أنوار ولو ظهرت الأمارات ولو كان من غير ناحية المدينة.
قال وقد سألت شيخنا أبا بكر السجستاني رضي الله عنه عن هذا فقال لي كنت
__________________
(1) في غير الرحلتين العياشية والناصرية طبجانة.
أتأمل ذلك كثيرا فلم أر شيئا مما يزعمه الحجاج إلا البرق نعم قال لنا رضي الله عنه وأرضاه الذي لا يمتري فيه انه نور النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة وإن كنت جميع الأنوار من نوره ما عايناه مرارا ونحن مجاورون بالمدينة المشرفة في الحرم الشريف فأنا نجلس أحيانا نهارا حتى يستفيض من ناحية الحجرة ما يخالف ضوء النهار فيغشي الحرم الشريف كله فيراه الناس.
قلت ولعل هذا الذي ذكر شيخنا رضي الله عنه أنه خاص أيضا به وبأمثاله ممن تنورت بصائرهم فاستنارت بها أبصارهم فيشاهدون الأنوار المعنوية محسوسة وإلا فكثير من الناس لا يشاهدون ذلك والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وفي آخر المضيق الذي بين الرمل والجبل عريش إلى الآن يزعم الناس انه موضع العريش الذي بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وإن ذلك موضع الواقعة وليس به.
ونزلنا بدرا بعيد المغرب وهي قرية حسنة ذات نخيل وماء عذب فيها بركة كبيرة تكفي الأركاب كلها ومادتها من عين هنالك وعلى ذلك البلد أنوار تلوح ، ورياح النصر تغدو وتروح ، وينشرح فيه الصدر والقلب ، ويتجلى فيه بصفة الجمال لكل مسلم الرب ، سبحانه وتعالى ، ومعالم النبوءة لا تخفى ، ومواطئ أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لا تعفى ، وقد ظهرت على أهل هذا البلد بركة الرسول صلى الله عليه وسلم معلنين بذلك فأسعارها في الغالب أرخص من غيرها مع صغرها وانقطاعها عن البلاد وأهلها محفوظون آمنون مطمئنون مع سوء أخلاق عرب صبح المجاورين لهم وكان نزولنا خارج البلد.
غريبة وزرنا قبور الشهداء وعليهم جدار قصير محيط بقبورهم.
قال الإمام أبو سالم وبالقرب منهم قبور السادات الأشراف الزيدنية (1) من أهل اليمن نزل أسلافهم بهذا البلد ولهم إتباع في طريق القوم ومجلس ذكر قال وكبيرهم اليوم السيد أبو الغيث وزرنا أيضا المسجد المسمى بمسجد الغمامة وهو موضع العريش يوم الوقعة ببدر كما نص عليه غير واحد وانشرحت صدورنا بذلك ووجدنا به المصري ونزل علينا الشامي سحرا وأخذ المصري ساعتئذ في الرحيل ، وحثوا ركابهم بالرسيم والذميل ، وظعنا نحن بعد صلاة الظهر ومررنا على قبور الشهداء وموضع العريش مع الأخ سيدي محمد الأخصاصي وجدناه هنالك ينتظرنا إذ هو مجاور بالمدينة المشرفة وقبور الشهداء أسفل الوادي من جهة البزوة وليس بالموضع الذي تزعمه العوام تحت الكثيب على طريق القادم من مصر.
قال البكري ثم سرنا من ينبع إلى الدهناء في فضاء ورمال ، وآكام وجبال ، حتى وصلنا إلى الأبرقين ، وهي كناية عن جبلين متفرقين ، احدهما رمل صاعد ، والأخر من وعر وجلامد ، وبينهما تدق الطبول الحربية ، لنصرة خير البرية ، فيسمعها من كان أهلا للسماع ، ويحجب أهل الزيغ والابتداع ، ثم دخلنا قرية بدر وحنين ، التي حماها الله من كل شين ، وبها جسر طويل ، وعيون تجري بين حدائق ونخيل ، وبها مسجد العريش وقيل مسجد النعام ، وموضع حوض المصطفى عليه الصلاة والسلام ، ومحل النصرة لجيوش الإسلام ، على أهل الأنصاب والأزلام ، وهي الغزوة العظيمة المقدار ، التي بها شاهت وجوه الكفار ، فيا لها من غزوة قاتلت فيها الملائكة ، وضاقت بها على أعداء الدين المسالك ، وأخزى الله أهل الشرك والغواية ، واستشهد من
__________________
(1) كذا في الرحلة الناصرية وفي ثلاث نسخ وفي نسخة الزيدية وهو الأصوب وفي الرحلة العياشية الردينية.
المسلمين من سبقت له العناية ، وخرج فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد ، وقتل فيها أبو جهل رأس أهل العناد ، فبلغت الشهداء من السعادة أوفر نصيب ، وقلبت أعداء الله في القليب ، ووجدوا ما وعدهم ربهم من العذاب الأليم ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، قال الشاعر :
يا
أهل بدر لقد طابت مئاثركم |
|
وقد
علا قدركم في أرفع الدرج |
فزتم
بغفران أوزار وحسن ثنا |
|
على
المدى نشره من أطيب الأرج |
يكفيكم
في علاكم قول مادحكم |
|
هم
أهل بدر فلا يخشون من حرج |
فيا لها من ليلة بت وقد أشرق بدرها ، وسما قدرها ، أذهبت عن العيون الهجوع ، لاشتغالها برؤية القناديل والشموع ، وأما الشموع فقد ملأت الأرجاء بالنور ، ومحت بضوئها ظلمة الديجور ، وقد دقت طبول الأفراح ، وزالت عن القلوب الأتراح ، وأحضر السكر الماد ، وأذيب في الماء للوراد ، ومليء به البواطي والحلل ، وسقي به جميع الطوائف وأهل العمل ، فشرب كل منهم أوفر نصيب ، فكانت ليلة من صفائها أقصر من جلسة الخطيب ، وقضينا الأوطار من مشاهدها المبتهجة ، وعدة المسير إليها ثمان ساعات واثنتا عشرة درجة ، انتهى كلام الشيخ البكري رضي الله عنه.
فسرنا نطوي المراحل ، وننضي الرواحل ، إلى أن رعت الغزالة نرجس الكواكب ، وصلى المكتوبة كل راجل وراكب ، إلى أن نزلنا بقاع.
البزوة والناس بقرب المزار في فرح ونشوة ، من رجال ونسوة ، وهو قاع لا يظفر غائصه بقاع ، ولا يرى المسافرون نظيرا له في البقاع ، ونزلنا بعيد المغرب ، ولا يرى من الناس إلا مضطرب ومطرب ، إلى أن تفجر ينبوع الفجر ، وقبض كل متهجد في مصلاه جائزة الأجر ، فشمرنا الذيل لقطع بسيط البزوة ، وكم فيه من غدوة وسروة ، فهو حقا قاع صفصف ، ومهمه نفنف ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، ولا تجد فيه إلا
السماء سمتا ، ولله در القائل :
قد سلكنا
القاع المديد الذي م |
|
أصحى
مضافا دون (1)
البقاع لبزوه |
فهو
قاع لا نبت فيه تراه |
|
عين
ساروكم لنا فيه سروه |
فأعاننا الله على قطع مسافته ، وكان لنا في طري مراحله وإتمام مفازته ، فسرنا وبلغنا أول سبيل ، وقلنا مستظلين بظله الظليل ، حتى وصلنا الركب فسرنا وبتنا غربي مستورة ، حيث تراءت لنا بخلوة مشهورة ، فرأينا هلال ذي الحجة ، أبين وأصفى من الحجة ، ليلة السبت ثاني عشر يناير من شهور العجم وهي قرية وبها بئر كبيرة مطوية بالحجر المنحوت إلا أن الرمل قد غلب عليها وحولها عمارة قليلة وبها قبر يزار عليه بناء واسم صاحبه الشيخ يحيى قالوا انه شريف من أهل اليمن.
ثم ارتحلنا من منزلنا ذلك وخلفناه ، ووالينا المصاحبة غيره فعزلناه ، فجد بنا السير ، وكادت المطايا من سرعتها تحكي الطير ، حتى أوصلتنا قرب الظهر رابغ ، وكم لها علينا من فضل شائع سابغ ، ووجدنا بها الأركاب المصري والشامي قد خيموا ، فإذا الشاميون على الرحيل قد صمموا ، فنقضوا أخبيتهم ، وعانقوا أرديتهم ، فارتحلوا ملبين ، وللسير مزمعين ، ووجدنا واديه قريب من العهد بالسيلان ، وجلسنا للصلاة في ظل النخيل والفسلان ، وجاء ركبنا فاخذ الناس منازلهم ، فالتحقنا بأصحابنا وأناخوا رواحهم.
ورابغ قرية فيها نخيل وآبار كثيرة في واد يأتي إليه السيل من بعيد تزرع فيه مفاثي كثيرة ودخن وذرة وهو من أخصب أودية الحجاز ثم اشتغل الناس بغسل ثيابهم والاغتسال ، والتنظيف وشراء النعال ، توجد هناك معدة للمحرمين إلا أنها في
__________________
(1) في الرحلة الناصرية بين.
الغالب غالية.
ولما حان للشمس أفول ، شمر الركب المصري الذيول ، فقام وأرتحل ، وعن رابغ انتقل ، وبتنا هنالك وفي غد تهيأنا للإحرام ، فاغتسلنا وأزلنا ما في أزالته فضل ورغبة من الشعث ، وألقينا التفث ، وأخرنا الإحرام ، فارتحلنا ضحى الأحد ثاني الشهر إلى أن وازينا (1) مهيعة ، وتراءت أبنية الجحفة ، اتحفنا هدايانا بأكمل تحفة ، فقلدنا وأشعرنا ، وجللنا وتجردنا ، فركعنا وأحرمنا ملبين ، بالحج مفردين ، وللفرض الكفائي ناوين ، وحافظنا على استحضار النية ، وواصلنا الإحرام بالتلبية ، واتبعنا فيها السنة السنية ، وتابعنا السير بها ضارخين ، غير مفرطين ، ولا مفرطين ، مستبشرين آمين ، مسرورين مطمئنين ، ولبث الناس في ثياب إحرامهم ، كأنهم نشروا من قبورهم بأكفانهم ، يزفون (2) ويهرعون للموقف.
وسرنا
كأموات لففنا جسومنا |
|
بأكفاننا
كل ذليل لمولاه |
لعل
يرى ذل العباد وكسرهم |
|
فيرحمهم
رب يرجون (3)
رحماه |
ينادونه
لبيك لبيك ذا العلى |
|
وسعديك
كل الشرك عنك نفيناه |
ولو
كنت يا هذا تشاهد حالهم |
|
لأبكاك
ذاك الحال في حال مرآة |
وجوههم
غبر وشعث رؤسهم |
|
فلا
رأس إلا للإله كشفناه |
لتزداد
روعا من خضوع لربنا |
|
وما
كان من درع المعاصي خلعناه |
وذاك
قليل في كثير ذنوبنا |
|
فقد
طالما رب العباد عصيناه |
إلى
زمزم زمت ركاب مطايانا |
|
ونحو
الصفا عيس الوفود صففناه |
__________________
(1) في نسخة ان رأينا.
(2) في نسخة يرفلون.
(3) في نسختين ويرجون.
نؤم
مقاما للخليل معظما |
|
إليه
استبقنا والركاب حثثناه |
ونحن
نلبي في صعود ومهبط |
|
كذا
حالنا في كل مرقى رقيناه |
فكم
نشز (1)
عال علته وفودنا |
|
وتعلو
لنا الأصوات حين علوناه |
نحج
لبيت حجه الرسل قبلنا |
|
لنشهد
نفعنا في الكتاب وعدناه |
دعانا
إليه الله عند بنائه |
|
فقلنا
له لبيك داع اجبناه |
أتيناك
لبيناك جئناك ربما |
|
إليك
هربنا والأنام تركناه |
ووجهك
نبغي أنت للقلب قبلة |
|
إذا
ما حججنا أنت بالحج رمناه |
فما
البيت ما الأركان ما الحجر ما الصفا |
|
وما
زمزم أنت الذي قد قصدناه |
وأنت
منانا أنت غاية سؤلنا |
|
وأنت
الذي دنيا وأخرى أردناه |
إليك
شددنا الرحل تخترق الفلا |
|
فكم
فدفد في السواد (2)
خرقناه |
كذلك
ما زلنا نحاول سيرنا |
|
نهارا
وليلا عيسنا ما أرحناه |
إلى
أن بدا أحدى المعالم من منى |
|
وهبت
نسيم للوصال (3)
نشقناه |
|
||
ونادى
بنا الحادي البشارة والهنآ |
|
فهذا
الحمى هذا تراه (4)
غشيناه |
وسرنا وجاوزنا الرمال ، التي تتيه فيه الأركاب كالجبال ، وأخذنا بطن هرشاء ونزلنا بعيد المغرب شرقي السيل وغربي قديد وهي قرية غالب أبنيتها حيشان وفيها قهاوي وفواكه تباع ولا ماء بها إلا ما يسقى من بعيد ثم ارتحلنا منه ومررنا وقد متع النهار بالمشلل ويسمى اليوم بعقبة السكر.
__________________
(1) في نسخة شرف.
(2) هكذا في الرحلة الناصرية وفي نسخة فكم فدفد صعب سواد وفي ثلاث نسخ فكم سدّ سدّ في السواد وهو أصوب.
(3) في نسخة وهبت لنا ريح الوصال وفي ثلاث نسخ وهبت ريحنها للوصال.
(4) في نسخة قتار وفي ثلاث نسخ أثاره.
قال الإمام أبو سالم وأكثر الناس خصوصا المصرية يجلبون السكر من مصر بالقصد ليشربوه هناك ويؤثرون في ذلك أثرا لا أصل له يزعمون أن رمل ذلك المحل انقلب للصحابة سكرا فشربوه وهي عقبة في جبل صغير فيها رمل يتعب الإبل [مع كثرة التلاحي وشدة التلاحم ، وإفراط التزاحم ، وعدم التعاطف والتراحم ، وفيها قيل :
كم
جمل منتصب للشقا |
|
ما
جره الجمّال إلا انكسر |
وكان
في الركب يرى مبتدا |
|
فما
له من بعد هذا خبر](1) |
وقد سوى البناء في جانبيها والتقطت أحجارها وبني مسجد صغير بأحد جانبيها وبينها وبين خليص نحو من ثلاثة أميال.
وذكر السيد السمهودي أن هناك بالمشلل مسجدا للنبي صلى الله عليه وسلم على يسار الذاهب إلى منى ولعله هو هذا المبنى هناك اليوم فقد دخلناه وزرناه وتبركنا بالآثار المضافة له صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وعظم فبلغنا الكديد قبل الظهر ونزلنا في قبة عظيمة بإزاء بركة عظيمة تحت القرية وفي خليص هذا عين تجري وأبنية وقهاوي وسوق حافلة وقد سيق الماء في قنوات محكمات من العين يفجر عنها (2) ويبرز في مواضع للسقي والوضوء إلى أن خرج الماء إلى البركة المذكورة وكانت عميقة يغرق فيها من لا يحسن العوم ويخرج الماء من البركة إلى مزارع قريبة من البلد رجل حرثهم الدخن ويكثرون من المقاثي وماء هذه العين أحلى وأعذب إلا أنه سخن ونمنا هنيئة ريثما يحين وقت الصلاة فتوضأنا وصلينا الظهر وتلاحق الركب وسقى الناس واستقوا وركعنا بمسجد هناك فوق البركة
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط من الرحلة العياشية.
(2) في نسختين يجري.
ينسب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقد تهدم وامتلأ أوساخا وصار إصطبلا للدواب فأنا لله وإنا إليه راجعون لقد ضعف الدين وقلت الرغبة في الخير حتى يكون بهذه المثابة المكان الذي دخله سيد الأولين والآخرين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم وصلى فيه وكان من حقه أن يذهب ويفضض وقد أشرت بذلك لأمير الحج المصري ووعد بإصلاحه والله يوفقنا وإياه.
وسرنا في غيضة كبيرة ذات أشجار ملتفة من أثل وغيره وفي خلالها فدادين يزرع فيها المقاثي والدخن وغير ذلك ونزلنا بين العشاءين في بسيط من أشجار برية من السيال وغيره ثم منه قبيل الفجر ومررنا بالثنية التي يهبط منها إلى عسفان أسفارا والطريق فيها مبنية ملتقطة أحجارها كعقبة السكر إلا أن هذه أطول منها وأسهل وبأحد جانبيها مسجد فلما خرجنا من العقبة وصلنا عسفان ضحى وفيها سوق وآبار من جملتها البئر التي يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم تفل فيها وماؤها حلو غياة وشربنا منه تبركا بآثاره صلى الله عليه وسلم واستفاض ذلك على ألسنة العوام ولم أقف عليه في شيء من التواريخ التي بأيدينا وعثرنا عليها والله اعلم بحقيقته وبه مسجد ولم أدر ما أصله فسرنا وقطعنا تلك المفاوز كلها من أرض تسمى ببرقة وهي أرض طيبة ذات مزارع ووادي العميان إلى أن أنخنا بمر الظهران بعد العشاء ويسمى وادي فاطمة ووادي الشريف ووجدنا به الشامي والمصري خيما وبفور نزولنا رحل الشامي وتعبه المصري آخر الليل وهو واد كبير فيه قرى متعددة ذات نخيل وبساتين وعيون تجري وأعظمها القرية التي ينزل بها الحاج وفيها سوق وعين كبيرة وبساتين مؤنقة ، وجدنا بها الثمار مزهوة ، فالقلوب بالنظر لنضارتها من الأحزان مجلوة ، مع ما غمرها من السرور بقرب الديار ، ومشاهدة الآثار ، ففرح الناس ، وتزايد الإيناس ، وأعبق عليهم بأرجه الأريج ، وعرفه المتكاثر البهيج ، شجر
الكادي (1) ، باستنشاق (2) الحاضر والبادي ، فغمر عبيقه كل نادي ، ولما بلغنا عام تعسة هذا الوادي ، قلنا بعريش هنالك وجرى ذكر الكادي في النادي ، وسألنا عنه صاحب العريش وأخبر أن شجره كشجر النخل وبعث من أتانا بشيء من أوراقه وإذا فيها رائحة طيبة جدا وأوراقه عريضة ، وأنواره وميضة ، فسبحان من يخص من يشاء بما شاء.
تكملة قال الإمام البكري رحمه الله تعالى في عد المراحل من بدر إلى هنا ما نصه ثم سرنا من بدر إلى قاع البزوة وتسمى طرق النجحان ، ثم إلى عالج وجبل القرود ومكان يسمى ودّان ، ثم نزلنا بسبيل محسن المشهور ، وتنزهنا في خضرة أعشابه وسرحه المعطور ، قال الشاعر :
قد
شكا لي بعض المحبين يوما |
|
ظمأ
الماء قلت ذا غير ممكن |
كيف
تشكو الظمأ وتجزع منه |
|
وبهذا
السبيل أحسن محسن |
ومدة المسير منه ثمان عشرة من الساعات ، وعشرون درجة محررة بالميقات ، ثم سرنا منها إلى بستان القاضي ، ونسينا بقرب الديار تعب السير الماضي ، ثم نزلنا برابغ محل الميقات ، وتجردنا عن لبس المخيط بصدق النيات ، وأحرمنا بالعمرة والحج ، عملا بقوله الحج العج والثج (3) ، وأهللنا بالتلبية لعلام الغيوب ، وسألنا الله تعالى غفران الذنوب ، ورأينا حفائ ماء تنبع ، ومزارع بطيخ يتنوع ، ومسجدا قديم الأثر ، ويسمى ذا الجحفة كما ورد في الخبر ، وهو محل إحرام المصطفى ، صلى الله عليه وسلم زاده الله شرفا ، قال الشاعر :
__________________
(1) كذا في الرحلة الناصرية وفي أربع نسخ اليكادي ولعله الفادي.
(2) في الرحلة الناصرية باشراق استنشاق والأصوب فاستنشق.
(3) في نهاية ابن الأثير أفضل الحج العد والثج وفي الرحلة العياشية الحج والعمرة والثج.
تجرت
لما أن وصلت لرابغ |
|
ولبيت
للمولى كما حصل الندا |
وقلت
إلهي عندك الفوز بالغنى |
|
وأني
فقير قد أتيت مجردا |
ومدة المسير إليها ست عشرة ساعة بالتمام ، وعشرة (1) من الدرج ثابتة الأحكام ، ثم سرنا إلى الجرينات ونزلنا بطارق قديد ، الذي لا يحل في حرمه للمحرم الصيد ، وإرجاؤه واسعة المجال ، كثيرة الوعر والرمال ، إلا أنها تبشر بقرب البلاد ، وهي مواطن الأمجاد ، قال الشاعر :
قد
نزلنا بطارق لقديد |
|
ودخلنا
حماك نرجو الحماية |
فتفضل
على عبيد وفود |
|
منك
يرجو دفع العنا والعناية |
ومدة المسير إليها سبع عشرة من الساعات ، محررة بالميقات ، ثم سرنا إلى عقبة السويق ، وهي عقبة عالية الرمال في الطريق ، ثم منها إلى خليص الشهيرة ، وبعها فسقية من الماء كبيرة ، يخرج منها إلى الديسة ، ويحترز فيها من اللصوص أصحاب النفوس الخسيسة ، ثم خرجنا من مدرج عثمان ، إلى قرية عسفان ، وبها البئر التي تفل فهيا سيد البشر ، صلى الله عليه وسلم وهي بئر من يشرب من مائها زال عنه الضرر ، قال الشاعر :
أن
عسفان تسامت رفعة |
|
وعلت
قدرا على كل القرى |
وبها
بئر النبي المصطفى |
|
خير
من صلى وصام وقرا |
فإذا
جئت لها كن محسنا |
|
فعسى
تحسب من أهل القرى |
ومدة المسيرة إليها زاي في العدد ، معلومة في العدد ، ثم سرنا منها إلى جبل العميان ، الذي تجتمع فيه الفقراء بقصد الإحسان ، ونزلنا بالوادي ، وهو نهاية سير
__________________
(1) هكذا في الرحة الناصرية وجميع النسخ وفي الرحلة العياشية عشرون.
البوادي ، وهو واد خصيب ، يرى فيه طالب النزاهة أوفر نصيب ، أغصانه زاهية ، قطوفها دانية ، وأطياره ناطقة ، وجداوله دافقة ، ومزارعه تنبت من كل زوج بهيج ، ويفوح من أزهارها كل عرف أريج ، وهي زائدة الابتهاج ، وعلى كل حديقة سياج ، فلو رآه مصري من الناس ، نمي الروضة والمقياس ، به عشش تسكنها عرب البوادي ، وبأرضه ينبت شجر الكادي ، قال الشاعر :
يا
حبذا واد فسيح الفضا |
|
أريجه
قد عطر النادي |
كم
فيه من باغية قد زكت |
|
وفيه
زهر الفل والكادي |
وكم
ثمار وزروع به |
|
والماء
فيه ينعش الصادي |
قلت
لخلي حين شاهدته |
|
ولاح
لي نور السنا بادي |
هل
دار ليلى (1)
قد تدانت لنا |
|
فقال
لي أنك بالوادي |
ووصوله خمس عشرة ساعة في السير ، وخمس من الدرج بالتحرير ، ثم سرنا إلى سبيل الجوخي المعروف ، ورأينا جنان مكة دانية القطوف ، ثم مررنا بمساجد ميمونة بالعمرة ، وقد اقترن لسماء سموها كوكب الثريا بالزهرة ، ولاحت لنا أعلام الديار ، ومشاهد المشاعر والآثار ، ووصلنا ثنية كدا ، وبعدها المعلى التي بها مشاهد أهل الهدى ، وكنا عند خروجنا من عدم الوصول خائفين ، حتى تلقتنا هواتف البشائر لتدخلن المسجد الحرام أن شاء الله آمنين ، فدخلنا من باب السلام ، وشاهدن البيت والمقام ، وطفنا طواف القدوم ، وذهبت عنا الهموم ، وجئنا إلى محل الصفا ، وسعينا في طلب الوفا ، ولما تم سعينا بالطواف ، وحفتنا من عناية الله الألطاف ، أقمنا بمكة بالإحرام ، إلى سابع ذي الحجة الحرام ، انتهى كلام البكري.
ولنرجع إلى تعداد مراحلنا ، وذكر منازلنا ، ولما اطمأن المنزل بنا بالوادي ،
__________________
(1) كذا في الرحلتين العياشية والناصرية وفي جميع النسخ هذه ليلى.
ولاحت لنا من أعلام القرب الهوادي ، رحلنا آخر الليل سحرا ، وما جعلنا سوى شد الحمولة وطرا ، فسرنا ونسمات الوصال تهب علينا ، وبشائر التلاقي تترادف إلينا ، وظفرنا بمسرة ما ظفر بها مسرور ، ولا طوى كشحه عليها مصرور ، وقلنا بالقلوب والقوالب ، الحمد لله الذي أدنانا وأنالنا المطالب ، وبلغنا جميع المئارب ، وبلغنا سرف (1) ضحى وبها قبر (2) أم المؤمنين ذات النقيبة الميمونة ، الهلالية السيدة ميمونة ، رضي الله عنها وأرضاها ، بمقاصير فراديس الجنان حباها ، توفيت بهذا الوادي ، وكان من غريب الأنفاق ، الذي ليس للأذهان إليه انسياق ، أن بهذا الوادي بنى بها سيدنا صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهما وكان تزوجها بمكة وهو محرم في عمرة القضاء وبنى بها بسرف في رجوعه وعلى قبرها بناء ، ومسجد فزرناها خارج البناء ، معظمين لرحمتها ، راجين حسن بركتها ، وزار من معنا من الحرم معظمات للحرم ، وركعنا في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم هنالك ، وتجاوزنا نفري المسالك ، إلى أن جئنا التنعيم وقد متع النهار حيث المسجد المنسوب للسيدة عائشة رضي الله عنها بني في المكان الذي أحرمت منه بالعمرة مع أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ومن ذلك المكان يحرم الناس بالعمرة في المواسم وغيرها وهو أدنى الحل حتى صار يطلق على المكان اسم العمرة تسمية للشيء باسم ما يقع فيه فنمنا هنالك واسترحنا ، وطبنا واطمأننا ، وقمنا وتوضأنا ، وفي مصلاه صلى الله عليه وسلم ركعنا ، فسرنا وتجاوزنا المكان المسمى بالزاهر ويسمى جنان مكة وبه آبار وبه قبر يذكر انه قبر الصحابي الشهير الإمام المشهور أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر رضي الله عنها.
قال الإمام أبو سالم فقد صح انه مات بمكة بعد الحج فقيل أنه دفن خارجها
__________________
(1) كذا في الرحلة الناصرية وفي نسخة قوصلنا إلى العمرة وفي ثلاث نسخ بياض.
(2) في الرحلة الناصرية قبة.
بوصية منه كراهية أن يدفن في البلد الذي هاجر منه فمن قائل أنه بهذا الوادي ومن قائل أنه بالوادي الذي بطرف المحصب وهو الذي شهره كثير من الناس إلا أنه ليس هناك قبر ينسب إليه قال وقد زرناه في هذا المكان بحسن النية وأكثر الناس اغتسل بهذا المكان لدخول مكة اقتداء بمن قال إن هذا هو ذو طوى الذي بات به صلى الله عليه وسلم واغتسل فيه واستحب أكثر العلماء الاغتسال فيه والتحقيق ما عليه كثير من المؤرخين أن ذا طوى أمام هذا وليس بينه وبين مكة واد آخر هو الوادي الذي وراء قيقعان وبأسفله الموضع المسمى بالشبيكة حيث الثنية السفى التي يخرج منها الحاج فأعلى هذا الوادي هو ذو أطوى وأسفله هو الشبيكة انتهى ونزلنا ذا طوى ظهر الأربعاء خامس ذي الحجة الخامس والعشرين من يناير وبتنا به في مسرة أعظم بها من مسرة ، لم تدع من العناء ذرة ، ويا لها من مبرة ، نولت كل قلب قرارا وكل عين قرة ، فلما صلينا الصح اغتسلنا غسلا خفيفا كما هي سنة المحرم لدخول مكة بذي طوى وبللنا بذلك غلة الجوى ، فارتحلنا آمّين أم القرى ، ودخلنا من باب المعلى ، وهو الثنية العليا التي دخل منها المصطفى سيد الآخرة والأولى ، عليه أفضل الصلاة والسلام وإنما هما وأعطرهما وأزكى وهي المسماة بكدا بالفتح وقد بالغت الولاة في حفر هذه الثنية وتنقيتها من الأحجار حتى صارت كأحد الأزقة ومع ذلك ففيها صعوبة ومنها يشرف على مقبرة مكة المسماة بالحجون وهي أحدى المقابر التي تضيء لأهل المساء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض كما ورد في الحديث.
انعطاف إلى ما كنا بصدده فلنرجع إلى تعداد مراحلنا من العقبة إلى مكة المشرفة ولما أن قربنا العقبة دخلناها بشرهة عظيمة ونزاهة كبيرة والحجاج قد شاك جمعيهم السلاح التام وقامت الصيحة والتنادي وارتفع حس البارود وصوت البنادق إلى أن دخلنا منزل العقبة فخيمنا فيه البيوت قرب الركب المصري إذ وجدناه هناك وأقمنا فيه ما كتب لنا في نشاط عظيم وتسوق قوي وفيها سوق لا يكاد أن يحصى ما فيها من
أنواع البز والثياب والأمتعة والأطعمة وأنواع الخير من كعك وخبز وأنواع الطبائخ بتابل وغيره من أبزار منوعة الأجناس ومفترقة الأصناف فناقص العقل إن دخل السوق كاد أن لا يرجع بدرهم عنده غير أن الله مكن العقول وأثبتها فلم تكترث بما هنالك لما غلب من شوق الحبيب ومحبته عليه الصلاة والسلام فلم تعتبر شيئا إلا الوصول إليه ومشاهدة أثره صلى الله عليه وسلم فخف عليها كل ما تشاهده من مشاق السفر ووعثه وكذا تغيب عما تشاهده من الملذوذات فطابت النفس بما قصدته وأرادته من التنقل في منازل القرب ومراتب الإشهاد ومقامات السعود والحضور والاستبداد بما فيه الغنيمة العظمى والفوز بحضرة العزيز الغفار لما به من الموبقات التي بها ل الإنسان يتعامى.
حاصله أننا أقمنا بها في عزة ومنع وسرور وجذل وفرح وهناء إذ أعظم شيء مذلة الأعراب الذين صدوا الحاج في العام الذي قبلنا وقد أصابه خزي وذل حتى إن الإنسان يأخذ بعض ما لهم فلا يستطيع أن يتكلم لما رأوا من شوكة الركب المغربي وقوته فجزاهم الله جزاء وفاقا لأنهم أخذوا ركب الحجاج الجزائري والطرابلسي بل أخذوا منهم كيت وكيت من الدراهم وبذلك خلوا سبيلهم ولو لا عطاؤهم ذلك وإقامة أمير مصر ما جاوزوا العقبة ولا مروا عليها بل فضل الله وجاه النبي صلى الله عليه وسلم انعطف عليهم وإلا لهلك كلهم أو جلهم فكل ما كان رحمة بهم فلما علم الحجاج أي ركبنا ما جاز عليهم أرعدوا وأبرقوا وترجوا واتعظوا فقاموا على ساق واحدة ورمية متحدة فما ملكت أنفسهم إلا القتال غير أن أعراب العقبة سكنت شوكتهم وطوي بساطهم وأنسد سبيلهم علما منهم أنهم لا يستطيعون مقاومة هذا الركب لا سيما وأن فيه أفاضل وصلحاء وعلماء فالحمد لله.
نعم أودع الناس في القصر ودائعهم وبضائعهم لوقت الرجوع فلما ظعن الركب
المصري وانفصل عن محله ظعنا في أثره بعد ملء سقايتنا فإن مياه العقبة بين بين إلا أن بعض الآبار فيه ماء عذب وهو بندر عظيم يكاد أن يكون في أسواقه مثل المدينة فيه يشبهها في الارتفاق به والاستعداد منه للزاد فترى الحاج كأنه جدد السفر لحصول الاستراحة فيه حسا فلا تعمل نفس ما فرق فيه من قرة أعين فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأبصار فلا ترى فيه عوجا ولا أمتا يوم نزولها يتبع الداعي ما كتب له من الملذوذ والبز المتنوع وكذا الفواكه فيه صنوان وغير صنوان تساق من غزة وأطرافها من نواحي الشام فيشتري منها القانع والمعتر كل على حسب قدره وقوة زاده وضعفه على أن أهل الأموال في نزهة وتنعم فتجد أحدهم يشرب ماء النيل إلى مكة المشرفة وبعضهم إلى الرجوع.
وقد ذهبت أنا والفاضل الأخ سيدي أحمد الطيب الزواوي إلى الكخية أعني خليفة الأمير لأمر يتعلق بأمر أصحابنا بل بالركب جميعه لأن شيخنا الولي الصالح ، والقطب الواضح ، سلطان العارفين ، وخاتمة المحققين ، شيخ المريدين ، الشيخ محمد الحفناوي بعث معنا مزبورة ليكون مع الحجاج فلما وصلنا إليه قام إلينا وعظمنا غاية التعظيم ومع ذلك هو في رفعة عظيمة ومرتبة منيفة ومعه عسكر عظيم لا يصل إليه الضعيف إلا بعد شدة كبيرة وانتظار قوي وأما نحن والحمد لله فبنفس سماعه بنا لقينا وأدخلنا محله الخاص به وذلك المحل الذي هو فيه يخطف الأبصار فلا يكاد الضعيف يطمئن به ويسكن في محله لاختلاف الألوان وكثرة الأواني المزخرفة فجلسنا عنده ساعة إلا والطعام حضر قرب الاصفرار فأتوا بالأطعمة المختلفة والطبائخ المتنوعة في الموائد المستحسنة لا يكاد أن يحصى ما عليها من الأواني فأجلسنا عليها وألح علينا في أكلها.
حاصله هذا الأمر في السفر فكيف هو في الحضر نعم فما عندنا إلا الصبر وطلب
عوضه في الآخرة وهذا وأننا ظعنا منه على خير وعافية ومنة وفضل من الله قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون.
ولما انفصلنا عن بندر العقبة ووقفنا على الحصن الذي فيه العسكر نعم الأعراب دائرة بالحصن على عادتهم من اجتماعهم مع كونهم بسلاحهم تأمين للسلاح ينتظرون فرصة أو غفلة من الحاج يأخذون ما بدا لهم خلسة ومكرا أو تتخلف بعض الرواحل فيأتون إليها ظاهرين قهرا ونحن والحمد لله سلمنا من ذلك كله إذ الركب معه هيبة عظيمة لا يستطيعون ذلك فتخلفنا على العادة من التخلف شفقة على ضعفاء الركب أنا وسيدي محمد الشريف الطرابلسي ومن معه من أصحابه وكذا سيدي أحمد الطيب قل أن ينفرد عنا وذلك من توافق الطبائع ونحن كذلك من المشي بالتدريج على شاطئ البحر في آخر الركب فما علمنا أحدا من العرب وراءنا علما منهم لا قوة لهم بنا خفية أو ظاهرا إلى أن وصلنا شاطئ البحر قرب الزوال قبل وصولنا إلى ظهر الحمار فتوضأنا وصلينا الظهر ثم ركبنا بغالنا فسرنا ساعة وإذا ببعض الإجمال لأصحاب سيدي محمد الشريف المذكور وقفت من شدة السير وكثرة الحمل فذهبنا ساعة معها ثم خلفناها وأشرفنا على ظهر الحمار وفيه نخل على شاطئ البحر ولا بأس به وفي وسطه آبار طيبة الماء عذبة من أحسن المياه فسقت الناس إبلهم وملأت سقاياتهم فلم ننزل بطرف النخل وإنما ينزل فيها الحاج بعد الرجوع ووجدنا ثمت آخر المصري بل جميع الركب لم يستقيموا على المشي وإنما ينتظرون استقامة الأقطار ورجوع كل إلى موضعه ثم صعدنا العقبة التي بعد الآبار وفيها طريقان كما سبق وهي صعبة الصعود غير أنها ليست طويلة جدا والحمد لله وإلا لهلك جلسه أو بعضه فلما صعدنا بعد الظهر في حر عظيم نزلنا في وسع كثير ورحث قوي فوق العقبة لما علمت أن المغربي يمشي في النهار بخلاف المصري فانه يمشي ليلا.
وهذه المرحلة قصيرة ومع قصرها أنها شديدة الحر والخوف من الأعراب موجود فان شوكتهم هناك قوية إذ طريقة ضيقة وقد تنزل الأعراب في زمان الثمرة فيه فلما مر أكثر الليل وإذا بالركب ارتحل ليلا فسرنا بعض الليل إلى طلوع الفجر [فسق من كان على الخيل والبغال لنستعد لصلاة الصبح حسبما هو العادة منا فلما طلع الفجر](1) وتنفس الصبح صليناه ثم ركبنا إلى وقت الضحى ونزلنا إلى صلاة الضحى كذلك كل يوم ثم سرنا كذلك إلى أن وصلنا إلى الشرف وقد ذكر وصفه الشيخ أعني سيدي أحمد بن ناصر.
ويسمى هذا المحل الآن أم العظام نزلناه عند وقت العصر ثم بتنا فيه على خير وعافية ثم ظعنا آخر الليل والحمد لله ولم تكن مرحلة أطول منها فإن الإبل أكثرها يموت في هذه المرحلة لطولها وشدة تعبها فظعنا منها على خير وعافية فسرنا كذلك إلى أن وصلنا إلى مغار شعيب بعد الظهر وفيها نخل عظيم وغيضة كبيرة وماء جار فلا يجري ماء إلا هنا وفي عيون القصب في جميع مراحل الدرب وقد تقدم أخبار مدين فيما سبيق وفيها بعض الخصب للدواب وللإبل نعم الحجاج يتأنسون في هذا المنزل كأنهم حصلت لهم راحة وسرور فان خاصة من توجه إلى بيت الله الحرام يشاهد أنوار النبوءة والرسالة في أرض الحجاز فيتيسر عليه حمل بعض الأثقال فإذا تجلى ربه على قلبه سبحانك مما حصل لي في الخيال من بعض التوهمات في التجلي نعم نودي في سره يا موسى المحبة أني اصطفيتك على الناس برسالتي أي الإلهام إذ لم ينقطع بالنبي صلى الله عليه وسلم وإنما انقطع به رسالة الوحي وقال رسالة الإلهام أيضا في سره وأني اصطفيتك على الناس بكلامي أي نداء الحق يا أيها الحبيب ويا أيها العبد فخذ ما أتيتك من التوجه إلى الله وكن من الشاكرين حيث أسعدك التوفيق
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
للتوجه للأماكن الشريفة دون من يساويك في البشريات فإن الأواني تتشرف بما فيها من سر الملك والملكوت ، ونسيم الجبروت ، وكذا بالمعاني قال الشاعر :
قلب
بذكر الله أضحى روضة |
|
وواحد
باللهو صار مزبله |
ما
منبت الورد كنبت غيره |
|
ولا
شذا المسك كريح البصله |
لو
سقي الحنظل شهدا دائما |
|
ما
أنبت الحنظل إلا حنظله |
وقال أيضا :
ومن
حضر السماع بغير قلب |
|
ولم
يتحرك فلا تلم المغني (1) |
قلت هذه المنزلة شذاؤها طيب وأنوارها بينة فالعارف تجده فيها منشرح الصدر طيب الوقت منبسط الظاهر والباطن لأن آثار المحبوب حاصلة فيه إلا من أصابه زكام محبة الدنيا فهو لا يشم شيئا من هذه العواطر الإلهية والروائح النبوية وذلك معلوم في الشاهد ثم ظعنا منها ليلا أيضا على ما أسلفناه إلى أن وصلنا عيون القصب وفيها ماء حار عذب قريب من البحر وهو كثير القصب وذكر وصفه شيخنا سيدي أحمد بن ناصر وكذا ذكر المسجد الذي يزار هناك فنزلنا به عن صلاة العصر ونزلنا على أكمل الخير وأتم العافية وارتحلنا أيضا ليلا ثم كذلك على ما علم منا (2) من جد السير على شاطئ البحر إلى بلوغ بندر المويلح وقد نزلنا عند الظهر والله اعلم وهو بندر عظيم كثير الأرزاق ثم أن أسواقه تامة وفيها ما لا يحصى من أنواع النبات والأطعمة المختلفة والملابس المزخرفة والطبائخ المنوعة وعلف الدواب كثير وفيه مرسى قوية النفع وأن هذا البندر أعظم بنادر الدرب نفعنا وأسرعها لقضاء الحاجة
__________________
(1) كذا في ثلاث نسخ وفي واحدة لا يلم وعلى كل حال ففي الشطر خلل من جهة الوزن ولعل الرواية ولم يطرب بدل ولم يتحرك.
(2) في نسخة لنا.
فلا تعلم نفس ما يوجد فيه من منافع الخاصة والعامة فلا حرج إلا في قلة الفلوس وضعف اليقين وعدم الصدق في التوجه مع الحق ومع الخلق فالذي زلزلت أرضه بالبهتان والكذب والخيانة وعدم الحياء من الله ومن الناس قل أن تصحبه السلامة في دينه ودنياه نعم هذا البندر فيه آبار كثيرة ومياه عظيمة مفترقة وفيه نخل كثير وبساتين متعددة وكذا زروع لا تحصى وهو حصن قوي عامر بالعسكر وبالبيوت الكثيرة والديار المتعددة.
حاصله قد سكن فيه من شاء (1) بنية الإقامة وإن الحاج يضع فيه أمتعته إلى الرجوع من الحج يتزودون به إلى مصر وقد وضع أصحابنا ما فضل عنهم من الزاد وما لا يحتاجون إليه من الأمتعة وكل ذلك بأجرة ثم أقمنا فيه ما كتب في أكمل حال وأتمه وما معنا إلا البركة والحمد لله على ذلك وقد ظهر فضل الله علينا وعلى أصحابنا وتمت عندنا النعمة فلله الحمد لله والمنة نعم انفصلنا عنه في عافية فسرنا على شاطئ البحر ثم سرنا كذلك إلى أن وصلنا إلى آبار السلطان وهو محل عظيم ينشرح فيه الصدر وتلتذ به الأعين وتنبسط إليه النفس فلا ترى أحدا إلا اطمأن قلبه به غير أنه كثير السراق من متلصصي الأعراب فينبغي للإنسان أن يحتاط فيه بمزيد الحذر غاية جهده وهذا المحل كان لا ماء فيه وإنما حفر آباره الأمير إبراهيم إذ هو الذي تسبب فيه وكمل ذلك أخوه بوصية أخيه المذكور كما تقدم في كلام شيخنا المذكور ويسمى هذا الموضع دار أم السلطان وماؤه عذب سخن سريع الانفصال كما سبق ثم ظعنا منه سائرين ومررنا بالمضيق الموسوم (2) بشق العجوز وسرنا عن يميننا وعن يسارنا جبال سلمى وكفافة ومررنا بقبر الشيخ مرزوق المتبرك به دائما وعليه أعواد دليل عليه فيزوره من يعرفه ثم كذلك فنزلنا ببندر الأزلم بين الظهر والعصر وفيه ثلاث
__________________
(1) في أربع نسخ قد ساكن فيه ما شابه أن يكون مدينة.
(2) في نسختين المرسوم.
آبار كبار محكمة البناء وماؤها غزير إلا أنه مر يصلح للإبل فقط ولضرورية الناس من غسل ونحوه ولا يسيغه إلا المضطرون وبتنا في ذلك المحل في أكمل حال ثم ظعنا منه وسرنا بين جبلين في مضائق وعقبات صغار إلى أن وصلنا إسطبل عنتر قرب العصر وفيه ثلاث آبار وماؤها حلو إلا أنها قليلة الماء يستقيه الناس للشرب غير أنه لا يكفيهم فلا تكاد الإبل تطمع فيه ثم ظعنا منه ومررنا بوادي الأراك وهو واد واسع كثير الأراك الأخضر الناعم وبعده مضائق بين جبال صعودا إلى أن وصلنا بندر الوجه عند العصر والله أعلم وفيه حصن حصين في حرف واد كبير بين جبلين كبيرين والناس نازلون أطرافه إذا كان ليس الوقت وقت سيول وإلا ارتفعوا عنه وفيه آبار والتي فوق البندر أحسن من التي تحته وفيه داخل البندر بئر ماؤها عذب طيب [وفي أعلى الوادي ماء بين جبلين يسمى الزعفران إلا أنه قليل الماء كما تقدم عن شيخنا وماؤه طيب](1) غاية ثم ارتحلنا من الوجه صبيحة ونزلنا الأكره بين المغرب والعشاء على حرف الآبار فسقى الناس إبلهم ودوابهم ثم إن ماءه لا يكاد أحد يسيغه لحرافته مرارته إلا بعض الآبار فأني قد وجدت فيه ماء يكاد أن يكون عذبا من جهة المشرق وهو بئر قريب من الغيضة في وسط الوادي.
وقد حكى لنا بعض الناس من الركب انه وجد بئرا ماؤها عذب طيب وذلك يستغرب في هذا الموضع وهذا المنزل أشد منازل الدرب وأصعبها مرارته مائه وكثرة حره وسخونة ربحه فيشتد ذلك على الحجاج حتى يهلك كثير منه بالعطش وأن ماءه خبيث أخبث شيء في هذه المراحل فترك مائه متعين لأنه مضر فلله الحمد على سلامتنا منه.
ثم ارتحلنا إلى أن وصلنا إلى الدركين قرب العصر وهو منزل الحاج المصري
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
وسمي بذلك بئر درك أعراب مصر وأعراب الحجاز فان ما بعده من أعمال الحجاز إذ تتغير بعد ذلك البلدان ويتضح أمر الحجاز وتباين الجبال ما بعدها لما قبلها ويشتد شبهها لجبال مكة لسوادها.
وفي هذا المحل غياض من شجر الطلح وهي من أنواع الكلأ الذي ترعاه الإبل كثيرا إلا أنه لا تترك للرعي لأن المحل مخوف تغير فيه الأعراب إلخ ما ذكرناه آنفا.
ثم ظعنا منه إلى أن نزلنا الحوراء عند العصر وتفرق الناس في مياهها وهي حفائر على ساحل البحر يحيط بها ديس كثير وفيها ملوحة قوية وقريب العهد بالحفر أجود من غيره وهو مكثر للإسهال لا سيما مع الإكثار منه وهو مفرط في علة البطن كماء الاكر والأزلم وعجرود ومن أمثال الحجاج لا رجال إلا رجال الحوراء ولا جمال إلا جمال الدورة أي الرجعة من مكة وفيه الآن آبار قد حدثت أحدثها بعض الناس وهي بعيدة عن ساحل البحر وماؤها أطيب من القديمة وأجود وعليها ينزل المصري في عصرنا هذا وكذا سائر الأركاب وقد علمنا عذوبة مائها أن لم يطل جدا وإلا خبث كالقديم.
ثم ظعنا منه آخر الليل فصلينا الصبح مع جماعة الفضلاء في الوادي المضيق ثم سرنا في تلك المضائق إلى الوادي المسمى الآن بوادي العقيق بل تسميته بوادي العقوق أولى لتلصص أعرابه وجرأتهم على الناس بالسرقة ثم سرنا كذلك إلى أن وصلنا إلى النبط بين الظهر والعصر فيه آبار أربع محكمة البناء بالحجر والصخر وماؤها عذب حلو طيب غزير لا ينقطع مدده.
وفي هذا المنزل تنشرح النفس وتمرح فيه لطيب مائه وحلاوة مكانه وطلاوة منظره وقربه من الأماكن الشريفة والمآثر كالينبع ونحوه ثم أرتحلنا منه أيضا ليلا أي
آخره ثم سرنا كذلك إلى أن دخلنا وادي النار وهذا الوادي قد وافق فيه الاسم المسمى إذ لا يخلو من شدة تقع للحاج فيه من عطش وموت ومرض وهو واد كبير قد انطبق عليه الجبلان من النبط إلى الخضيرة فلا ينفذ فيه الهواء غالبا لأن الهواء إذا تحرك بالرياح انطبق عليه الجبلان فينعكس الريح إلى ما وراء وتحدث الحرارة والسموم في الهواء فينشأ الهلاك منه ولا ماء هناك من النبط إلى الينبع فإذا قبح الهواء مع الحرارة مات من الناس ألوف مؤلفة في أسرع مدة فيأخذ الرجل الماء فلا يضعه من يده حتى يموت وقد صار ذلك في رجوعنا.
نعم اشتد بنا العطش أنا وجماعة من الفضلاء كثيرا قرب وصولنا إلى النبط وإذا بأعرابي أتانا بقربة ماء عذب وأظنه من ماء المطر بارد كأنه من ماء الثلج وسقى جمعينا لوجه الله العظيم ولو طلب الدراهم لأخذ منها كثيرا لقرب الموت والهلاك منا فاستغربنا حال الرجل وما صدر منه إلينا من غير طلب شيء ولو دعوة خير إذ عادة الأعراب لا يعطون شربة الماء إلا بفلوس كثيرة لا سيما عند العطش ونحن والحمد لله قد وقع بنا فضل عظيم وجود كريم.
ثم سرنا كذلك إلى أن وصلنا الخضيرة أوان العصر وهذا المنزل لا ماء فيه أصلا وبتنا فيه على أحسن حال وأتمه وارتحلنا منه آخر الليل ثم كذلك إلى أن صلينا الصبح وقطعنا الأمكنة المسماة بسبع وعرات فخرجنا إلى متسع من الأرض وبلغنا إلى ينبع النخل بين الظهر والعصر في حر شديد ووجدنا المصري نازلا هناك فنزلنا حذاءه الفلالي والجزائري والفزاني فلما خيمنا البيوت تفرقت الناس على المياه وشراء علف الدواب وما يحتاجونه من الزاد إذ سوقه عظيم ونخله كريم واستبشر الناس بوصولهم إلى هذا المحل لأنه أول بلاد الحجاز بالعمارة وفيها قرى كثيرة ومزارع ونخل وعيون جارية وهو انتهاء موضع وصله صلى الله عليه وسلم وفيه أخبار
المدينة ومكة وغيرهما والحاج إذا وصل هناك كأنه وصل إلى مكة.
وهذا المحل تزهي فيه النفوس وهو روضة من رياض الله تعالى تصلح للمنقطعين وللغرباء والمساكين وهي باب من أبواب الله تعالى يتيسر فيها الذهاب إلى المشرق والمغرب لأنها مرسى وفيها أسواق كثيرة فلا تكاد تنعدم فيها الخيرات ، وتقضي فيها جميع الحاجات ، وفيها غالب الحبوب والثمرات ، وكذا الخزبز أعني الدلاع وجميع الأقوات ، والمشتهات فأقمنا فيها ما شاء الله ثم ارتحلنا منه مع المصري قرب الزوال إلى قرب الاصفرار فنزل الركب المغربي ومعه أهلنا وأنا قد وقع لي غيظ من أجل ظلم الحجاج بعضهم بعضا فأقسمت بالله أني لا أبيت معهم فسرت مع الركب المصري راكبا على بغلتي مع بعض أصحابنا وهو الحاج يوسف إلى أن شرفنا على بدر بعد صلاة الصبح وعند طلوع الشمس هبطنا بين الكديتين من الرمل ثم مر بنا على الحجارة المجتمعة التي يظنونها اليوم أنها قبور الشهداء وليست هي وإنما قبور الشهداء ناحية القرية فوق منزل الركب وقد زرناها والحمد لله فلما نزل الركب المصري ذهبت أنا وصاحبي الحاج يوسف الشيباني إلى قرب القرية لنستظل بظل جدار المدشر فجلسنا هناك ننتظر الركب المغربي إلى أن وصل ونزل أعلى الركب المصري قرب الجبل وبينما أنا كذلك وإذا بأخينا في الله سيدي محمد المحفوظي قد رآني عند السقائف التي تشرب فيها القهوة فأخذ بيدي وذهب بي إلى شيالة المصري ودخلت خيمته ففرح بي فرحا شديدا فقام فجعل لنا الغداء وتكرم علينا غاية وأخذت في القيلولة عندهم وكل ذلك أنا والحاج يوسف المذكور إلى أن صلينا الظهر وزال حر النهر فذهبنا إلى أصحابنا وأهلنا فنزلنا ذلك اليوم وأقمنا الذي بعده وزرنا فيه قبور الشهداء ضحى فاجتهدنا في الدعاء عندها إلى أن حصل لنا وجد عظيم تكاد النفس تزهق من شدة ما تجلى لها من الأنوار التي هي حاصلة منه صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه الذين قاتلوا هناك رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقد قيل أن صوت الطبل الذي وقع به النصر للنبي صلى الله عليه وسلم يضرب هنا ويسمعه من خصه الله بتلك المزية العظمى وقد سمعته في الحجة الأولى وفي الثانية وهذه على شك إلا أن بعضهم يقول هو حوافر الدواب تضرب بأرجلها فتسمع كالطبل وقال بعضهم الريح تهب وتلتقى مع بعض الأجرام الخاوية فيردها حائط الجرم فيسمع صوتها كالطبل وهذا من التأويل المرجوح استبعادا لأن يبقى صوت الطبل إلا الآن إعجازا لقدة الإله بل ذلك سائغ وواقع غير مستبعد وهو من معجزاته صلى الله عليه وسلم الباقية إلى الآن غير أن بعض الأكابر الثقات اعترفوا بها وصدقوا بذلك يقينا وبعضهم يقول إنما هو تخيل بعضهم ينكر أصله ويقول بنفيه بل الحق الذي اجتمع عليه أهل الخير قاطبة وأنه واقع قد سمعه خاصة كل ركب بل كاد أن يكون أجماعيا.
نعم قد سمعت ممن يوثق به أنه سمعه الناس في غير أبان الحج فلم يبق إلا تسليمه أو التصديق به.
نعم الذي يحتاط بنفي ذلك عن نفسه لا أنه يقول لا أصل له أو يؤول أن طبل الناس من المصري يتأخر في الطريق فيسمع صوته فيظن الناس أنه طبل القدرة ولو كان الأمر كذلك ما وجد صوته إلا يوم دخول الركب البندر وقد سمعناه يوم الإقامة بعده.
نعم الصوت شاهدناه في ذلك المحل قطعا كما شاهدنا الأنوار تبرق جهة المدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وإن قال بعضهم أنها أبراق تلمع لأن الحجاز تكثر فيها الرعود والإبراق غير أنه وان احتمل ذلك فالحق أن البرق والنور متباينان فلا يلتبس أحدهما بالآخر أصلا وفوق كل ذي علم عليم.
وبدر هذه قرية عظيمة حلوة طيبة روضة من رياض البلدان من رآها يتمتع بنظرها ويشاهد فيها أنوار الجلال ، ولوائح الجمال ، كأنه صلى الله عليه وسلم مستقر فيها لم يغب فصورته صلى الله عليه وسلم وصور أصحابه هناك تشاهد لدى المحبين فتنبسط النفس هنالك أتم انبساط فهي تمرح في تلك الرياض ، وتتردد في تلك الحياض ، فما زالت قائمة على أصول التجليات ، والمشاهدات ، لأثار النبوءة فتجد العارف بالله منشرح الصدر ، مستنير السريرة ، منور البصيرة ، عالي الهمة ، قوي المحبة ، تعلوه أنوار ، وتنفتح له أسرار ، وتنكشف له أمور فينسى كل قريب له ، ومحب لديه ، بما شاهد فكأنه عروس فبدر من أعياد العارفين ، ومواسم المقربين ، في ضيافة حبيبه صلى الله عليه وسلم ونزول في مقعد صدق عند مليك مقتدر يطمئن قلبه بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكيف لا وهو محل النصر من الله وأن ملائكته قد قابلت أعداء الله هنالك فلا تعلم نفس ما حصل لمحبيه صلى الله عليه وسلم.
وأن هذه القرية قد توطنها الأشراف ونزلوا بها من قديم الزمان وفيها أهل السنة وكذا الزيدية (1) أعني الخوارج الظاهرية وهم في الاعتقاد قدرية وفيها نخل كثير وبساتين وماؤها طيب حلو عذب وفيه أيضا بركة تكفي الأمصار العظيمة فضلا عن الأركاب وهي مستمدة من عين هناك وفي بدر توقد النيران الكثيرة والنزهة القوية وهي أزيد من كل بندر بشيء كثير ثم انفصلنا عن هذا المحل على خير وعافية ومنة وفضل عظيم بعد انفصال المصري عند الظهر ومررنا بواد ثم كذلك إلى وقت العصر فصلينا العصر بعد خروج ذلك الوادي فسرنا في أرض متسعة واسعة سهلة طيبة غير أن الهواء تقوى علينا ثم كذلك إلى بعد العشاء فنزلنا والبعض خيم
__________________
(1) في ثلاث نسخ الزيود.
البيوت والبعض إلى أن طلع الفجر وتنفس الصبح ارتحلنا في فرح وسرور ونشاط كبير فرحا بقرب الوصول والوصال ، إلى الأماكن الشريفة وحضرة الاتصال.
نعم تقوى علينا شذاء القرب من الرب الكريم فتشنفت الأحوال والنعوت ، فربحت تجارة الحاج بمجاورة اللهوت ، ثم كذلك إلى أن وصلنا قاع البزوة وهي محل نزول الركب عند الزوال فوجدنا المصري إذا راحلا وقد أدركنا آخره فلم ينزل ركبنا هناك بل جاوزنا سائرين آخر المصري ذاهبين معه إلى وقت المغرب فنزلا وبتنا والحمد لله في عافية وسرور بقربنا مكان الإحرام والمصري سائر على حاله إلى قرب طلوع الفجر فارتحلنا منه آخر الليل ثم كذلك مجدين السير إلى منزل يقال له مستورة وهي بلدة طيبة ووصفها كما ذكره شيخنا سيدي أحمد بن ناصر.
ثم ارتحلنا منها أيضا فجد بنا السير ليلا وسرنا في الليل إلى وقت الضحى فقربنا منزل رابغ نعم دخلنا وادي رابغ من جهة المغرب عند قوة حر النهار قرب الزوال [فدخلنا رابغ ووجدنا المصري قد خيم فيه ونزلنا فوقه قبل الزوال](1) وبعض الركب يستظل بالنخل والبعض بالبيوت إلى أن حان وقت الظهر فصلينا الظهر ثم أقمنا نستعد لأحوال الإحرام ، وكثير من الركب لا يعرف أحكام الإحرام ، فصار جميعنا معشر الطلبة نعلمهم فرائض الإحرام ، وسننه وشرائطه وموانعه والناس كلهم ذكور وإناث في غسل واغتسال ، وغسل ثيات وموانع الإحرام في انتقال ، حتى قرب وقت العصر فآن إحرام الكل فشمرنا عن ساعد الجد ، ليتأهب جميعنا لما فيه الكمال بالكد ، ورمينا ما كنا بصدده من مجاورة الضد ، ونبذنا ما كنا عليه من مجاوزة الحد ، بل طوينا مسافة الإعراض ، ومتابعة الدنيا وما فيها من الأغراض ، وسعينا لما فيه رضاه ، وفعلنا ما أمرنا به وارتضاه ، وأزلنا ثياب الحياة ، ولبسنا ثياب الممات ،
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
وحنطناها كالكفن ، وأيقظنا العيون والجفن ، وقصدنا بالإحرام الانسلاخ ، من طبائع الاجباح التي هي كالسباخ ، فوجهنا النفوس لعلام الغيوب ، وما مسنا في ذلك من لغوب ، ولبسنا الأزرار والردا ، وتركنا ما طغى منا واعتدى ، وأزلنا أيضا المخيط والمحيط ، ليتسع الوارد علينا وينبسط ، ويتحلى كلنا بالرضى وما به الإنسان يغتبط ، فالحج قصد للمولى ، وارتباط وترق لمراتب العلى ، بعد غسل القلب من الأدران ، ويطلب حينئذ المحرم غاية الغفران ، ويتهيأ للوصول إلى ما به الامتنان ، سمعا وطاعة لما فيه رضى الرحمان ، فصلى المحرم ركعتين ، على نوعي الكونين ، فبالتكبير لم يبق فيه قلبه أحد الثقلين ، فلما استوي قائما في حضرته ، قال لبيك اللهم لبيك وسعديك في فضله ورحمته ، فقال له الرب جل جلاله تفضل عليك الإله بمنته ، ثم تجلى بما هو أعلى فتدلى له ربه وهو في منصته ، فكان أقرب إليه ، من ريقه في فيه ، قربا من سطوته ، فصار محرما بإحرام البشر ، وهو في الحقيقة غيب نفسه عما لا يعتبر ، وعن الأكوان بمشاهدة المكون ولكنه الذات يعتمر ، فأناخ نفسه ليحمل عليها أعباء التكليف ، ويشد عليها أحمال الحقيقة مع الهودج من التعريف ، فجمع بين الذكر والتذكر ، والسعي والتفكر ، والمعرفة والشكر ، متوجها لبيت الله الحرام ، بالشوق والعشق وقوة الغرام ، فركب مركوب العز والتقوى ، ونال من الله الفوز والقرب والغاية القصوى ، حينئذ قد زالت بشريته ، وانبسطت عليه روحانيته ، فإذا نطق نطق به ، فيه يسمع ويبصر به ، هذا هو الإحرام على التحقيق ، وصاحبه معزول عن التعويق.
نعم هذا صاحب الإصابة والسعد والتوفيق وهذا رابغ ، مشتهر وسائغ ، ورضة العز والدنو والقرب ، وفيه المشاهدة والمجاهدة والحرب ، والإغاثة من كل شدة وكرب.
هذا وانه قرية عظيمة كثيرة المزارع والمقاثي والنخل والمياه وسوقها عظيمة
وفيها النعال الكثيرة مستعدة للبيع قبل أوانه ، مدخرة لزمانه ، غير أنها غالة الأثمان ، وبعد امتثال الناس أوامر الرحمان ، انفصلنا في غاية المنة والفضل والشكر لله تعالى لما وصلنا إلى ميقات الإحرام فلم يعقنا عائق ، ولا أرهقنا شيء مانع غير لائق ، فانفصل الكل بالتلبية والإحرام ، مع الخضوع والخشوع والدعاء لجميع الأنام ، بالتقشف والتذلل للرب الكريم شعثا غبرا منكثين الرءوس ، فرارا من غضب الله والمقت والباس والبوس ، يطلب جميعنا رحمة المنان ، والمغفرة والعفو من الرحمان ، قد أصابنا شدة الحر ، حتى انسلخ الجلد عن الرأس والظهر ، فما أرعوى أحد بذلك ، ولا رجع وانزجر بما هنالك ، لعل الله أن ينظر إلينا بعين الرحمة ، ويغمس جميعنا في بحر النعمة ، حشاه من كريم أن لا يمن على وفده بجنة الرضوان بذهابه وعوده ووقت انفصالنا عنه بعد صلاة العصر بمدة بل قبل الاصفرار سائرين فصلينا المغرب ثم كذلك إلى أن صلينا العشاء كذلك ساعة طويلة نزلنا فبتنا خير مبيت وأقمنا ليلا فارتحلنا في مدة من الليل ننتظر الصبح إلى أن صليناه ثم كذلك وكان ذلك اليوم يوم حر شديد بحيث لا يقدر الإنسان أن يقف للشمس حتى أصاب الحر كثيرا من الناس فحملهم ذلك على أن غطوا رؤوسهم لأن الدين يسير ولن يشادّ أحد هذا الدين إلا غلبه والله تعالى يقول : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) إلا جماعة الأفاضل فلم يغط أحد رأسه وهو الفاضل سيدي احمد الطيب ومثله سيدي أحمد بن حمود وسيد محمد الشريف الطرابلسي والفقيه سيدي أحمد عياض وسيدي محمد بن خثوش (1) رحمه الله وأصحاب الجميع كالأشراف منا وكذا أهل وطننا فلو غطينا رءوسنا ما بقي أحد إلا غطى رأسه وأما أمير الركب فقد غطى رآه وكذا جميع من كان معه من كبار الركب وبالجملة فلما اشتد الحر علينا غطى جل الناس رؤؤسهم لقيام العذر بل كاد أن يكون ما فعلناه من عدم التغطية أن يكون منهيا عنه نعم ثم سرنا كذلك في تلك
__________________
(1) كذا في نسخة وفي أخرى يخشوش وفي نسختين بوخثوش.
الرمال أول النهار غير أن فيها حرا عظيما من طلوع الشمس إلى غروبها إلى أن نزلنا قديد وهي قرية غالب أبنيتها حيشان وقهاوي وفواكه تباع ولا ماء فهيا إلا ما يسقى من بعيد نزلنا عند الظهر وما خرجنا من تلك الرمال القوية الواسعة التي تتيه فيه الأركاب بعض الأحيان إلا بمشقة عظيمة.
وقد بتنا في قديد ثم ارتحلنا منه آخر الليل سائرين إلى طلوع الفجر فصلينا الصبح في جماعة ثم ركبنا وسرنا كذلك إلى عقبة السكر فصعدناها وهي صعبة على الجمال والرجال لا سيما من صعدها في زمان الحر غير أن من علم قرب الوصول إلى مكة المشرفة هان عليه أمر ذلك وسهل عليه حالها وأشرفنا على الكدية التي بها البناء المعلوم وفيها أبنية كثيرة نعم من وصل هناك شم رائحة الجوار واستراح من التعب بل الإنسان يغيب عن حسه إذا وصل إلى ذلك الموضع ويتقوى عليه شذاء تلك الأماكن العالية والمواضع الطيبة فلا تجد أحدا إلا انبسط وجهه وانشرح صدره وتمكن قلبه واطمأن بالله صدره وطابت بذلك نفسه وبتجلي البيت انخشع (1) قلبه وتتزاحم الأركاب وتتلاحم حتى لا ينعطف بعضهم على بعض رحم الله الجميع بمنه وكرمه.
وقد زرنا ذلك المح وقد قيل فيه مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم ولما هبطنا تلك العقبة سرنا في طريق ذات أحجار كثيرة وأوعار صعبة بينها وبين خليص ثلاثة أميال فسرنا غير بعيد إلى أن دخلنا على خليص وفيه عين جارية قوية ساقيتها مبنية محكمة البناء لا تجد أعظم منها بناء وفيها بركة عظيمة عميقة يعطب فيها من لا يحس السباح لعظمها ومنها تجري ساقية إلى أرض الحراثة وفيها مزارع ومقاثي وبساتين وأكثرها الدخن وفيها قرية حلوة طيبة لا يكاد الإنسان يحزن فيها بل داخلها منبسط
__________________
(1) كذا في نسخة وفي ثلاث نسخ ويتجلى البيت انخشع وفي أخرى يخشع.
على الدوام إذ يغلب آثاره صلى الله عليه وسلم فيها ويتقوى شهوده بتحقيق النظر فيها ما أعذبها من قرية وما أحلاها من منزلة وأسعده من موضع كأنه صلى الله عليه وسلم خيم هناك فترى الأنوار ساطعة واللوائح مشرقة ، ولوامع النبوءة منبلجة ، وسر الكائنات صلى الله عليه وسلم يلاقينا بالرحب والتكرمة والتحية الطيبة والأوصاف السنية صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم فقد زال الحجاب عن الخاصة من خلقه فشاهده محسوسا طالعا في فلك الأقبال ، وأزهى نوره في عوالم الوصال ، تغدر الحجاج خماصا وتورح بطانا بالتمتع بالنعيم الشريف ، الذي لا يكيف ، فلا يدرك إلا بذوق مثله وفي خليص تتنعم النفس برؤية من الكمال التام والشفاعة الكبرى صلى الله عليه وسلم وحينئذ ترى الوجوه تتلألأ نورا إذا هب عليها نسيم الوصل فيتعطر شذاء قرب المنزل فتكون النفس شائقة خافقة فيردها قفص البدن فيعصهما اللطيف القوي فيحنئذ ننظر الوعد الرباني ، والفتح الصمداني ، ساعئتذ أن لم يصبها وابل فطل.
وقد نزلنا خليص عند الضحى الأعلى إلى وقت الظهر فصلينا فيه جماعة وبين الظهر والعصر انفصلنا من خليص وارتحلنا منه إلى أن حان وقت العصر فصلينا جماعة ثم كذلك إلى قرب المغرب أشرفنا على العقبة التي يصعد منها إلى الثنية التي يهبط منها إلى عسفان عند المغرب والطريق فيها مبنية ملتقطا أحجارها كعقبة السكر إلا أن هذه أطول منها وأسهل وبأحد جانبيها مسجد.
فلما خرجنا العقبة وصلنا عسفان ومررنا كذلك عند العشاء سائرين غاية الناس أن بعضهم شرب من ماء عسفان تبركا بآثاره صلى الله عليه وسلم إذ قد قيل أن ماء بئرها كان مرا فتفل فيه صلى الله عليه وسلم فصار حلوا طيبا وماؤها عذب كماء خليص وان كان سخنا وهذه البئر التي تفل فيها صلى الله عليه وسلم سمعنا بها قبل
وليس ذلك من ألسنة العوام فقط كما قال شيخنا سيدي أحمد بن ناصر بل سمعناه من أهل العلم بل من كتب التاريخ نقلناه وفي خليص مسجد ولا أدري أنه للنبي صلى الله عليه وسلم أو لا وسرنا ليلا وقطعنا تلك المفاوز بل لم انفصلنا عن خليص في ليلة مقمرة بعد صلاة العشاء بأمد سمعنا النساء يصرخن ولهن صوت التولول كان عروسا تزف لزوجها وصوت البنادق والبارود وغير ذلك من أصوات الناس [التي تدل على الفرح فلما سألنا عن السبب قالوا نوره صلى الله عليه وسلم هو الذي يلوح ويلمع](1) فلما نظرنا أبصرنا نورا يلمع ويلوح جهة اليسار نحو المدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام يلمع كالبرق وهو يخفض غير انه ليس كالبرق لأن له لونا يخالف سائر الألوان كأنه حديث عهد من ربنا طريء (2) النزول ، ليتم سرور الحاج ويستبشر بالقبول ، ويترقب كرامة النزول ، فلا أقل أنه من كرامة الحاج وان احتمل أن يكون من البرق لكثرة رعود أرض الحجاز نعم الرعد بين وعلامته ظاهرة وأثاره سحاب وتغير في الهواء بالتحرك وان لم يكن معه مطر.
وأما ما وقع هذه الليلة فلا رعد ولا ريح ولا حركة ولا تغير في الهواء بل ولا سحاب أصلا ولا غيم بل السماء صاحية وليس فيها شيء من السحاب أصلا وإنما هو النور الذي تواتر نقله عن الحجاج قديما وحديثا لا مجال لجحوده فهو من فضل الله الذي يجب الإقرار به إذ ليس خاصا بأحد حتى يقع للإنسان فيه شك أو طروق احتمال خوفا من الاستدراج أو تمكن به النفس الأمّارة وقد اتفقت كلمة الناس من القرون الماضية والعلماء السالفة والصلحاء الخالية والأولياء السابقة والعامة والخاصة أنهم يرونه وأنهم يعرفون حال البرق فلم يحصل لهم شك أنه ليس هو بل أطبقوا على أنه نوره صلى الله عليه وسلم فمن طرّق الاحتمال فيه فقد طرق الاحتمال
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(2) في نسخة طوري.
فيما لا يخفى انه نور لأن البرق لا يلازم جهة المدينة المشرفة وإنما يختلف بحسب الجهات وهذا لا يرى إلا من جهة طيبة كما شاهدنا في غير هذه الحجة وهذا معلوم عند الحاج سابقا ولا حقا فلا يخفى أمره والله اعلم.
انعطاف إلى ما كنا بصدده ثم أعلم لما سرنا كذلك إلى مغيب القمر نزلنا وبتنا مفترقين وأننا تهنا أعني الركب شيئا قليلا عن الطريق غير أننا سبقنا أول الركب فلما قرب طلوع الفجر أرتحلنا وسرنا إلى أن صلينا الصبح في جماعة فقطعنا المفاوز وبعد الضحى الأعلى دخلنا الشجر القريب من الجبل المشرف على وادي فاطمة يسمى جبل العميان الذي يجتمع فيه الفقراء لقاصد الإحسان نزلنا بالوادي وهو نهاية سير البوادي عند الزوال بل قبله بقليل نعم الحر في ذلك النهار قوي عظيم كأن النار اضطرمت في الأرض واشتعلت فيها بحيث لا يستطيع أحد أن يصل إلى الماء وإلى السوق فلما تحرك نسيم الرواح ، [واستبشرت الناس بالأرواح ، أذهب علينا ريح التلاقي بالغدو والرواح](1) ، لم يبق لنا نص ولا تعب لما ذاقته الأرواح ، من لطائف الوصل بالمحبوب ، وقرب مشاهدة جوار (2) علام الغيوب ، لا خير في أوقات الحياة سوى وقت رؤية آثار المحبوب ، فتزاحمت الواردات الإلهية على القلوب ، فزال السدد عن أقفالها من غطاء الحجب ، فلا يسمع المحب حسبيسن اعتراض النفس ، وفي ذلك الوادي ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين لا سيما فتوحات الجبار ، ترد هناك على الإنسان من غير اختيار ، فليس على مثله للإنسان اصبطار ، أن رحمة الله قريب من المحسنين بلا افتخار ، وفي هذا الوادي مياه كثيرة ، وعيون جارية ، وبساتين مشهورة ، ومزارع قوية وفواكه مختلفة ، نعم بقينا هناك إلى أن حان وقت العصر فصليناه جماعة ثم تأهبنا للرحيل فلما حان وقت العشاء ارتحلنا من الوادي بفرح وسرور بالوصول
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(2) في نسخة بيت.
إلى بيت الله الحرام ، وكل ما أصابنا من تعب ونصب كطيف المنام ، فلما حصل المطلوب ، وبلغنا غاية المأمول والمرغوب ، استبشرنا برسوم الحرم وزوال الكروب ، بفضل الله قرب النائي والصعب ، إذ لو لا ذلك ما تيسر بالكد والحرب.
ثم سرنا كذلك بنية الخشوع (1) والإنابة ، والخشية والخضوع والمهابة ، إلى طلوع الفجر وصلينا الصبح جماعة ثم ركبنا وسرنا إلى أن وصلنا قبر السيدة ميمونة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وقد تزوجها في هذا الوادي كما سبق فزرناه بنية خالصة من غير دخول للروضة إذ أدب من يزور نساءه صلى الله عليه وسلم لا يدخل محل البناء بل يزورهن من خارج كأنهن حال حايتهن رضي الله عنهن وعلى قبرها بناء ومسجد فعظمناها من خارج وفي ذلك مصلى للنبي صلى الله عليه وسلم فمن وفق يركع فيه.
ثم سرنا كذلك إلى أن وصلنا إلى التنعيم صبيحة قبل الشروق وفيه مسجد لعائشة رضي الله عنها كما سبق ذكره وفي ذلك المكان يحرم الناس بالعمرة في المواسم وغيرها ثم سمي هذا المكان [باسم ما يقع فيه توسعا ومجازا (2) وهو أدنى الحل فيطلق عليه اسم العمرة لأن المحرم بالحج أو العمرة لابد أن يحرم من الحل وأدنى الحل هذا المكان](3) ثم سرنا فوصلنا إلى الزاهر وقد قيل انه ذو طوى فيغتسل فيه استجابا داخل مكة والحق إن ذا طوى هو القريب لمكة وليس بينه وبين مكة واد آخر وهو الوادي الذي وراء قعيقعان وبأسفله الموضع المسمى بالشبكة حيث الثنية السفلى الذي يخرج منه الحاج فأعلى الوادي هو ذو طوى فزرنا التنعيم ثم سرنا إلى أن وصلنا
__________________
(1) في ثلاث نسخ بإسقاط بنية الخشوع وفي واحدة كذلك بالإنابة.
(2) في ثلاث نسخ تمجزا.
(3) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
ذا طوى وقت الضحى فقرّت (1) الناس على الاغتسال من غير نزول فخيم بعض الناس الخيام للستر في الغسل فخيمنا خيمة لا فاغتسلنا نحن والأصحاب غسلا من غير دلك خشية قتل بعض الدواب حسبما هو غسل المحرم فلما اغتسلنا ركعنا ركعتين للضحى ووظيفة الطهارة لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني ومن أحدث وتوضأ ولم يركع فقد جفاني ومن أحدث وتوضأ وركع ولم يدع فقد جفاني ومن أحدث وتوضأ وركع ودعا ولم أجبه فقد جفيته وأنا لست برب جاف فرك كل منا ركعتين من وظائف الوضوء ومنهم من صلى الضحى أعني الذي يلازمها فلما حصل كل فضيلة ذي طوى قام الركب على ساق الجد والحزم لدخول مكة المشرفة فركب من ركب ومشى من مسى فاستقبلنا جبل قيقعان وصعدنا إلى الثنية قاصدين أم القرى أعني مكة ودخلنا من باب المعلى.
وهي الثنية العليا التي دخل منها صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين عليه أفضل الصلاة والسلام وإنماها وأعطرها وأزكى هي المسماة بكداء فتح الكاف.
وقد بالغ الولاة في حفر هذه الثنية وتنقيتها من الأحجار حتى صارت كأحد الأزقة ومع ذلك ففيها صعوبة ومنها يشرف الإنسان على مقبرة مكة المسماة بالحجون وهي إحدى المقابر التي تضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض كما ورد في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام.
__________________
(1) في ثلاث نسخ فتقرت.